على ساحل ابن تيمية!

عبداللطيف بن عبدالله التويجري

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/جنازة ابن تيمية رحمه الله 2/رشده في العلم منذ الصغر 3/من أخلاقه مع: خصومه وطلابه ووالدته 4/توجيه لخصومه من العدل اقروا له لا عليه 5/سعة علم ابن تيمية رضي الله

اقتباس

أيها الفضلاء! إنَّ الحديثَ عن العلماءِ وأخبارِهم؛ مفيدٌ للنفس، رافعٌ للهمة، مؤثرٌ في القلب، ولقد قال الإمامُ أبو حنيفة قديمًا: "الحكاياتُ عن العلماءِ ومجالستِهم أحبُّ إليَّ منْ كثيرٍ من الفقهْ؛ لأنها آدابُ القومِ وأخلاقُهم".

الخطبة الأولى:

 

أمَّا بعد: كان يومًا مشهودًا، لم يعهدْ مثله بدمشق، اجتمعَ فيها الناسُ اجتماعًا لو جمعهم سلطانٌ قاهر، وديوانٌ حاصر ما بلغوا تلكَ الكثرةَ التي انتهوا إليها!

 

توافدَ الناسُ على دمشقَ في ذلك اليومِ منْ كلِ مكان، حضروا من كل القرى، ولم تفتحْ يومئذٍ كثيرًا من الدكاكينِ التي من شأنِها أن تفتحَ أوائلَ النهار.. إنه يومُ الجنازة!

 

جنازةُ من وَصَفَهُ بعضُهم: "كأنه قبة الصخرة مُلئت كتبًا"!

 

وهنا تأتيك المقولة الخالدة للإمام أحمد بنِ حنبل: "بينَنا وبينَ أهلِ البدعِ يوم الجنائز"!

 

لقد فجعتْ دمشق؛ بل الأمةُ كلُّها آنذاك بفقدِ هذا الإمام:

بَحرُ المعارفِ تاهوا فِي بدايتِه *** أهلَ الْمعَانِي وأربابَ النهاياتِ

أعجوبةُ الدَّهْرِ فَردٌ فِي فضائلِه *** عَلّامَةُ الْوَقْتِ فِي الْمَاضِي وَفِي الْآتِي!

 

 

أيها الفضلاء: كيف لا يكونُ هذا الوفاءُ من هذا الجمعِ الكبيرِ من الناس، لمن كان بعضُ أصحابِه الأكابرِ يقولْ: "وددتُ أني لأصحابي مثلُه لأعدائِه"!

 

جاءه مرةً تلميذُه مبشرًا له بموتِ أكبرِ أعدائه، وأشدِهم أذى له فنهرَه وتنكرَ له واسترجعْ! ثم قامَ من فورِه إلى بيتِ أهلِه فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدة، إلا وساعدتُكم فيه، فسرُّوا بذلك ودَعُوا له، وعَظّمُوا هذه الحالَ منه..

 

أيها الأحبة: وأما نبأُ هذا العالمِ في صغرِه، فإن اللهَ جعلَ له الزهدَ شعارًا، حدثَ شيخُه الذي علمه القرآن قال: قالَ لي أَبوهُ وَهُوَ صبي، أُحبُ إليك أَن تعدُه، بأنك إِن لم تَنْقَطِعْ عَن القراءةِ والتلقين، ادْفَعْ إليك كلَّ شهرٍ أَرْبَعِينَ درهمًا -وَدفعَ إِلَيّ أَرْبَعِينَ درهمًا- وَقَالَ: فَإِنَّهُ صَغِيرٌ وَرُبمَا يفرحُ بهَا، فَيَزْدَادُ حرصُه فِي الِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ ودرسِه، فَامْتنعَ الصغيرُ من قبُولِهَا وَقَال: يَا سَيِّدي إِنِّي عَاهَدتُ الله –تَعَالَى- أن لَا آخذَ على الْقُرْآنِ أجرًا! قال الشيخْ: فَرَأَيْتُ أن هَذَا لَا يَقعُ من صبيٍ إِلَّا لما لله فِيهِ من الْعِنَايَة!

 

ومِنْ خَبرهِ في رشدِه: أنه في سنةِ اثنتين وسبعمائة لما تحركَ التتار، وقصدوا الشامَ: قام هذا الإمامُ في الناس، وأخبرَهم أن الدائرةَ والهزيمةَ على التتار، وأن الظفرَ والنصرَ للمسلمين، وأقسمَ على ذلك.

فيُقالُ له: قلْ إن شاءَ الله! فيقولْ: إنْ شاءَ اللهُ تحقيقًا لا تعليقًا، تفاؤلاً بموعود الله، ويقينًا بنصر الله، وحصل ما قال الشيخ واندحر التتار.

 

إننا اليوم أيها الإخوةُ في الله نقفُ على ساحلِ الإمامِ الرباني شيخِ الإسلام، أبي العباس، أحمدَ ابن تيميَّة -قدس اللهُ روحه-، وحين نتكلمُ عن ابنِ تيمية، فإننا نتكلمُ عن رجلِ عامة، بذلَ نفسَه للناسِ فقد كَانَ مَجْلِسُه، عَامًا للكبيرِ وَالصَّغِير، وَالذكرِ والأنثى، وَكَانَ فِي كلِ أسبوعٍ يعودُ المرضى، وكان رحمَه اللهُ يُدني الْفَقِيرَ الصَّالح ويكرمُه ويؤنسُه، ويباسطُه بحَديثِه زِيَادَةً على مثلِه من الأغنياء؛ حَتَّى أَنه رُبمَا خدمَه بِنَفسِهِ وأعانَه بِحمْلِ حَاجتِه جبرا لِقَلْبِه، وتقربًا بذلك إلى ربِه.

 

وَكَانَ لَا يسأمُ مِمَّن يستفتيه، بل يقبلُ عَلَيْهِ ببشاشةِ وَجه، ولِينِ عَرِيكَة، وَيقفُ مَعَه حَتَّى يكونَ هُوَ الَّذِي يُفَارِقه، وَلَا ينفرُه بِكَلَامٍ يوحشُه بل يجِيبُه ويفهمُه بلطفٍ وانبساط.

 

يقولُ أحدُ تلامذِته واصفًا خلقُه معه:" وَلَقَد بَالغ معي فِي التَّوَاضُعِ وَالْإِكْرَام، حَتَّى إِنَّه لَا يذكرنِي باسمي، بل يلقبُني بِأَحْسَنِ الألقاب، وَيظْهرُ لي من الْإِكْرَامِ والتبجيلِ والإدناءِ مِنْه؛ بِحَيْثُ لَا يتركني اجْلِسْ إلا إلى جانِبِه".

 

ورغمَ هذا الاشتغالِ الكامل، فإنه لم يغفلْ عن الاهتمام بتعليم المرأة وتوعيتها؛ حيثُ كان له تلميذاتٌ من النساءِ يحضرنَ دروسه، منهن فاطمةُ البغدادية، وكانَ يثني عليها، ويصفُها بالفضيلةِ والعلم، بل بلغَ تواضعُه أنه كان رحمَه اللهُ يستعدُ لها من كثرةِ مسائلِها وحسنِ سؤالاتِها، وسرعةِ فهمِها كما نقله ابن كثير -رحمه الله تعالى-.

 

وهذا يدلُ على شمولِ رؤيته الإصلاحيةِ في العلمِ والمعرفة، لجميع أطياف المجتمع، وإدراكِه لعظمِ دورِ المرأة في العلمِ والتعليم.

 

ومِنْ أعظم ما يُقرأ في صفحاتِ هذا الإمام: برُّه بوالدته، فلم يكنِ الاشتغال بأمر الناس شاغلًا له عنها، فعندما حبستْه الظروفُ عنِ المقامِ إليها، كتبَ لها رسالةً ينسابُ من رحيقِها البرُّ والتلطف؛ رسمها بقلبه قبل قلمه:

"من أَحْمدَ بن تَيْمِيةَ إِلَى الوالدةِ السعيدة! تعلمون أَن مقامَنا السَّاعَة فِي هَذِه الْبِلَاد، إِنَّمَا هُوَ لأمورٍ ضَرُورِيَّةٍ مَتى أهملناها فسد علينا أمْرُ الدّينِ وَالدُّنْيَا، ولسنا وَالله مختارين للبعدِ عَنْكُم، وَلَو حملتنا الطُّيُورُ لسِرْنا إِلَيْكُم، وَنحن فِي كل وَقت مهمومون بِالسَّفرِ، مستخيرون اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-".

 

أيها الفضلاء! إنَّ الحديثَ عن العلماءِ وأخبارِهم؛ مفيدٌ للنفس، رافعٌ للهمة، مؤثرٌ في القلب، ولقد قال الإمامُ أبو حنيفة قديمًا: "الحكاياتُ عن العلماءِ ومجالستِهم أحبُّ إليَّ منْ كثيرٍ من الفقهْ؛ لأنها آدابُ القومِ وأخلاقُهم".

 

ومن هذا البابِ قصَّ اللهُ علينا في كتابِه أحسنَ القَصَصِ: (نَحْنُ نَقُصُّ عليك أحسنَ القصصِ)، وبَيّنَ تعالى أن في هذه القصصِ: (عبرةٌ لأولي الألبابِ)، وأخبارُ ورثةِ الأنبياءِ من العلماءِ والدعاةِ فيها حظٌ من هذه الثمرة، فالاشتغالُ بها إصلاحٌ للنفسِ، وصعودٌ في مدارجِ الكمال، وإلاَّ فلماذا سطرَ الذهبيُّ أسفارًا في أخبار الأعلامِ؟! ولماذا كتبَ ابنُ كثير المجلداتِ في أيامِهم؟!

 

عبادَ الله: رخاوة في الدين أن يُشاهد المسلم الطعنَ في الأئمة الكبار، والعلماء الراسخين ثم لا يتكلم، ولا يدافع عنهم، كيف وقد قال الحبيبُ -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح: "منْ ذبَّ عن عرضِ أخيه بالغِيبة، كان حقًّا على الله أن يعتقَه من النَّار" فكيف بعرضِ كبار العلماء، ومفاخر الزمان؟!

 

إن بين يديِ الحديثِ عن الأئمةِ، صنفان من الناسْ: الصنفُ الغالي فيهم، وصنفُ الجافي عنهم، والمنهج الصحيح هو الوسط، وهو أن لا نعتقد العصمةَ لهم، وكلٌّ يُؤْخَذُ من قَوْلِه وَيُتْركْ، والكمالُ البشري للرسلِ، وَالْحجّةُ فِي الْإِجْمَاعِ فرحم اللهُ امْرَءًا تكلمَ فِي الْعلمَاءِ بِعلمِ أَو صمتَ بحلمْ!

 

وقد تكونُ رحمةً من اللهِ بهذا العالمِ الرباني، الذي عاشَ في القرنِ الثامنِ الهجريِّ أن ينالُه الأذى والعداواتِ حتى يومِنا هذا، فلولاهم لما تجدّدت محاسنُه، ولم تنتشر كتبُه، ولم ترتفع سيرتُه.

 

فاللهم اغفر لنا ولشيخنا أبي العباس ابنِ تيمية وللحاضرين يا رب العالمين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

 

 

الخطبة الثانية:

 

أمَّا بعد: إنَّ فيما مضى من شأنِ ابنِ تيميةَ معَ الناس، مرآةٌ لعلاقتِه مع ربِه، فلهذا كان رحمَه اللهُ آيةً في العبادة، حيثُ يكون فِي لَيْلِه متفردًا عَن النَّاسِ، خَالِيًا بربه –تعالى-، مواظبًا على تِلَاوَة الْقُرْآن!

 

أيها الأحبة: اِبْنُ تيميةَ كان إيجابيًا في مجتمعه يحبُّ المسلمينَ جميعًا، ويسعى لخدمتِهم ويذبُّ عن أعراضِهم..

 

ابنُ تيميةَ يا أحبة.. عالمُ أمة، يناصرُ قضاياها، ويدافعُ عن ضعفائِها، ويسعى لجمعِ كلمتِها..

 

ابنُ تيميةَ يا أحبة.. عالمٌ محرر، وقارئٌ نهم، وهذا العالمُ كما ينبغي، يقرأُ الجديدْ، ويحاورُ الأفكارْ، وينشرُ الوعيْ، ويحرسُ الشريعة.

 

اِبنُ تيميةَ يا أحبة.. أذهلَ خصومَه قبلَ محبيه، بِسِعَةِ اطلاعِه، وعدلِه وكثرةِ مؤلفاته وتحريراته: إنْ في الفِكر، أو في الفِلْسفة، أو في عِلمِ الكلامِ، أو في الفراسةِ أو في المذاهب والأديان..

كلُّ ذلكَ كتبَ فيه وحررْ، ونَاقشَ وأَبْهرْ!

 

وإن مِن الظلمِ المعرفي أنَّك تَجِدُ المُتَعَالِمين الذينَ يَتَطَاوَلُونَ على هذه القامةِ العلميةِ السَّامِقَةِ ويتهمونها وهم لم يقرؤُوا له أصلًا، وإنما قرؤوا عنه، وهذه إِحْدَى مُشْكِلاتِ المشهد الفكري المعاصر.

 

كُتُبُ اِبْنِ تيميةَ مبثوثةٌ في كلِ مكانٍ، ومع ذلك تجد من يؤجرُ عقلَه لغيره، فيقرأهُ عبرَ مضخاتٍ نقديةٍ وسيطةٍ، وهنا يكمنُ الظلمُ والتجاسر!

 

ومنْ نكدِ المشهد الثقافي المعاصر -أيضًا-؛ أنَكَ تُشَاهِدُ تَطَاوُلًا مُشَوّهًا على ابنِ تيميةَ في ساحةِ بعضِ الكتابِ العرب، بينما قبلَ مدةٍ ليستْ بالطويلةِ عُقِد في إحدى الدولِ الغربيةِ الكُبْرى ندوةٌ كاملةٌ لقراءةِ أفكارِ وعبقريةِ ابنِ تيميةَ وكيفيةِ الاستفادةِ منها.

 

يدرسون أفكارَ أئمتِنا ويعظمونها، ونحن نزهد بهم ونتطاول عليهم!

 

صحيحٌ أن ابنَ تيميةَ ليس معصومًا، لكنه كذلك ليس كلأ مباحًا لكلِ باحثٍ، لم يقرأْ كتبَه بنفسِه ولم يعرفْ ابنَ تيميةَ إلا منْ خلال كتب بعضهم عنه!

 

أخيرًا أيها الإخوة! هنا دعوة لكلِ مفكرٍ أو ناقدٍ أو باحثٍ أن ينزلَ على ساحلِ ابنِ تيميةَ من خلالِ بوابتِه التي رسمَها بنفسه، لا منْ بوابةِ خصومِه، فهو أحرى للعدل والإنصاف، وليقرأ تصانيفه بنفس صافية:

فاقرأْ تصانيفَ الإمامِ حقيقةً *** شيخِ الوجودِ العالمِ الربانيِّ

أعنيْ أبَا العباسِ أحمدَ ذلك *** البحرَ المحيطَ بسائرِ الخُلجانِ

هيَ في الورى مبثوثةٌ معلومةٌ *** تُبتاعُ بالغالي من الأثمانِ

 

ولنختمْ هذه الخطبةَ بدعواتٍ طيباتٍ كان ابنُ تيميةَ يدعو بها: اللَّهُمَّ انصرْنا وَلَا تنصرْ علينا، وامكرْ لنا وَلَا تَمْكُرْ علينا، واهدِنا وَيسرْ الْهُدى لنا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لَك شاكرين لَك ذاكرين لَك، أواهين لَك، مخبتين إليك، راغبين إليك..

 

رَبنَا تقبلْ توباتِنا، واغسلْ حوباتِنا، وَثَبّتْ حِجَجَنَا، واهْدِ قُلُوبنَا، اسللْ سخيمةَ صدورِنا..

اللهم اغفر لأبي العباس ابنِ تيمية، وتجاوز عنا وعنه يا رب العالمين..

المرفقات

على ساحل ابن تيمية!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات