عطاء الدنيا وعطاء الآخرة

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ إهلاك الله تعالى للأمم الكافرة بعد تمكينها في الأرض 2/ عطاء الله في الدنيا غير مرتبط بالإيمان 3/ عطاء الدنيا ابتلاء للمؤمنين والكافرين واستدراج للكافرين 4/ زهد النبي الكريم في الدنيا وعدم تمكنها من قلبه 5/ هوان الدنيا عند الله تعالى 6/ الانبهار بزهرة الدنيا لا تغر إلا ضعاف الإيمان 7/   روح التمكين في الأرض وأدواته

اقتباس

هم ضلوا وما زال أمثالهم من المستكبرين الطغاة حتى يومنا هذا يظنون أن كونهم مُكِّنوا في الأرض وتسلطوا وملكوا ردحا من الزمان، وخصبت أرضهم من كثرة الأمطار، وجرت الأنهار من تحتهم، فهذا يعني أنهم مَحْظِيُّونَ بالخير، وأنهم على حق، وأنه لا سبيل إلى هلاكهم، ولا إلى زعزعة سلطانهم، هم يظنون ذلك!

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

في سورة الأنعام أنكر القرآن على المشركين قلة اعتبارهم، وقصور نظرهم عن التأمل في هلاك الأمم، أمم بائدة سبقتهم، كانت قوية متعالية، سادت وملكت وتجبرت واستكبرت وكفرت بأنعم الله، ثم جرت عليها سنة الله بلا تردد.

يقول -جل وعلا-: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ) [الأنعام:6].

هم ضلوا وما زال أمثالهم من المستكبرين الطغاة حتى يومنا هذا يظنون أن كونهم مُكِّنوا في الأرض وتسلطوا وملكوا ردحا من الزمان، وخصبت أرضهم من كثرة الأمطار، وجرت الأنهار من تحتهم، فهذا يعني أنهم مَحْظِيُّونَ بالخير، وأنهم على حق، وأنه لا سبيل إلى هلاكهم، ولا إلى زعزعة سلطانهم، هم يظنون ذلك!.

ولكن الآية تقول خلاف هذا الظنّ، وآيات الله حقّ، وما دونها باطل، الآية تقول: لا تغتروا بقوتكم وتمكنكم؛ ألم ترَوا أن الله مكَّن لعديدٍ مِن الأمم الغابرة قبلكم بالرغم من كفرهم وكبرهم، وآتاهم من القوة والسلطان الشيء الكثير، بالرغم من عتوهم ومعاصيهم؟!.

ثم ألم تروا أن الفجور والكفر والمعاصي كانت وبالا عليهم؟ ألم تدركوا أن التمكين في نهاية المطاف كان تمكينا وقتيا ابتُلوا به وانتهى موعده المقدر المحدود؟! وهو موعد لا يتغير ولو طال الزمان.

وتأتي آية آخر فتؤكد: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) [الكهف:59]، موعد لا يتغير، لا يتقدم ولا يتأخر.

معاشر الإخوة: عمر الأمم لا يُقاس بعمر الإنسان، عمر الإنسان في الغالب أقصر بكثير؛ ولذلك فإن من الصعب عليه حين يتعامل مع الحياة بكاملها، بطولها وعرضها، وماضيها ومستقبلها، أن ينفتح على ما هو أطول من عمره، فيخطط لذلك ويتصور بناءً على ذلك.

فالإنسان -في غالب أمره- لا يخرج في همِّه ولا في رؤيته عن حدود عمره، ولذا يأتي القرآن الكريم يفتح له الأفُق المهمّ في حياته فيقول له: هذا ما حصل في القضية الفلانية والوضع الفلاني، وهذه سنة الله، ولم تجد لسنة الله تحويلا، وانتظر لذلك موعدا.

وهي منحة من الله -جل وعلا- لكل مؤمن، حتى يكون للمؤمن من حسن التصور الحياتيّ ما ليس للكافر، كما هو الحال في تعامل المؤمن مع القضاء والقدر، وفي استعداده للآخرة.

أيها الإخوة: إن من يسافر إلى أمم الغرب التي أسرفت في الكفر، يرى عندهم من زهرة الحياة ما يبهر، خضرة وأنهار، ثمار وأمطار، وقدرة وتمكين؛ فإذا رأى هذه المناظر الخلابة قد يُشكل عليه، كيف يعطى هؤلاء هذا الخير على كفرهم وفجورهم وإلحادهم؟ كيف؟ والمسلمون في كثير من النواحي يعيشون التصحر والجفاف والفاقة!.

وهنا تأتي فائدةُ تدبُّر القرآن يا إخوة، هنا تأتي حاجة المؤمن إلى التأمل في الآية التي استفتحت بها كلامي وأمثالها من الآيات، فالآية بدأت بلفظ الهلاك، وانتهت بلفظ الهلاك، لا بلفظ العز أو الثواب، (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)، كم هنا ليست استفهامية، بل هي كم الخبرية، تخبر عن عدد كثيرٍ جدا مبهمٍ، كميات ليست معروفة، مجهولة، كثيرة جدا، كقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان:25]، جنات كثيرة.

إذاً، فهناك أعداد كثيرة لا حصر لها من القرون المهلكة البائدة من قبل، والقرن أصله الزمن الطويل، ويكثر إطلاقه في القرآن على الأمة التي دامت طويلا، ويطلب كذلك على مقدار من الزمن قدره مائة سنة كما في اللغة.

والمقصود هنا الجيل، أي كما أهلكنا قبلكم من الأجيال، لكن الآية أوضحت أمراً خطيراً حول تلك الأجيال، وهو أنه بالرغم من قدرهم المكتوب وعلم الله المسبق بهلاكهم بسبب كفرهم وذنوبهم إلا أنهم مُكِّنوا في الأرض، وأوتوا أنواعا من النعيم، كما في الآية: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)، انتهت بالهلاك...

من زار بلاد أوروبا، سويسرا، النمسا، بريطانيا، أو غيرها من بلاد الغرب، أو أمريكا، أو على الأقل اطلع على صور لتلك البلاد، ألا يرى لهم تمكينا في الأرض، ألَا يرى أمطاراً مغيثة؟ ألا يرى أنهارا تجري من تحتهم؟.

والسؤال: هل يعني هذا أن الله راضٍ عنهم؟ هل يُغني هذا عنهم من الله من شيء كما أغنى عن الأمم من قبل؟ فإنه لم يغنِ عَن مَن كان مِن قبلهم، صحيح أن هؤلاء لم يحاربوا رسولا أرسل إليهم كما هو شان السابقين، ولكنهم مع كونهم أقلّ جحودا وظلما من أولئك إلا أنهم لا يزالون كفاراً يشركون بالله ولا يصدقون برسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل ويضطهدون المسلمين ما لاحت لهم كل فرصة، ومع ذلك فإن الله تعالى مكَّن لهم وأعطاهم من الدنيا أكثر مما أعطى كثيرا من عباده الصالحين. فهل لهذا العطاء علاقة بالإيمان من عدمه؟ والجواب: كلا.

لأن الدنيا بطبيعتها دار ابتلاء وليست بالضرورة دار ثواب وعطاء، وأنهم مهما كان العطاء الدنيوي كثيرا فإنه يبقى أشبه بالعدم في مقابل العطاء الأخروي، لا شيء؛ ولذلك سمى القرآن العطاء الدنيوي متاعاً، وسماه متاعا قليلاً، وسماه متاع الغرور، لأن من طبيعة العطاء الدنيوي بخلاف الأخروي أنه قليل القدر، قصير المدة، وعكر لا صفاء فيه.

ولذلك تنتابه الأوجاع والأحزان والهموم، يقول تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].

فليس العطاء في الدنيا مقيَّداً بالإيمان، الله يعطي الدنيا للجميع، وليست مقيَّدةً بمحبة الله للعبد، الله يعطي الدنيا لمـــَن يحب ومَن لا يحب؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [سبأ:37]، الله أعطاهم من الأموال ما أعطاهم، وقال: لا تقربكم عندنا زلفى!.

ويقول -سبحانه-: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون:55-56]. يقول ابن كثير في تفسيره: يعني: أيظن هؤلاء المغرورون أنما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟ كلا! ليس الأمر كما يزعمون، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجا وإنذاراً، ولهذا قال: بل لا يشعرون.

وكما قال تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [التوبة:55]، ويقول -جل وعلا-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:196-197]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

ويقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه ابن مسعود بسند صحيح: "إنَّ اللهَ قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا مَن يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِبُّ، ولا يعطي الدينَ إلا لمن أحَبَّ، فمَن أعطاه الله الدين فقد أحبَّه".

فالدنيا، لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة لو كانت ما سقى منها كافرا شربة ماء، لكنها لا تساوي عنده حتى جناح بعوضة؛ بل جاء في صحيح مسلم من حديث جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته -أي على جانبيه-، فمَرَّ بجَـدْيٍ أسكَّ ملتصق الأذنين، مشوهاً، ميِّتاً، جيفةً، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: أتحبون أنه لكم -يعني ببلاش- قالوا: والله لو كان حيا لكان عيبا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ يعني حتى لو كان حياً ما أراده أحد منا لأنه مشوه، فكيف وهو ميت؟! فقال: "فواللهِ! لَلدُّنْيَا أهونُ على الله من هذا عليكم".

ولذلك لم يكن للدنيا في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- مكان، لم يكن لها مكان في قلبه، وإنَّ في حادثة اعتزال النبي -صلى الله عليه وسلم- لزوجاته عبرة عظيمة نستدل بها على قيمة الدنيا عند الله تعالى، ورؤية رسوله -صلى الله عليه وسلم- إليها.

ففي الحديث أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما سمع باعتزال النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى إليه، يقول عمر: حتى جئت، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مشربة له يرتقى إليه بعجلة، المشربة هي الغرفة المرتفعة، يرتقي إليها -صلى الله عليه وسلم- عبر جذع نخلة على هيئة سلّم- وغلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود على رأس الدرجة -يعني على أعلى الجزع- فقال: هذا عمر، فأْذَنْ لي، يعني: أخبِرْ النبيَّ أن هذا عمر يأذن لي، قال عمر: فقصصت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

يقول عمر يصف حال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شبر، وتحت رأسه وسادة من أدم -أي من جلد حشوها ليف- فنظرت في خزانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أنا بقبضة من شعير نحو صاع، ومثلها قطع من الجلد في ناحية الغرفة، ورأيت أثر الحصير في جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟.

مَن مِنَّا يشك في أن أحب الناس إلى الله تعالى هو رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ ومع ذلك لم يفتح عليه من الدنيا ما فتح على شر خلقه، كفرعون وهامان وكسرى وقيصر، حتى قال فرعون لقومه في يومٍ ما، ما يظنه من علامات أفضليته: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف:51].

بل حتى قوم فرعون، برغمٍ من ظلمهم عاشوا في رغد من العيش عجيب قبل أن تحل عليهم سُنة الله، حتى قال تعالى فيهم: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ) [الدخان:25-27].

وكذلك قوم صالح على كفرهم، قال الله تعالى على لسان نبيهم: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) [الشعراء:146-148].

فالزروع والرخاء والخضرة والأمطار ليست من علامات الرضا، ولا تدلُّ على محبة الله تعالى بالضرورة، بل إنها بحسب القوم، إن كانوا صالحين فذلك من الخير الذي عُجِّلَ لهم، وإن كانوا فُجَّاراً فإنما هو استدراجٌ ومتاعٌ قليلٌ.

أسأل الله حسن الفهم، والله تعالى أجل وأعلم وأحكم...

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فالانبهار بما عند الكفار من زهرة الحياة الدنيا، غربيين كانوا أو شرقيين، لا تغرّ إلا ضعيف الإيمان، ولذلك حذّر الله من الاغترار بها، فقال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].

والمقصود مما قضاه الله تعالى من نِعم الطبيعة التي اشتهر بها القوم أن القوة للأرض والقوة والسيطرة فمرجعها إلى السنن، من أراد التمكين فما عليه إلا أن يخلص النية في سلوك طريق التمكين، وأن يبتعد عن حظوظ النفس والمصالح الشخصية والنفاق، وأن يستثمر الموارد بشكل علمي فاعل، وقبل هذا كله أن يتقي الله تعالى فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويبتعد عن جميع أنواع الشر.

يقول تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55]. فرُوحُ التمكين إيمانٌ وعملٌ صالحٌ وتوحيدٌ، وأدوات التمكينِ صدقٌ وإتقانٌ وعلمٌ ومواردٌ.

معاشر الإخوة: ينبغي ونحن ننظر إلى الدنيا وتقلبها أن تكون رؤيتنا شاملة، وأن نفتح أعيننا على سنن الله تعالى في الماضي، وعلى أثر سننه على الحاضر والمستقبل، وأن نعرف قيمة الدنيا عند الله، وتساوِي حظ الناس منها، مؤمنين وكافرين، كلا الفريقين له حظ من الدنيا، وقيمة الآخرة، واختصاص المؤمنين بها دون غيرهم.

يقول سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:18-21].

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

الدنيا وعطاء الآخرة (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات