عظم خطر اللسان وذم الغيبة

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2023-01-20 - 1444/06/27 2023-01-28 - 1444/07/06
عناصر الخطبة
1/نعمة الله اللسان ووجوب شكرها 2/عظم جرم اللسان رغم صغر حجمه 3/منزلة اللسان ومخاطر تركه دون ضبط 4/الغيبة والنميمة من أكثر مخاطر اللسان وحرمة كل منهما.

اقتباس

لكن اللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال خصب، وله في الشر مجال رحب؛ فمن أطلق اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان.. وساقه إلى شفا جرف...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أحسنَ خلقَ الإنسانِ، وعلَّمه البيان فقدَّمه به وفضَّله، ثم أمدَّه بلسانٍ يترجمُ به ما حواه القلبُ وعَقلَه، وأطلقَ بالحقِ مقُولَه، وأفصحَ بالشكرِ عما أولاه وخوَّلَه.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا..

 

 أما بعد أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4]، نعم والله خلق الباري الإنسان في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البديع -تعالى- خلقه أيَ إتقان، وميزه على سائر الحيوانات بأن (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)؛ أي: التبيين عما في ضميره، وهذا شامل للتعليم النطقي والتعليم الخطي؛ فالبيان الذي ميز الله به الآدمي على غيره من أجل نعمه، وأكبرها عليه.. أهـ

 

وجعل الله اللسان آلة هذا البيان وهو من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة؛ فهو صغير الجرم، عظيم فيما أودعه الله -تعالى- فيه من عجيب خلقه، فهو يحتوي على سبعَ عشرةَ عضلة تتحرك عند الأكل والحديث بحركة لا إرادية مختلفة عن بعضها، فعندما يريد الإنسان أن ينطق بحرف معين يتحرك اللسان بحركة خاصة بكل حرف من أجل أن ينطق بالحرف المراد، وعند الأكل يتحرك بحركة أخرى مغايره تناسب الحال، ويتحرك اللسان في الفم بسرعة وانسيابية عجيبة، وجعل الله ستَ غددٍ لعابية تقوم بإفراز اللعاب بقدر الحاجة أثناء الحديث والمضغ، وأودع الله في اللعاب مواداً عجيبة تساعده على القيام بدوره بوجه كامل، ولو تعطلت هذه الغدد لم يستطع الإنسانُ أن يتكلم أو يأكل ولأصبح فمه مصدراً للأمراض؛ فسبحان من خلقه وأودع به هذه الأسرار.. 

 

أحبتي: وكما أن اللسان عظيم في أسرار خلقه كما أسلفنا؛ فهو عظيم في طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان، وكل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان، إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له، وهذه المزية لا توجد في سائر الأعضاء.. فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذا سائر الأعضاء..

 

لكن اللسان رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال خصب، وله في الشر مجال رحب؛ فمن أطلق اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان.. وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار؛ فقد قال سيد الأخيار -صلى الله عليه وسلم-: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ"(رواه الترمذي وصححه الألباني عن معاذ رَضِي الله عَنهُ)، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله..

 

أيها الإخوة: إن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت؛ فلذلك حث الشرع على الصمت ومدح فاعله: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"(متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ). وهذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الأدب، وهو صريح في أنه ينبغي ألا يُتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم..

 

واللسان سيد الأعضاء وقائدها وقد أشار لذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ (أَيْ: تَتَذَلَّلُ وَتَتَوَاضَعُ لَهُ)؛ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا"(رواه الترمذي وهو حديث حسن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي الله عَنهُ رَفَعَهُ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-).

 

أيها الأحبة: تأملت أحاديث الأمر بحفظ اللسان فوجدت فيها أمرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصمت: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، ولما سئل عن أَثْقَلَ شيء فِي الْمِيزَانِ.؟ قَالَ: حُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ، ووجدت في تلك الأحاديث نهيَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إطلاق اللسان حين سئل: أَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانِهِ.. ولما سئل مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وذهب -صلى الله عليه وسلم- إلى أبعد من ذلك حين سئل أيّ الأعمال أفضل؟ قال: أن يسلم النّاس من لسانك.. وبادرَ -صلى الله عليه وسلم- معاذا بقوله: لن تزالَ سالماً ما سَكَتَّ؛ فإذا تكلَّمتَ، كُتِبَ لك أو عليك، ومن ضمن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حفظ لسانه ضمن له الجنة؛ فقد قال: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ"(رواه البخاري وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِي الله عَنهُ).

 

أيها الإخوة: خطر اللسان عظيم وجماع الخير بالصمت وعدم إطلاقه، وهذا مصداق ما روى ابنُ أبي الدنيا بسند مرسل رجاله ثقات عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِي الله عَنهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَمَتَ نَجَا".

 

أيها الإخوة: ولقد أدرك سلف الأمة خطر إطلاق اللسان بما يسوء، وعلموا فضل حبسه ولذلك كثرت أقولهم في ذلك؛ فقد رُوي عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِي الله عَنهُ- أنه دَخَلَ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِي الله عَنهُ- وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ؛ فَقَالَ: لَهُ عُمَرُ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِى الْمَوَارِدَ.

 

 وعن عبد الله بن مسعود -رَضِي الله عَنهُ- قال: والذي لا إله غيره، ما على ظهر الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وكان يقول يا لسان، قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم.

 

وصدق الفضيل بن عياض -رحمه الله- عندما قال: ما حجٌّ ولا رباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِنْ حبسِ اللسان، ولو أصبحت يهمُّك لسانَك أصبحت في غمٍّ شديد، وقال سفيان: لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء.؟ قلنا: لا، قال: فإن معكم الملائكة ترفع الحديث إلى الله -سبحانه وتعالى-. قال الله -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)..

 

 أسأل الله -تعالى-أن يعيننا على حفظ ألسنتنا إنه جواد كريم.. أقول قولي هذا...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أحبتي: ومن طوام اللسان وأخطر مزالقه الغيبة والنميمة؛ فقد حذر منهما الباري أعظم تحذير وبين شناعتها المصطفى أيما بيان؛ قال الله -تعالى-محذراً من الغيبة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12]، وقد عرف النَّبِيُ -صلى الله عليه وسلم- الغيبة لما قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟" قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ" قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ"(مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).

 

وفي هذه الآية، دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.

 

أيها الإخوة: ولتشديد التحذير منها صور الله -تعالى- فاعلها بصورة عجيبة مقززة؛ فقد صوره بمشهدٍ تتأذى له أشد النفوس غلظة وجفاء، وأقل الأرواح رحمة ورأفة وحساسية، صوره بمشهد الأخ يأكل لحم أخيه ميتاً؛ فقال: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)، ولكنه بعد هذا الوصف المثير للاشمئزاز؛ قال: (فَكَرِهْتُمُوهُ).

وهذا تنبيه أن أكل لحم الأخ شيء قد جبلت النفس على كراهته، وقال المفسرون: وهذا من أحسن القياس التمثيلي؛ فإنه شبَّه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه، لأن المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته، فكان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت؛ فمن يُغْتَاب عاجزٌ عن الدفاع عن نفسه لغيابه؛ فكان بمنزلة الميت الذي يُقَطَّع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.

 

ومما ورد في ذم الغيبة ما قَالَتْهُ عَائِشَةُ: فقد قالت لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً؛ فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ" قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا؛ فَقَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا"(رواه أبو داود وصححه الألباني). حكَيْت فلانًا وحاكَيْتُه: فَعلْتُ مثل فِعْله، والمقصود: تقليده في كلامه أو مشيته وما شابه، بقصد الاستهزاء والسخرية

قال النووي: "هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ." وقال ابن علان: "فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات، فما بالك بغيبة أقوى منها." وقال شيخنا محمد العثيمين: "معنى مزجته: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه، أو ريحه، لشدة نتنها، وقبحها، وهذا من أبلغ الزواجر عن الغِيبة" وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ"(رواه أبوداود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وصححه الألباني).

 

أيها الإخوة: وأخت الغيبة النَّمِيمَة: وهي نَـقْلُ الحديث من قومٍ إلى قوم على جهة الإفْسادِ والشَّرِّ، وهي محرَّمة في الكتاب، والسُّنة، والإجماع، وهي من كبائر الذنوب؛ قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم:10، 11]؛ يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وقال النَّبيُ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ"(رواه مسلم عَنْ حُذيْفَةَ)، وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منها وجعلها سبباً للعذاب بالقبر؛ فقد مرّ على قبرين، فقال: "إنَّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثُمَّ قال: بلى، أمَّا أحدهما: فكان يسعى بالنَّمِيمَة.."(رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله -تعالى-عنهما).

 

وكل نميمة غيبة، وليس كل غيبة نميمة؛ فإن الإنسان قد يذكر عن غيره ما يكرهه، ولا إفساد فيه بينه وبين أحد، وهذا غيبة، وقد يذكر عن غيره ما يكرهه وفيه إفساد، وهذا غيبة، ونميمة معًا.. اللهم طهر السنتنا من كل خطأ..

 

 

المرفقات

عظم خطر اللسان وذم الغيبة.pdf

عظم خطر اللسان وذم الغيبة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات