اقتباس
عبد الله بن عباس البحر حبر الأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير ، أبو العباس عبد الله ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم ، واسمه: عمرو بن عبد مناف بن قصي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رضي الله عنه.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد ...
لقد صاغ الله سبحانه أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أعظم صياغة ليكونوا وزراء نبيه وحملة رسالته من بعده.
فلكي يتأهلوا لشرف الصحبة أعدهم الله ذلك الإعداد الرفيع فحبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدون كما قال تعالى : (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون).
ومن هذا المنطلق تأتي حاجتنا إلى دراسة سيرهم والإقتداء بهم فيما كانوا يعملون.
مـــن هــو؟
عبد الله بن عباس البحر حبر الأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير ، أبو العباس عبد الله ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم ، واسمه: عمرو بن عبد مناف بن قصي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رضي الله عنه.
مولده :
ولد بشعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين. ولما توفي الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، كان له ثلاث عشرة سنة فقط.
ومع ذلك فقد حفظ للمسلمين عن نبيهم ألفا وستمائة وستين حديثا أثبتها البخاري ومسلم في صحيحيهما .
صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاثين شهرا ، وحدث عنه بجملة صالحة ، وعن عمر ، وعلي ، ومعاذ، ووالده ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي صخر بن حرب ، وأبي ذر ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت وخلق.
النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بمولده :
عن ابن عباس ، قال:(حدثتني أم الفضل بنت الحارث قالت: بينا أنا مارة والنبي صلى الله عليه وسلم في الحجر فقال :(يا أم الفضل) قلت لبيك يارسول الله قال (إنك حامل بغلام ) قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يولدون النساء؟ قال:(هو ما أقول لك ، فإذا وضعتيه فأتيني به ) فلما وضعته أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه عبد الله وألباه بريقه.أي:حنكه قال:(اذهبي به فلتجدنه كيسا) قال فأتيت العباس فأخبرته، فتبسم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلا جميلا ، مديد القامه ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه فقبل ما بين عينيه ، وأقعده عن يمينه، ثم قال:(هذا عمي ، فمن شاء فليباه بعمه) فقال العباس: بعض القول يا رسول الله ، قال :(قال ولم لا أقول وأنت عمي ، وبقية آبائي ، والعم والد.
وقرأ كثيراً على أبي ، وزيد.
وقرأ عليه مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة.
وروى عنه:( ابنه علي ، وابن أخيه عبدالله بن معبد ، ومواليه، عكرمه ، ومقسم ، وكريب ، وأبو معبد نافذ ، وأنس بن مالك ، وأبو الطفيل ، وأبو أمامه بن سهل ، وأخوه كثير بن العباس ، وعروة بن الزبير ، وعبيد الله بن عبد الله ، وطاووس ، وأبو الشعثاء جابر ، وعلي بن الحسين ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد بن جبر ، والقاسم بن محمد ، وأبو صالح السمان ، وأبو رجاء العطاردي ، وأبو العالية ، وعبيد بن عمير ، وابنه عبدالله ، وعطاء بن يسار ، وإبراهيم بن عبدالله بن معبد ، وأربدة التميمي صاحب التفسير ، وأبو صالح باذام ، وطليق بن قيس الحنفي ، وعطاء بن أبي رباح ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومحمد بن كعب القرضي ، وشهر بن حوشب ، وابن أبي مليكة ، وعمرو بن دينار ، وعبيد الله بن أبي يزيد ، وأبو جمرة نصر بن عمران الضبعي ، والضحاك بن مزاحم ، وأبو الزبير المكي ، وبكر بن عبد الله المزني ، وحبيب بن أبي ثابت ، وسعيد بن أبي الحسن ، وإسماعيل السدي ، وخلق سواهم .
وفي التهذيب : الرواة عنه مائتان سوى ثلاث أنفس.
وأمه هي:
أم الفضل لبابه بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالية من هلال بن عامر.
أولاده: أكبرهم العباس وبه كان يكنى و علي أبو الخلفاء وهو أصغرهم والفضل ومحمد وعبيد الله ولبابه وأسماء .
وأولاده :
الفضل ومحمد وعبيد الله ماتوا ولا عقب لهم ، أما لبابه فلها أولاد من زوجها علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وبنته الأخرى أسماء وكانت عند ابن عمها عبد الله بن عبيد الله بن العباس فولدت له حسنا وحسينا.
صفاته:
وكان وسيما جميلا وسيما مديد القامه مشربا صفرة صبيح الوجه له وفرة يخضب بالحناء مهيبا كامل العقل ذكي النفس من رجال الكمال.
انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح ، وقد أسلم قبل ذلك ، فإنه صح عنه أنه قال :(كنت أنا وأمي من المستضعفين ، أمي من النساء وأنا من الولدان ) .
وهو ابن خالة خالد بن الوليد المخزومي.
وكان ابن عباس منذ طفولته الطاهرة النقية لا يتخلف عن مجلس رسول الله ولا عن الصلاة خلفه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى في ابن عمه غلاما نجيبا عقله أكبر من سنه ومداركه أوسع من طفولته فهو لايكاد يسمع آية من كتاب الله حتى يحفظها عن ظهر قلب ، ولا يكاد يسمع حديثا نبويا حتى يعيه ويستوعبه ، وكان يجالس الكبار ويستمع إليهم ولذلك فإنه كان يزداد كل يوم علما وحكمة وفطنة ، وينمو وعيا وإحساسا وإدراكا حتى بلغ مرتبة الفتيا وهو في سن الثامنة عشر من عمره .
طلبه للعلم وتحمله الشدائد في تحصيله:
يقول رضي الله عنه : (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير ، فقال : واعجبا لك يا بن عباس ! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي عليه السلام من ترى ؟ فترك ذلك . وأقبلت على المسألة ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل ، فأتوسد ردائي على بابه ، فتسفى الريح على التراب ، فيخرج فيراني ، فيقول: يابن عم رسول الله ! ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول :أنا أحق أن آتيك ، فأسألك . قال: فبقى الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي: فقال :( هذا الفتى أعقل مني ).
منهج ابن عباس بالتفسير !!
وكان ابن عباس رضي الله عنه من أشهر مفسري الصحابة، مع أنه كان أصغرهم سناً، وكان من منهج ابن عباس في تفسيره لكتاب الله أن يرجع إلى ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعه من الصحابة، فإن لم يجد في ذلك شيئاً اجتهد رأيه، وهو أَهْلٌ لذلك، وكان - رضي الله عنه - يرجع أحيانًا إلى أخبار أهل الكتاب، ويقف منها موقف الناقد البصير، والممحِّص الخبير، فلا يقبل منها إلا ما وافق الحق، ولا يُعوِّل على شيء وراء ذلك .
وقد نُسب لـ ابن عباس تفسير سُمِّي "تنوير المقابيس" طُبع مراراً في مصر، وتدور روايات الكتاب على طريق واحد، هو طريق السدي الصغير، عن محمد بن السائب الكلبي، عن ابن صالح؛ وهذه السلسلة تعرف بسلسلة الكذب.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمئة حديث " وعلى هذا فلا عبرة بهذا التفسير، ولا تصح نسبته إلى ابن عباس، فهو مقول ومختلق عليه .
فضائله :
ولقد رأى ابن عباس جبريل عليه السلام عند النبي مرتين .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا جاءته الأقضية المعضلة قال لابن عباس : إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل فأنت لها ولأمثالها، ثم يأخذ بقوله . وما كان يدعو أحدا سواه وذلك لحذقه واجتهاده.
وقال ابن عباس: كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم ، قال : فذكر أنه سألهم وسأله فأجابه، فقال لهم : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون.
وكان يفتي في عهد عمر و عثمان إلى يوم مات.
أخبر الطبراني في الكبير بأسناد رجاله رجال الصحيح عن عبد الملك بن ميسرة ، قال : جالست سبعين أو ثمانين شيخا من أصحاب سول الله ما أحد منهم خالف ابن عباس فيلتقيان إلا قال :القول كما قلت ، أو قال : صدقت .
وأخرج الحاكم في مستدركه من حديثه أيضا ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة فوضعت له وضوءاً ، فقالت له ميمونة : وضع لك عبد الله بن عباس وضوءاً ، فقال :(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).
وعندما نشبت فتنة الخوارج ذهب إليهم عبد الله بن عباس وناقشهم فيما التبس عليهم فهمه ، وأسفرت المناقشة عن اقتناع عشرين ألفاً منهم ، وعادوا إلى الحق.
ممـا قـيـل فيـه:
يقول مسروق : (كنت إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس ، فإذا تحدث قلت أعلم الناس ، فإذا نطق قلت أفصح الناس)
يقول عمر بن الخطاب:(ابن عباس فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول)
ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها لعليّ ابن أبي طالب رضي الهل عنه ، فقال: " إنه آخذ بثلاث، تارك لثلاث.. آخذ بقلوب الرجال إذا حدّث.. وبحسن الاستماع إذا حدّث.. وبأيسر الأمرين إذا خولف.. وتارك المراء .. ومصادقة اللئام.. وما يعتذر منه"..!!
وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال: " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس.. ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه.. ولا أفقه في رأي منه.. ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه.. ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها.. وما رأيت عالما جلس إليه إلا خضع له، ولا سائلا إلا وجد عنده علما"..!!
روى أحد أصحابه قال: لقد رأيت من ابن عباس مجلسا لو أن جميع قريش افتخرت به لكان لها مفخرة.
فلقد رأيت الناس اجتمعوا في الطرق المؤدية إلى بيته حتى ضاقت بهم، وسدوها في وجوه الناس.
ويحكى عن عبد الله بن عباس أنه ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان جبريل عنده فقال جبريل للنبي:(إنه حبر هذه الأمة فاستوص به خيرا ) ويقول عبد الله :(إن النبي كان يربت كتفي ويقول لي : نعم ترجمان القرآن أنت).
وقال ابن مسعود:(نعم ترجمان القرآن ابن عباس)
وقال مجاهدا:(كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه نورا)
وقال سعيد بن سالم حدثنا ابن جريج قال كنا جلوسا مع عطاء في المسجد الحرام فتذاكرنا بن عباس ، فقال عطاء: ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة إلا وتذكرة وجه ابن عباس.
وقال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا مر في الطريق ، قلن النساء على الحيطان : أمر المسك أم مر ابن عباس؟
قال عطاء بن أبي رياح: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس، لا أعظم جفنة ولا أكثر علما، أصحاب القرآن في ناحية، وأصحاب الفقه في ناحية، وأصحاب الشعر في ناحية، يوردهم في واد رحب.
وقال الزبير : حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني ، عن داود بن عطاء ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، أن عمرا دعا ابن عباس ، فقربه . وكان يقول : إني رأيت رسول الله دعاك يوما ، فمسح رأسك ، وتفل فيك ، وقال:(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال:(اللهم علمه الحكمة).
وعن شقيق، قال: كان ابن عباس على الموسم، أي موسم الحج، فخطب فافتتح سورة النور، فجعل كلما يقرأ يفسر، فقال شيخ من الحِيِ:(سبحان الله ما رأيت كلام يخرج من رأس رجل لو سمعته الترك لأسلمت).
وقال مجاهدا:(كان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علمه) ! وكان عطاء يقول : (قال البحر وفعل البحر).
وعن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن أرأف أمتي بها أبو بكر ! وإن أصلبها في أمر الله لعمر ! وإن أشدها حياءاً لعثمان ! وإن أقرئها لأبي ! وإن أفرضها لزيد ! وإن أقضاها لعلي ! وإن أعلمها بالحلال والحرام لمعاذ! وإن أصدقها لهجة لأبو ذر ! وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ! وإن حبر هذه الأمة لعبد الله بن العباس!!)
وعن سعيد بن جبير ، قال : قال عمر لابن العباس : لقد عُلِمت علما ما علمناه.
وعن مجالد عن الشعبي قال : قال ابن عباس : قال لي أبي : يا بني ! إن عمر دنيك ، فاحفظ عني ثلاثا : لا تفشين له سرا ، ولا تغتابن عنده أحدا ، ولا يجربن عليك كذبا.
قال ابن عبدالبر في ترجمة ابن عباس: هو القائل ماروي عنه من وجوه:
إن يأخذ الله من عيني نورهمــا ففي لساني وقلبي منهمـا نـورُ
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل و في فمي صارم كالسيف مأثور
صور ومواقف:
تأمل هذه الحادثة ..! كان ابن عباس مع زيد بن ثابت فأراد زيد أن يركب فرسه، فأمسك عبد الله بالركاب، واستعظم زيد أن يفعل ذلك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال: لا تفعل يابن عم رسول الله ! فقال ابن عباس في تواضع المؤمن : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ! فأقبل عليه زيد وقبل يده، وقال هكذا أمرنا أن نفعل مع أهل بيت نبينا !
وكان لابن عباس منزلة عالية عند عمر بن الخطاب، فكان يحبه ويقدمه على غيره، ويجلسه مع كبار المهاجرين والأنصار، حتى وجدوا في أنفسهم شيئا من ذلك، وسألوا لم لا يفسح لأبنائنا ما يفسحه لهذا الفتى ؟ وأراد عمر أن يكشف لهم سر هذا التقديم، فسألهم ذات يوم وابن عباس حاضر: ما تقولون في قول الله تعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ).. وقرأ السورة! فذهبوا يستوحون دلالة النص ، ودلالة الحدث ،
فقال بعضهم : أمر الله نبيه إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمده ويستغفره.
ولم يكن ذلك الجواب هو ما أراد عمرا ! فقال: يابن عباس .. تكلم ! قال ابن عباس : اعلم لله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة متى يموت ، فإذا جاء نصر الله والفتح فهذه آية موته ، التي أمر إذا رآها أن يسبح بحمد ربه ويستغفره .
وكان ابن عباس كريمًا جوادًا، وذات مرة نزل أبو أيوب الأنصاري البصرة حينما كان ابن عباس أميرًا عليها، فأخذه ابن عباس إلى داره وقال له: لأصنعن بك كما صنعت مع رسول الله (فاستضافه ابن عباس خير ضيافة).
وخلا عمر بن الخطاب يوما ففكر كيف تختلف الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد، فدعا ابن عباس فسأله عن ذلك فقال ابن عباس: أنزل القرآن علينا فقرأناه وعلمناه فيما نزل، وسيكون بعدنا أقوام يقرأونه ولا يدرون فيما نزل فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان ذلك اختلفوا، فزبره عمر، ثم إنه أرسل إليه فقال: أعد علي قولك، فأعاده فعرف عمر صوابه وأعجبه.
حدثنا أيوب عن عكرمة : أن عليا حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس ، لم أكن لأحرقهم أنا بالنار ، إن رسول الله صلى الله علية وسلم قال :(لا تعذبوا بعذاب الله ) وكنت قاتلهم لقوله صلى الله علية وسلم:(من بدل دينه فاقتلوه) فبلغ ذلك عليا فقال: ويح ابن أم الفضل ، إنه لغواص على الهنات.
قال الخطابي : لفظه لفظ الدعاء عيله ومعناه المدح له والإعجاب بقوله وهذا كقول الرسول صلى الله علية وسلم في أبي بصير :(ويل أمه مسعر حرب).
وإليك موقفاً من مواقف حكمته، وسرعة بديهته، وبلاغته:
لما اعتزل بعض أصحاب علي رضي الله عنه في نزاعه مع معاوية رضي الله عنه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه؟: ائذن لي، يا أمير المؤمنين، أن آتي القوم وأكلمهم.
فقال إني أتخوف عليك منهم.
فقال: كلا إن شاء الله.
ثم دخل عليهم فلم ير قوما قط أشد اجتهادا منهم في العبادة.
فقالوا: مرحبا بك يا بن عباس.. ما جاء بك؟!
فقال: جئت أحدثكم.
فقال بعضهم: لا تحدثوه.
وقال بعضهم: قل نسمع منك.
فقال: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله وزوج ابنته، وأول من آمن بت ؟!
قالوا ننقم عليه ثلاثة أمور.
قال وما هي ؟!
قالوا أولها: أنه حكم الرجال في دين الله.
وثانيها: أنه قاتل في صفين والجمل ولم يأخذ غنائم ولا سبايا.
وثالثها: أنه محى عن نفسه لقب أمير المؤمنين مع أن المسلمين قد بايعوه وأمروه.
فقال: أرأيتم أن أسمعتكم من كتاب الله، وحدثتكم من حديث رسول الله ما لا تنكرونه، أفترجعون عما أنتم فيه؟
قالوا نعم.
قال أما قولكم: انه حكم الرجال في دين الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم)).
أنشدكم الله، أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات بينهم أحق أم حكمهم في أرنب ثمنها ربع درهم؟!
فقالوا: بل في حقن دماء المسلمين وصلاح ذات بينهم.
فقال: أخرجنا من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: إن علياً قاتل ولم يسب كما سبى رسول الله.
أفكنتم تريدون أن تسبوا أمكم عائشة وتستحلونها كما تستحل السبايا؟!
فان قلتم: نعم، فقد كفرتم.
وان قلتم: إنها ليست بأمكم كفرتم أيضا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)).
فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.
ثم قال: أخرجنا من هذه أيضا؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: إن علياً قد محى عن نفسه لقب أمير المؤمنين، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب من المشركين يوم الحديبية أن يكتبوا في الصلح الذي عقده معهم ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) قالوا: لو كنا نؤمن أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: ((محمد بن عبد الله)) فنزل عند طلبهم وهو يقول: (والله إني لرسول الله وان كذبتموني).
فهل خرجنا من هذه؟
فقالوا: نعم.
وكان من ثمرة هذا اللقاء، وما أظهره فيه عبد الله بن عباس من حكمة بالغة وحجة دامغة أن عاد منهم عشرون ألفا إلى صفوف علي، وأصر أربعة آلاف على خصومتهم له عنادا وإعراضا عن الحق.
ولشدة إيمانه أنه لما وقع في عينه الماء أراد أن يتعالج منه فقيل له: إنك تمكث كذا وكذا يوما لا تصلي إلا مضطجعا فكره ذلك.
بعض مقولات ابن عباس:
لو أن العلماء أخذوا العلم بحقه لأحبهم الله عز وجل والملائكة والصالحون من عباده ولهابهم الناس لفضل العلم وشرفه.
• من حلم ساد ومن تفهم ازداد.
• إياك والكلام فيما يعنيك إذا كان في غير موضعه، ولا تمار سفيها ولا حليما، فان السفيه يؤذيك وإن الحليم يقليك، واذكر أخاك في غيبته بما تحب أن يذكرك به، ودعه مما تحب أن يدعك منه.
• لجليسي عندي ثلاث إذا أقبل رحبت به، وإذا قعد أوسعت له، وإذا تحدث أنصت لحديثه واستمعت منه.
• لا يتم المعروف إلا بثلاثة : تعجيله ، وصغيره عنده ، وستره ، فإنه إذا عجله هيأه ، وإذا صغره عظمه ، وإذا ستره فخمه.
• خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل ليتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رام.
• لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرًا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إلي من حجة بعد حجة، ولهدية أهديها إلى أخ لي في الله أحب إلي من دينار أنفقه في سبيل الله.
• إني كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله.
• مخاطباً أصحاب الذنوب: يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبة ذنبك، واعلم أن ما يتبع الذنب أعظم من الذنب نفسه.
فإن عدم استحيائك ممن على يمينك وعلى شمالك وأنت تقترف الذنب، لا يقل عن الذنب.وإن ضحكك عند الذنب وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب.
وإن فرحك بالذنب إذا فاتك أعظم من الذنب.
وان خوفك من الريح إذا حركت سترك، وأنت ترتكب الذنب مع كونك لا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب.
يا صاحب الذنب: أتدري ما كان ذنب أيوب عليه السلام حين ابتلاه الله عز وجل بجسده وماله؟
إنما كان ذنبه أنه استعان به مسكين ليدفع عنه الظلم فلم يعنه.
بكاء عبد الله ابن عباس:
* عند تذكرة ليوم الخميس الذي اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع.
أخرج الشيخان في الصحيحين: عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:(يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بل دمعه الحصى ، فقلت: يابن عباس ، وما يوم الخميس؟ قال : اشتد برسول الله وجعه ، فقال:(ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي) فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع ...) الخ...
*بعد أن قطع اعتكافه ليقضي حاجة لمسلم ذاكرا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل ذلك على الاعتكاف وعن ابن عباس رضي الله عنهماـ:
أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس ، فقال له ابن عباس : يافلان أراك مكتئبا حزينا ؟ قال نعم يا ابن عم رسول الله ، لفلان علي حق ولاء ، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه . قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك، فقال: إن أحببت؟ قال فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد . فقال له الرجل : أنسيت ما كنت فيه ؟قال لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب فدمعت عيناه ، وهو يقول :(من مشى في حاجة أخيه ، و بلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين).
وفـاتـه:
عاش ابن عباس ، ينشر نو الدعوة ، ويشرح تعاليم الإسلام ، وكف بصره في أواخر حياته ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله علية وسلم عن موسى عن ميسرة ، أن العباس بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله علية وسلم في حاجه ، فوجد عنده رجلاً ، فرجع ولم يكلمه ، فلقي العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فقال: أرسلت إليك ابني ، فوجد عندك رجلاً ، فلم يستطع أن يكلمك ، فقال: يا عم أتدري من ذاك الرجل ؟ قال: لا قال: ذاك جبريل لقيني ولن يموت ابنك حتى يذهب بصره ويؤتى علماً.
وفي سنة 68هـ توفي ابن عباس البحر ، وكان عمره 71هـ . وكان مرضه ثمانية أيام .
وقال الواقدي وغيره: نزل في قبر عبد الله بن العباس وتولى دفنه علي بن عبد الله ومحمد بن الحنفية والعباس بن محمد بن عبد الله بن العباس، وصفوان، وكريب، وعكرمة، وأبو معبد مواليه.
آية عند الممات:
عن سعيد بن جبير ، قال : مات ابن عباس بالطائف فشهدنا جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقته حتى دخل في نعشه ، ثم لم ير خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية لم يدر من تلاها:(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)
استنتج من سيرة ابن عباس الأشياء التي أبرزت شخصيته :
1. المثابرة في تحصيل العلوم النافعة واحترام العلماء وإنزالهم منزلتهم . الشاهد: حينما كان يجلس عند الباب ينتظر شيخه يخرج.
2. أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم. الشاهد: حينما صلى بجانب رسول الله جره حذاءه فرجع خلفه.
3. ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم. الشاهد: أنه رأى جبريل مرتين عند الرسول.
4. إكرامه للأكابر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .الشاهد قوله: كنت أكرم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم من المهاجرين والأنصار وأسألهم عن مغازيه ، وما نزل من القرآن.
5. وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا. وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس.. يقول عن نفسه: " إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم.. واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!! واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة " .
6. فضل العمل الصالح واغتنام فترة الشباب في تحصيل العلم والعمل به.الشاهد: قصته في طلب العلم.
7. مطابقة القول العمل وان يحرص العالم على تبليغ العلم الى الناس ويكون هدفه من وراء ذالك ابتغاء وجه الله رب العالمين.
بتصرف من اللجنة العلمية...
المقدمة :
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم