عظات ونصائح

د عبدالحميد بن سعد السعودي

2019-11-22 - 1441/03/25 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/رحمة الله بالمؤمنين 2/مظاهر ضَعْف الإنسان المادية والمعنوية 3/تنظيم الشريعة الإسلامية للمعامَلات بين الناس 4/التحذير من فتنة المال

اقتباس

أما الضَّعْف في الأبدان، فكل إنسان ضعيف في إدراكه وتصوره، فالإنسان قد يتصور القريب بعيدًا، والبعيد قريبًا، والضار نافعًا، والنافع ضارًا، واليسير عسيرًا، والعسير يسيرًا، يتصور أن هذا العمل لائق له، ثم تخرج النتيجة على عكس تصوُّره...

من اختيارات الشيخ رحمه الله

 

 

الخطبة الأولى:

 

يقول الحق -تبارك وتعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النساء: 26-28].

 

يُخبر الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات الكريمات أنه يريد أن يبيِّن لنا -نحن المؤمنين- ما أحلَّ لنا وما حرَّم علينا، ويهدينا الطرائق الحميدة، والشرائع المرضِيَّة التي سنَّها للذين مِنْ قبلِنا، وأنه يريد أن يتوب علينا من الإثم والمحارم والمعاصي والسيئات، والله عليكم حكيم؛ أي: في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله، ولكن يريد الذين يتبعون الشهوات؛ وهم أتباع الشياطين من اليهود ومن هاوَدَهم، والنصارى ومَنْ ناصَرَهم، والفُسَّاق ومَنْ سار على طريقهم، كل هؤلاء يريدون أن تميل عن الحق إلى الباطل، ولا يكفي في هذا الميل حتى يكون ميلًا عظيمًا.

 

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أنه يريد أن يخفِّف علينا في شرائعه وأوامره ونواهيه، وما يُقَدِّرُهُ علينا، ثم ختَم هذه الآيات بقوله -تعالى-: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النِّسَاءِ: 28]، وهكذا يقرر الله -سبحانه وتعالى- هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان، فكل إنسان خُلِقَ ضعيفًا؛ فهو ضعيف في نشأته، ضعيف في علمه، ضعيف في إدراكه وتصوُّرِه، أما الضَّعْف في النشأة؛ فكل إنسان ضعيف في نشأته، فقد خلَقَه الله من طين، ثم جعَل نسلَه من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)[المؤمنون: 12-14].

 

وأما الضعف في العلم فكل إنسان ضعيف في علمه؛ فالإنسان لا يعلم الغيب، ولا يعلم المستقبل، حتى في تصرفاته الخاصة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الإسراء: 85]، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)[لقمان: 34].

 

أما الضَّعْف في الأبدان، فكل إنسان ضعيف في إدراكه وتصوره، فالإنسان قد يتصور القريب بعيدًا، والبعيد قريبًا، والضار نافعًا، والنافع ضارًا، واليسير عسيرًا، والعسير يسيرًا، يتصور أن هذا العمل لائق له، ثم تخرج النتيجة على عكس تصوُّرِه، فهذا رجل يتصور أن العمل يناسبه، ويحقق رغبته، وأن لديه من الاستعدادات ما يؤهله للقيام بهذا العمل، ثم بعد ذلك قد يتبين بعض الخطأ في تصوراته، وذاك رجل يبني مسكنًا وفي تصوُّرِه أنه يسدُّ حاجتَه، وبعد الانتهاء أو في أثناء العمل يتبيَّن له وجهُ النقص في تخطيطه.

 

ومن أجل هذا الضَّعْف أرسل الله الرسل، وأنزَل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فيسيروا على صراط الله المستقيم، وتثبت شرائع الله بين الناس، فلا يحتاجون إلى تشريعات من عند أنفسهم، يسلكون بها مسالك المتاهات، في الظُّلْم والجَوْر، والنزاع والخلاف؛ فجاءت شرائع الله منظِّمة للناس؛ عباداتهم، ومعامَلاتهم، وآدابهم، وأخلاقهم، وجميع ما يحتاج إليه البشرُ.

 

وكان من أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد، هذه الشريعة التي ختَم اللهُ بها الشرائعَ؛ لتكون للخلق كافة، ومنهج حياة للناس أجمعينَ، فهي الشريعة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وأفضل الخلق أجمعينَ.

 

أيها الإخوة في الله: إن في الشريعة الإسلامية نصوصًا كثيرة في تنظيم المعاملات بين الناس، نصوص في الكتاب، ونصوص في السنة، بل إن أطول آية في القرآن كانت في المعامَلة بين الناس في بيعهم وشرائهم، الحاضر والمؤجَّل، وبيان وسائل حفظ ذلك، من كتابة وإشهاد ورهن، هذه الآية في آخِر سورة البقرة، وهي تُعرَف بآية الدَّيْن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)[البقرة: 282]؛ وهذا أكبر دليل على أن الشريعة الإسلامية تنظِّم المعامَلات، كما أنها تنظِّم العبادات، ويجب التحاكم إليها في جميع شؤون الحياة.

 

ففي العبادات أمر ونهي، وفي المعامَلات أمر ونهي، في العبادات ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وفي المعامَلات مثلُ ذلك، ترغيبًا وترهيبًا، ووعدًا ووعيدًا، يقول تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[الإسراء: 35]، ويقول: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[المطففين: 1: 3].

 

ثبَت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: جلَس رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، وجلسنا حولَه، فقال: "إن ممَّا أخاف عليكم بعدي ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض"، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا"، ثم قال: "إن هذا المال خَضِرٌ حلوٌ، مَنْ أخذَه بحقِّه ووضَعَه في حقِّه فنعم المعونة هو، ومَنْ أخَذَه بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة".

 

أخذُ المال بحقه، يكون باكتسابه بطريق مباح، وأخذ المال بغير حقه يكون بأخذه بطريق غير مباح، والميزان لكون الطريق مباحًا أو غير مباح، ليس هو الهوى النفسي، ولا القانون الوضعي، وإنما هو كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فما أحلَّه الله ورسوله فهو الحلال، وما حرمه الله ورسوله فهو الحرام، إن من كسب مالًا على وجه محرم فهو خاسر مهما ربح؛ لأنه إما أن ينفق هذا المال في حاجاته الدنيوية، وإما أن يتصدق به لطلب الثواب في الآخرة، وإما أن يبقى بعدُ بدون إنفاق ولا صدقة، فهو إن أنفقه في مصالحه الدنيوية لم يبارَك فيه، وإن تصدق به، لم يقبل منه، وإن بقي بعده، كان زاده إلى النار والعياذ بالله.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، مَنِ اعتَصَم بحبله وفَّقَه وهداه، ومن اعتمد عليه حَفِظَه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

إخوةَ الإسلامِ: إنه ما طغى حب المال، وطلب الدنيا على قوم إلا أضاعوا الواجبات، وارتكبوا المحرمات، وصارت الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم.

 

إنه لا بأس بجمع المال، واكتساب الحلال، إذا لم يكن شاغلًا عن طاعة الله ذي الكبرياء والجلال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الجمعة: 9]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون: 9].

 

وقد أثنى الله على الذين يُقبِلون على الصلوات في أوقاتها، ولا يشتغلون عنها ببيع ولا تجارة، ووعَدَهم جزيلَ الشكر (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36-37].

 

إن من أعظم نِعَم الله على عبده -بعد الإسلام- الرزق الواسع، والأمن والعافية، ولكن مِنَ الناس مَنْ يسعى في طلب المال، من أي طريق كان حلالًا أو حرامًا، فهو لا يسأل عن ذلك، ولا يهتم به، ولا يرعوي إذا نُصح، لقد برهنت الوقائع أن من يكتسب المال بالطرق المحرمة، قد ملأ صدرَه الطمعُ، وأحرَق نفسَه الشحُّ، يده مملوءة بالمال، وقلبه خالٍ منه، يقول الناس: إنه غني، وهو أشد في طلب المال من الفقير، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: "ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع".

 

إنك تشاهد من يأكل الربا، لا يقلع عنه، ولا يفتر في طلبه، وتشاهد من يتحايل على الربا وقد زين له سوء عمله، لا يرعوي عن تحيُّلِه، ولا يتوانى في ذلك، إنك تشاهِد من استمرأ الكذب في بيعه وشرائه منهمكًا في عادته السيئة لا يقلع عنها، تشاهد من يعامل بالغش والتغرير والتمويه على إخوانه المسلمين، مستمِرًّا في عمله المشين، لا يتزحزح عنه، إنك تشاهد من يأخذ الرشوة على أعمال هو ملزم بها مِنْ قِبَل الوظيفة، فيتوانى في القيام بعمله حتى يضطر الناس إلى بذل الرشوة له، تشاهِد مشغوفًا بهذا العمل، منهمِكًا فيه، فكيف يليق بالمؤمن -وهو يعلم بهذه العقوبات ويشاهد تلك النتائج- أن يسعى لكسب المال من طريق محرم؟

 

كيف يرضى أن يخسر دينه من أجل كسب ظاهري في دنياه؟!

 

كيف يليق به أن يجعل الوسيلة غاية، والغاية وسيلة؟!

 

ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا، وأن اكتسابه بطريق محرَّم هدم للدين والدنيا.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 188].

 

بارك الله لي ولكم.

المرفقات

عظات ونصائح.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات