عشر ذي الحجة

د يوسف بن عبدالله العليوي

2021-07-09 - 1442/11/29 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/فضل العشر من ذي الحجة 2/أيام مميزة من هذه العشر 3/ما يستحب عمله في هذه الأيام 4/ذبح الأضحية وما يتعلق بها

اقتباس

فاجتهدوا -يا عبادَ الله-، وتقربوا إليه في هذه الأيام المباركات؛ فإنها أعظم مواسم الطاعات وأبواب الخيرات، التي تَفضَّل الله علينا بها، ويُحسِنُ إلينا ببلوغِها، والتوفيقِ إلى العملِ الصالحِ فيها؛ ليرفع لنا بها الدرجات، ويحطّ عنا بها السيئات, وإنَّها لأيامٌ قلائلٌ، والعُمْرُ قَصير...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.

 

عباد الله: لقد أقبلت عليكم أيامٌ عظيمة وأزمنة فاضلة؛ هي أعظمُ أيامِ الدنيا وأفضلُها, الأيامُ العشرُ الأُوَلُ من ذي الحِجّة, تلك الأيامُ التي أقسمَ اللهُ بها في كتابه العظيم، فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1، 2]، قال الطبري في تفسيره: "الصوابُ من القولِ في ذلك عندنا: أنها عشرُ الأضحى؛ لإجماعِ الحجةِ من أهلِ التأويلِ عليه"، وقال ابن كثير في تفسيره: "المرادُ بها عشرُ ذي الحِجّة؛ كما قاله ابنُ عباسٍ، وابنُ الزبيرِ، ومجاهدٌ، وغيرُ واحدٍ من السَّلَفِ والخَلَف".

 

ورُوي عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ", وفي رواية: "إنّ أفضلَ أيَّامِ الدُّنيا أيَّامُ العشرِ"(أخرجه البزار وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه، وحسنه الهيثمي، وصححه الألباني)؛ يعني: عشرَ ذِي الحِجة.

 

وفي هذه العشر: اليوم التاسع منها، وهو يومُ عرفةَ، الذي قال اللهُ فيه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]، وأخرج البخاريُّ ومسلمٌ عن عمر -رضي الله عنه- قال: "إنِّي لأعلمُ أيَّ يومٍ نَزَلَتْ هذه الآيةُ؛ نَزَلَتْ يومَ عَرَفةَ، في يومِ جُمُعة".

 

وفي صحيح مسلمٍ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟".

 

وفي هذه العشرِ المباركات: يومُ النَّحْر، وهو يومُ عيدِ الأضحى، أعظمُ أيامِ الدنيا، وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ أعْظمَ الأيَّامِ عِندَ اللهِ يومُ النَّحْرِ"(أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما).

 

ألا وإن مما ينبغي على المؤمن في هذه الأيام المباركاتِ الإكثار من الأعمالِ الصالحات، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ"؛ يعني عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "وَلَا الجهادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"(أخرجه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه).

 

وليست هذه العشرُ مقيدةً بعملٍ مُعيَّن؛ بلْ كلُّ عملٍ صالحٍ فيها أحبُّ إلى الله من العمل في غيرها, وإن من الأعمال العظيمة في هذه العشر: ذكرُ الله، وخصوصًا التكبير، في كل حين منها, ليلاً ونهارا، سرًّا وجهارا، وقد روى أحمد في مسنده عن ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما-، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ".

 

ومن الأعمالِ الصالحةِ: الصيامُ، ورُوي عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: "كانَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الحِجَّة"(رواه أحمد).

 

ويستحبُ صيامُ يومِ عرفةَ استحبابًا شديدًا، وقد خصّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالحثِّ من بين أيام العشر؛ كما أخرج مسلمٌ في صحيحه أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ".

 

وإن من أعظم الأعمال: الحج، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ الـمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ"(متفق عليه).

 

والأعمال الصالحة كثيرة متنوعة، وكلٌّ يعمل بما ييسره الله له، من ذكرٍ ودعاء وقرآنٍ وصلاة وصيامٍ وصدقة وصِلةٍ وإحسانٍ وغيرها من الصالحات، مع المحافظة على ما أوجبه الله من فعل الطاعات واجتناب المحرمات؛ فإن الله -جل جلاله- يقول في الحديث القدسي: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"(أخرجه البخاري), وإن الذي يُـحِبُّ اللهَ؛ فإنه يُـحِبُّ ما يُـحِبُّه اللهُ، ويَسْعى إلى ما يَرْضاه.

 

فاجتهدوا -يا عبادَ الله-، وتقربوا إليه في هذه الأيام المباركات؛ فإنها أعظم مواسم الطاعات وأبواب الخيرات، التي تَفضَّل الله علينا بها، ويُحسِنُ إلينا ببلوغِها، والتوفيقِ إلى العملِ الصالحِ فيها؛ ليرفع لنا بها الدرجات، ويحطّ عنا بها السيئات, وإنَّها لأيامٌ قلائلٌ، والعُمْرُ قَصير.

 

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77], (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

عبادَ الله: ألا وإن من الأعمال الصالحة في هذه العشر المباركة: ذبحَ الأضاحي، من بعد صلاة العيد يومَ النَّحرِ، إلى آخر أيامِ التشريق.

 

وهي شعيرة عظيمة من شعائر الله، قال الله -جل جلاله-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)[الحج: 34].

 

وهي هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-, فقد صحّ عنه أنه كان يُضَحِّي، وضَحّى بكَبْشَينِ أَمْلَحَين؛ عنه وعن أهل بيته وعن أمته.

 

والمقصود منها التَّقرُّبُ إلى الله -عز وجل- وذِكْرُه وشُكرُه وتَقْواه: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[الحج: 37].

 

وتُشرع الأضحية للرجل والمرأة، وتجزئ عن كل واحد منهما وأهل بيته, وتُذبح من بهيمة الأنعام, مَنْ كان له ستةُ أشهرٍ من الضأن، وسنةٌ من الـمَعْز، وسنتان من البقر، وخمسُ سنين من الإبل, على أن تكون سالمة من العيوب البَيِّنة؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي".

 

فتخيروا -عباد الله- من الأضاحي أحسنَها وأثمنَها؛ تعظيمًا لله -جل جلاله-، ولهذه الشعيرة العظيمة، (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].

 

وإنه مما يحسن التنبيه عليه في هذا اليومِ الجمعة، الذي قد يكون آخرَ أيامِ ذي القَعدة، أنّ من أراد أن يُضَحيَ فعليه أن يُـمْسِك عن أخذِ شيءٍ من شعرِه وأظفارِه وبشرتِه، منذُ أن يُهَلَّ الهلالُ إلى أن يُضَحِّي؛ كما جاء في الحديثِ الذي أخرجه مسلمٌ في صحيحِه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا", وفي رواية له: "مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ؛ فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ".

 

فاتقوا الله -عباد الله-، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الحشر: 18 - 20].

 

ثم صلوا وسلموا على رسول الله, فإنه من صلى عليه صلاة واحدة؛ صلى الله عليه بها عشرا, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله الطاهرين، وخلفائه الراشدين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك, اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز.

 

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

المرفقات

عشر ذي الحجة.doc

عشر ذي الحجة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
09-07-2021

كتب الله أجركم