عناصر الخطبة
1/ أروع الأمثلة لتواضع النبي وعدله 2/ الأمر بالعدل والنهي عن الظلم 3/ العدل بمفهوم الحضارة المعاصرة 4/ العدل في الإسلام 5/ مقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين والسلوك الحربي لجيوش غير المسلمين 6/ المسلمون دائمًا هم الضحية 7/ قلب الحقائق 8/ طغيان الحضارة المعاصرة 9/ التحذير من سوء المصير 10/ واقع الحضارة المعاصرة اليوماقتباس
العدل أيها المسلمون هو ميزانُ الأرض، والظلمُ والجور ما هما إلا مِعوَلَ هدمٍ وخراب لكلّ دابة تدبّ عليها. وأعظمُ المظاهر العملية للظلم هو العدوان والقهر، وأشنعُ صور العدوان وأغلظُها ما كان فيه سفكُ الدماء والإفساد في الأرض والعلو فيها وجعلُ أهلها شيَعًا، ضعيفهم نهبًا لقويِّهم على صورة صراع أهل الغاب ..
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، ومحاسبةِ أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، فاليوم عملٌ يتلوه موتٌ ليس بعده عمل، (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها الناس: في عام الفتح سنةَ ثمان من هجرة المصطفى دخل رسول الله مكة تعلوه السكينةُ، عزيزًا منتصرًا، وهو يردّد قول الباري -جل شأنه-: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]. دخل -صلوات الله وسلامه عليه- المسجد الحرام، ثم أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، ثم جلس في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاحُ الكعبة في يده فقال: يا رسول الله: اجمع لنا الحجابةَ مع السقاية -صلَّى الله عليك-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أين عثمان بن طلحة؟!"، فدُعي له: أين عثمان بن طلحة؟! فدُعي له فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "هاك مفتاحَك يا عثمان، فإن اليوم يومُ وفاءٍ وبر"، فخرج رسول الله وهو يتلو قول الباري -جل شأنه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء:58].
لا إله إلا الله، والله أكبر، انكسارٌ ورفعةٌ واقتدار على كفرٍ وبغي ومعاندين، كلّ ذلك لم يكن ليجعلَ النبي ينسى أنه إنما بُعث بالعدل والقسط حتى في حال النصر والغلبة.
إنه العدل الذي ميّز الله به أهلَ الإسلام؛ حيث جعلهم عدولاً خيارًا بين سائر الأمم: (وَكَذلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:243] أي: عدولاً خيارًا.
ولقد أمر الله بالعدل ومدح أهلَه، ونهى عن الظلم وذمّ أهلَه ومُواقعيه، فيما يزيد على ثلاثمائة وخمسين آية من كتاب الله.
العدل -أيها المسلمون- هو ميزانُ الأرض، والظلمُ والجور ما هما إلا مِعوَلَ هدمٍ وخراب لكلّ دابة تدبّ عليها. وأعظمُ المظاهر العملية للظلم هو العدوان والقهر، وأشنعُ صور العدوان وأغلظُها ما كان فيه سفكُ الدماء والإفساد في الأرض والعلو فيها وجعلُ أهلها شيَعًا، ضعيفهم نهبًا لقويِّهم على صورة صراع أهل الغاب.
والعدل في الحضارة المعاصرة ذات البريق اللامع كغيره من القيم الأخلاقية، تُحدِّده النسبيةُ مع القابلية لأن يوزَن بميزانين أو يُكال بمكيالين عند من لم يؤمنوا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً.
أما في الإسلام فالعدل قيمةٌ مطلقة، لا مجال للنسبية فيها، له ميزانٌ واحد يُعَدّ هو الأدنى في معاملة المسلم مع غيره، حبيبًا كان أم بغيضًا، صديقًا أم عدوًّا، مسالمًا أم محاربًا. كل ذلك إعمالاً لقوله سبحانه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، وإعمالاً لقوله -جل شأنه-: (يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْولِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [النساء:125].
فلا معيارَ إذًا إلا للعدل، فهو كما يقول ابن كثير -رحمه الله-: "العدلُ مطلوبٌ من كل أحد لكلّ أحدٍ في كل حال"، ويشهد لذلك قولُه تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ) [المائدة:2]، فنهى الله المسلمين أن يعاملوا حتى قتلى هؤلاء بغير العدل.
ومن هنا بدا ظاهرًا جليًا أثرُ هذه التربية الإسلامية على عموم الأمة المسلمة عبر التاريخ في سلمهم وحربهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "المؤمِن إن قَدِر عدَل وأحسن، وإن قُهِر وغُلب صَبَر واحتسب، كما قال كعب بن زهير أمامَ النبي منشِدًا:
ليسوا مفاريحَ إن نالت رماحُهُمُ *** يومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي فقال: "رأيتُه يغلِب فلا يبطر، ويُغلَب فلا يضجر". وما سُمِّي من سُمِّي من كفار قريش بالطلقاء إلا حينما قال لهم في أوج غلبته، وذكريات طردهم له وإيدائهم لعصبته تجول في خاطره، ومع ذلك لم يتفوّه إلا قائلاً: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
أيها المسلمون: إنه من أجل إيضاح قضيةِ العدل وتجليةِ الممارسة الحقيقية لها في هذا الزمن فلا بدّ أن نورد مقارنةً بين سلوكين، هما محطّ حديث الساعة، إنها المقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين وغزاتِهم وبين سلوك جيوشِ غير المسلمين، ومنهم بعضُ جيوش الحضارة المعاصرة، وذلك من خلال منطقةٍ واحدة تعرّضت في خلال ألفي سنة تقريبًا لمرات ستٍّ من الغزو الخارجي، تلكم المنطقة هي أرضُ مسرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنها فلسطين وبيتُ المقدس، فقد تعرّضت لهجوم الفرس الذين آثروا إحراقَ المدينة ونهبَها وقتلَ السلطان فيها وإهانةَ المقدسات، وبعد أقلَّ من عشر سنين هاجم البيزنطيون هذه المنطقة وانتصروا على الفرس المحتلِّين، فانتقموا منهم ومن اليهودِ الذين كانوا ساعِدهم الأيمنَ شرَّ انتقام، ولم يكن سلوكُ البيزنطيين آنذاك أقلَّ وحشيةً من سابقيهم. ثم بعد ما يقارب العشرَ سنين انتصر المسلمون، ودخلوا المدينة فاتحين، فلم يسفِكوا فيها دمًا، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا شيخًا ولا طفلاً ولا امرأة. ثم صدرت إبَّان ذلك الوثيقةُ العمرية المشهورة في زمن الفاروق بحيث إن من يقرؤها ويرى ما فيها من الإنصاف والعدل والسماحةِ فقد لا يظنّ أنها بين جيِشٍ منتصر وآخرَ مهزوم شرَّ هزيمة. وبعدَ عدّة قرون من الزمن اجتاحت حملةٌ صليبية أرض المقدس، فانتصرت على أهلها، وكان معظمُ أهلها من المسلمين، ولكن ماذا كان السلوك الحربي لأولئك الغزاة؟! إنها كلماتٌ قالها قائدُ تلك الحملة الصليبية، واصفًا بأن خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين، ويصِفها مؤرِّخٌ أوربي آخر بقوله: لقد انحدرت جموعُ الصليبيين في طرقات بيت المقدس، تحصِد الأرواحَ حصدًا، رجالاً ونساءً، شيوخًا وأطفالاً، حتى بلغوا عشرةَ آلاف قتيل. وبعدَ أقلَّ من قرن من الزمن ينتصر جيشُ صلاح الدين على الصليبيين في موقعة حِطِّين الحاسمة، وتُفتح أمامَه أبوابُ بيت المقدس، ويدخلها المسلمون منتصرين غانمين، مظهرين من ضروب السماحة والعدل والرحمة في حال الحرب ما أجبَر مؤرِّخي الغرب على الاعتراف بذلك والإشادةِ به. ثم تأتي الطامَّة الأخرى والوحشيةُ العمياء في العقد الثاني من القرن الماضي ليدخُل جيشُ الانتداب الأوربي أرضَ فلسطين مع الغزاةِ اليهود، فيوقِع اليهودُ فيها مجازرَ وحشيةً وألوانَ عدوانٍ كان من أبشعها جُرمًا وأعظمها فتكًا مذبحة دِير ياسين المشهورة، والتي وصفها أحدُ جزَّاريها القادة بقوله: كان لهذه العملية نتائجُ كبيرة، فقد أصيب الفلسطينيون بعد انتشار أخبار دير ياسين بالهلع، فأخذوا يفرّون مذعورين، فلم يبق على أرض فلسطين إلا ما يقارب مائةً وستين ألفًا بعد أن كانوا يزيدون على ثمانمائة ألف. ثم يقول هذا الجزار: لولا مذبحة دير ياسين ما كان يمكن لإسرائيل أن تظهرَ إلى الوجود.
ولم يكن هذا السلوك -عباد الله- منافيًا لتصور الحضارة المعاصرة للعدل، ولأجل هذا منحته جائزةَ نوبل للسلام.
إذاً هذه المقارنة -عباد الله- بين سلوك الجيوش المسلمة والجيوش الكافرة تدلُّ على ما شهد به أحدُ كبار مؤرِّخي الحضارة المعاصرة بأن التاريخ لم يشهد فاتحًا أرحمَ من المسلمين.
ألا إن المسلمين دائمًا هم الضحية ضدَّ أيِّ عدوان غاشم، ولم يُعرف يومًا ما أنهم كانوا هم المعتدين على أحد، بل حتى في هذا القرن المعاصر، فهذه هي فلسطين والجزائر وليبيا وتونس ومصر والسودان وغيرها، لم يكن أهلُها قط هم المعتدين، بل كان المستعمر من أرباب الحضارة المعاصرة هو الصائل المعتدي.
ومن باب الأسف الشديد أن ينجحَ أربابُ الحضارة المعاصرة في اعتماد إعلامهم على غفلة المجتمعات المسلمة وضعفِ ذاكرتها في استيعاب الأحداث الماضية، والسجلات المشينة، في النظرة الواقعية لمفهوم العدل عند الحضارة المعاصرة، ومن خلال سلسلةٍ من الغزو والاعتداءات والبطش، ولو كانت أحداث لم تجفَّ دماؤها بعد، وإلا فلماذا توصَف المقاومات المسلَّحة في بعض الدول الإسلامية باديَ الرأي من قِبل روّاد الحاضرة المعاصرة على أنها حركات مقاومةٍ ضدّ المعتدي أو جيوبٌ انفصالية في وجه الظالم، ثم بين غمضة عين وانتباهتها تنقلَّب نظرةُ الحضارة المعاصرة فتسمِّيها قوىً إرهابية مبرِّزة، يجب أن تُستأصَل شأفتُها وتوأَد في مهدها؟!!
الحضارة المعاصرة -عباد الله- رسمت لنفسها صورةً صناعية تقنية، فاقدةً للتقوى أو لمفهوم التراحم والعدل الإنساني على أقلّ تقدير، فتحولت إلى حضارةٍ استكبارية بطشيَّة، تركت الجدالَ بالحسنى وجادلت الناس على متن المقاتلات ورؤوس المدرَّعات، حتى جعلوا من ذواتهم أشباحًا مرهوبة، وجعلوا حقوقَ من سواهم من الناس لباناتٍ ممضوغةً يلفِظونها بعد العلك بين مخالب القوى الباطشة، وهي لا تريد من هذه المستعمرات الشاسعة إلا أن تجعلها حقولَ استغلال، ومن ثمَّ اتخذ أهلها خدمًا يعملون ويكدحون ليشقَوا هم ويسعدَ الغازي المعتدي.
ولأجل هذا نجحت ثورةُ البركان العسكري في الحضارة المعاصرة في أن تجعل معظمَ العالم الإسلامي اليومَ يألف ألوانًا من الاعتداءات السياسية والاقتصادية، حتى لقد أصبح الأمانُ لديهم شِبهَ سراب بقيعةٍ لا يبلغه أحد.
ومما لا شك فيه أنه كلما قلّت صحوةُ المسلمين ازداد الولَهُ إلى هذا السراب والتشبُّثُ به، ولقد صدق الله: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا) [الكهف:20].
ولأجل هذا احمرّت جوانبُ تاريخ هذه الحضارة بدماء الضحايا المسفوكة، فقتلت الشعوبَ المتطلعة إلى حريتها، وحرمتها من أسباب العلم والقوة والنهوض.
ولا يغرَّنَّكم -عباد الله- ما تبثُّه الحضارة المعاصرة بين الحين والآخر من شعارات الإخاء والعدل والحرية في التديُّن. نعم، لقد فصّلوا هذا الشعار للعالم إلا للمسلمين، وإن كان ولا بد فلا أكثر من أن يكون مقطوعَ الصلة بكرامة الإنسان التي أرادها الله له من خلافة الأرض، وعبادة الله فيها، وإقامة العدل بين أرجائها.
وإن كان ثمَّت زيادةٌ على ذلك فعلى أن يكون الإسلام محايداً بإزائهم مسايسًا لهم، أما أن يؤيِّد الدين حقوقَ الإنسان ويأمر الناسَ أن يدخلوا في السلم كافة فلا؛ لأن الإسلام عندهم هو وحده الذي يجب إبعادُه عن الحياة العامة، أما ما عداه من الديانات والنحل فلْيقم باسمها دولٌ، ولْتُرسَم على خطاها سياسات. ولأجل هذا لاطفوا عبدةَ الأوثان بروحٍ أطيب ونفسٍ أهدأ، فأيُّ حضارة هذه بربكم؟!
وبهذه الصورة لم يُبعِد النجعةَ أولئك المتخصِّصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: إن مثل هذه التصرفات مؤسَّسٌ على مبدأ المصلحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قُطّاع الطريق أو لدى أيّ تجمّع مفترس في الغابة، وما الضمانات التي تمثِّلها مواثيق العدل العالمية المزعومة للمحافظة على أمن الشعوب إلا فيما لم يكن المسلمون أو العرب فيه طرفًا في صراعٍ ما، أما إذا كان الحَيف واقعًا على شعبٍ مسلم أو قطر عربي فقد أمسى للقصةِ لونٌ آخر، فهل يُهزأ بالمنكوب حينئذ إذا أساء بالحضارة ظنَّه؟!
إن مثلَ هذه الممارسات هي التي جعلت عددًا ليس بالقليل من عقلاء الحضارة المعاصرة لا يزالون يُطلقون صيحاتِ النذارة لأقوامهم، ويحذرونهم سوء المصير، فهل يعي المسلمون ذلك؟!
ألا إن من سنن الله تعالى أن يَدعَ هذه الحضارةَ تحصِد ما تزرع، وتعرف طَعم الجذاذ عند الحصاد.
ما طار طير وارتفع *** إلا كما طار وقع
(وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [الرعد:21]، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن المُشاهدَ لواقع الحضارة المعاصرة اليومَ ليرى أنّ لانحرافها في تصوّرها للعدل نتيجةً بدَهية لا مناص منها، ألا وهي تشبُّع روحها بالأنانية والعدوانية وإرادة العلو في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:205].
ولا أدلّ على هذه النزعة الشاذة ممّا يُعَدُّ ثمرةَ هذا الواقع، وذلك من خلال إنتاج هذه الحضارة من أسلحة الدمار الشامل ما بلغ كميةً وكيفيةً مبلغاً يُجاوز مبلغَ الاحتياجات البشرية للطعام والشراب بأضعاف مضاعفة، ولقد عُلم أن دولةً من دول هذه الحضارة قد بلغ إنتاجُها من أسلحة الدمار الشامل ما يكفيه لإفناء العالم ثلاثًا وثلاثين مرة، وقبل عقود من الزمن شيَّعت دولةٌ كبرى موكبًا من التوابيت الخرسانية لتُلقى في قاع المحيط، حيث تضُمّ وسطها شحنات مروِّعةً من الغازات السامة، بعد أن رأت هذه الدولة أن لديها فائضًا من هذا السلاح يكفي لإفناء العالم ست مرات.
وإن تعجبوا -عِباد الله- فعجبٌ تلك النزعة الشريرة في هذه الحضارة؛ إذ كان يكفيها شرًا أن تنتج ما هو كفيل بإفناء العالم مرة واحدة. وهنا مكمن الجبروت والعدوانية في الحضارة المعاصرة، فما ذنب العالم إذًا أن يدمَّر أكثرَ من ثلاثين مرة؟! ألا يكفي بالحربَين العالميتين مثالاً لهذا التصور المنحرف، خلال رُبع قرن أثمرتا من خلاله ما يُعدّ بالملايين من القتلى؟!
عباد الله: إن كلامنا هنا ليس المقصودُ به الهجاءَ والتشفي في كشف عورة الحضارة المعاصرة؛ إذ الأمر أبعدُ من ذلك وأهمُّ، وهو أن صيحاتٍ تعالت ورجْعَ صدىً يُسمع في الأقطار الإسلامية، وأثمر التأثّر بهذه الحضارة المعاصرة وزُخرفِها، فرأينا وسمعنا من بين ظهرانينا تبريرَ الظلم والعدوان من قبل تلكم الحضارة، وكذا تبرير ازدواجية معايير العدل عندها، في حين أنه كان المرجوُّ في مقابل ذلك أن ينكشف للمسلمين هذا الزيفُ في تصوير العدل، وأن تتّضح لديهم المعاني الرئيسة لمفهوم العدل عند تلك الحضارة، وأنه ليس هو العدلَ الذي بمعنى الإنصاف، ولكنه العدلُ الذي هو الميل والانحراف.
وهذا ما يضع على كل عاتقٍ نصيبَه من المسؤولية أمامَ الله، من شعوبٍ وحكومات، وذلك بتدارك الأمر من خلال الرجوع إلى الله، ثم بالطرح الإسلامي الصحيح للتربية الواعية عبر المجالات التربوية، ومناهج التعليم، وتوعية الأجيال، بحسنات الإعلام لا بسيئاته، ليقف المسلمون موقفَ العاقل أمامَ طوفان الحضارة المعاصرة الجارف، وأن يعلموا أن الحق لا يُزري به أن تمرَّ عليه سنون عجاف، ولا يضيع جوهرُهُ لأن عِللاً عارضةً اجتاحت أهلَه، وليعلموا أن الباطل لا يسمَّى حقًا لأن دورةً من أدوار الزمن منحتْه القوةَ وأقامت له دولةً في الأرض، إذ لم تتحول جرائمُ فرعون إلى فضائل لأنه ملك سلطةَ الأمر والنهي واستطاع قتلَ الأبناء واستحياء النساء، فلا ميزان للجميع إلا بمدى قربهم من الله أو بعدهم عنه.
كما يجب علينا جميعًا أن نتجرَّع الواقعَ المرير ولو لم نستسغه، حتى نواجهَ الغارةَ الشعواء، ونستبين أغراضَها الكامنةَ في جعلنا قصةً تروى وخبرًا كان، قبل أن يجتمع علينا الثالوث الخانق، وهو الهدمُ الروحي والهدم التاريخي والهدمُ العسكري، والذي غايته أن يتلاقى على أنقاضنا. فيا ترى، هل يضيع الحقُّ في حومة هذه الدائرة العمياء؟! كلا، كلا، فلقد مرّ آباؤنا الأولون بمثل هذه المحن، ثم خرجوا منها موفورين بعد أن أصلحوا أنفسهم، وأصلحوا ما بينهم وبين الله بالنصح الجاد، والتصحيح الواعي، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف:21]. وليأتينَّ زمنٌ تُملأ فيه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا، وذلك بلسان الصادق المصدوق.
(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَـادِ * مَتَـاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [عمران:196-197].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم