خطبة الجمعة

علي الطنطاوي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات

اقتباس

ولو سألت مَنْ شئت من المصلين عن هذه الخُطَب؛ لسمعت منه طرفًا من عيوبها
والدعاء للسلاطين بأسمائهم بدعة، وقد نصَّ الحنفية على أنه مكروهٌ إن ذُكِرَ السلطان بالتعظيم
ولو كان عُشْر هذه المنابر في أيدي جماعة من الجماعات العاملة المنظمة؛ لصنعت بها العجائب؛ فما بالنا وهي في أيدينا لا نصنع بها شيئًا؟!

 

 

 

كان وفد من العلماء يزور واحدًا من كبار أولي الأمر من عهد قريب، يشكو إليه فساد الأخلاق، وانتشار المعاصي، وهذه المنكرات البادية، فقال لهم: "أنا أعجب من أمركم، عندكم هذه المنابر التي تستطيعون أن تصلحوا بها كل فاسد، وتقوِّموا كلَّ معوجٍّ، ثم تَشْكُون إليَّ ما تجدون؟!". 

وهي كلمة أجراها الله على لسانه لتقوم بها الحجة علينا مرتين: مرة لأنها كلمة حق، لا ينازع في صحتها منازع، ومرة لأنها جاءت موعظة منه هو لمن يتصدُّون لوعظ الناس!! ولو كان عُشْر هذه المنابر في أيدي جماعة من الجماعات العاملة المنظمة؛ لصنعت بها العجائب, فما بالنا وهي في أيدينا لا نصنع بها شيئًا؟!

وما أذهبُ في الاستدلال إلى عرض أوجه الاحتمال، وعندي الواقع الذي ليس فيه جدال، هو منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذه المنابر.
كان للرسول صلوات الله عليه منبر واحد، درجات من الخشب، ليس فيها براعة النقش، ولا فيها روعة الفن، ليس عليها قُبَّة، ولا لها باب، دعا منها فلبَّت الدنيا واستجاب العالم، وترك بها على الأرض أعظم أثرٍ عرفه تاريخ الأرض.

وعندنا اليوم مائة ألف منبر، مبثوثة ما بين آخر إندونيسيا وآخر المغرب، كلها مزخرفٌ منقوشٌ، استنفد جَهْد أهل العمارة وعبقرية أهل الفن، وفيها المكبرات والإذاعات تحمل الصوت منها إلى آفاق الأرض؛ فيُسمع خطباؤها الملايين، ولا نرى لها مع ذلك أثرًا في إصلاحٍ ولا عملاً في نهضة، فما هو السرّ في تلك القوة وفي هذا الضعف؟

تعالوا نفكر في ذلك جميعًا، نعرض أحوال هذه الخُطَب، ونفتِّش عن حالها، ولا يغضب مني أحدٌ، فما أريد الفضيحة ولا التشهير؛ إن أريد إلا الإصلاح، وأنا بعدُ واحدٌ من الخطباء، لستُ غريبًا عنهم ولا مبرَّأ من عيوبهم، وما يُقال فيهم يُقال مثله فيَّ أنا، ومن أجراكَ مجرى نفسه ما ظلمكَ.

ولو سألت مَنْ شئت من المصلين عن هذه الخُطَب؛ لسمعت منه طرفًا من عيوبها، فمن عيوبها: هذا التطويل وهذا الإسهاب، حتى لتزيد الخطبة الواحدة - أحيانًا - إلى نصف ساعة، مع أنَّ السنَّة تقصير الخطبة وتطويل الصلاة، وألا تزيد الخطبة على سورة من أوساط المفصَّل، أي: على صفحتين اثنتين فقط.

وهذه خطب الرسول المأثورة، وخطب الصحابة، منها ما هو صفحة واحدة أو أقل من ذلك، ويا ليت دائرة الإفتاء أو الأوقاف تُلزم الخطباء بألا تزيد أطول خطبة يلقونها عن ربع ساعة.

وأنا أخطب في مسجد جامعة دمشق، فلا تمرُّ ثُلُث ساعة، أو خمس وعشرون دقيقة على أذان الظهر - حتى تكون قد انتهت الخطبة والصلاة؛ ذلك لأننا تركنا هذه البدع التي تكون قبل الخطبة؛ فلا نقرأ ما يسمَّى (الصمديَّة)، ولا يجهر المؤذن بهذه الصلوات؛ بل نسمع أذان الظهر فنصلِّي السنَّة، ويصعد الخطيب المنبر فورًا.

وكذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا خير فيما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن عيوبها: أنه ليس للخطبة موضوع واحد معين؛ بل تجد الخطيب يخوض في الخطبة الواحدة في كل شيء، وينتقل من موضوع إلى موضوع، فلا يوفِّي موضوعًا منها حقَّه من البحث، فإذا جاء الجمعة الثانية عاد إلى مثل ما كان منه في الجمعة الأولى؛ فتكون الخطب كلها متشابهة متماثلة، وكلها لا ثمرة لها، ولا يخرج السامع له بنتيجة عمليَّة.
ولو أن الخطيب اقتصر على موضوع واحد - جلَّ أو دَقَّ، كَبُرَ أو صغر - فتكلم فيه ولم يجاوزه إلى غيره؛ لكان لخطبته معنى، ولأخذ السامع منها عبرة، وحصَّل منها فائدة.

ومن عيوبها: أن الخطيب - أعني بعض مَنْ يخطب - يحاول أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة، فلا يخاطب الناس قَدْرَ عقولهم، ولا يكلِّمهم على مقتضى أحوالهم، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوةً خطوة؛ بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة، مع أن الطفرة في رأي علمائنا محالٌ.

ومن عيوبها: أنها صارت (كليشات) معيَّنة، ألفاظ تُردَّد وتُعاد، لاسيَّما في الخطبة الثانية، مع أن الخطبة الثانية لا تختلف في أصل السنَّة عن الأولى، وما يلتزمه الخطباء فيها من الصلاة الإبراهيمية، والترضِّي على الخلفاء والتابعين بأسمائهم - لم يلتزمه أحدٌ من السلف.
وخطبة الجمعة عند الحنفية لا يُشترط لصحَّتها إلاَّ أن تكون دينية، وأن يكون فيها تذكيرٌ بالشَّرع، وهذه (الكليشات) كلها ليست من شروط الخطبة.

والدعاء الذي يكون في آخر الخطبة ليس شرطًا، ولا كان السلف يواظبون عليه.
والدعاء مطلوبٌ، وهو مخُّ العبادة وروحها، ولكنَّ الدعاء المطلوب هو الذي يكون عن قلبٍ حاضر، ومراقبة الله، وثقةٍ بالإجابة، فإن كان الدعاء بالمأثور كان أحسن، أما أن يكون الغرض منه إظهار سَعَة الحفظ وبلاغة اللفظ فلا.

والدعاء للسلاطين بأسمائهم بدعة، وقد نصَّ الحنفية على أنه مكروهٌ إن ذُكِرَ السلطان بالتعظيم، فإن قال عنه ما ليس فيه - كما كان بعض الخطباء في مصر يقولون عن فاروق - فكذبٌ وافتراءٌ.

وآية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90] التي يلتزمها الخطباء في آخر الخطبة، ويظنها العامَّة من شرائط الخطبة - ليست شرطًا فيها، فإن تلاها أو تلا غيرها، أو لم يتلُ في ختام الخطبة شيئًا - لم يكن عليه شيءٌ.

وكونهما خطبتَيْن والقعود بينهما سنَّة؛ فإن جعلها خطبةً واحدةً – ولو جملاً معدودات فقالها ونزل - لا شيء عليه عند الحنفية.

ولما ولي عثمان الخلافة، صعد المنبر ليخطب أول جمعة؛ فأُرْتِجَ عليه ولم يستطع الكلام؛ فقال: "إنَّ مَنْ كان قبلي كان يُعِدُّ لهذا المقام كلامًا، وأنا إن أَعِشْ فستأتيكم الخطب على وجهها - إن شاء الله"، ونزل! وكانت هذه هي الخطبة, ولم يعترض عليها أحدٌ من الصحابة.

ومن عيوبها: هذا التكلُّف في الإلقاء، وهذا التشدُّق في اللفظ، وهذه اللهجة الغريبة، وخير الإلقاء ما كان طبيعيًّا لا تكلُّف فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم قد كره المتشدِّقين وذمَّهم.

ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا: أن الخطيب ينسى أن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلَّم بلسان الشَّرع، وأنَّ عليه أن يبيِّن حكم الله فقط, لا آراءه هو وخطرات ذهنه، ويحرِّض على رضا الله وحده لا على رضا الناس، فلا يتزلَّف إلى أحد، ولا يجعل الخطبة وسيلةً إلى الدنيا، وسببًا للقبول عند أهلها.

ومن عيوبها: أن من الخطباء مَنْ يأتي بأحكام غير محقَّقة ولا مسلَّمة عند أهل العلم، يُفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتَّفق عليها وأمر بها العامَّة، وترك الخلافيَّات لمجالس العلماء لكان أحسن.

ومنهم- وهذا كثير- من يأتي بالأحاديث الموضوعة أو الضعيفة المتروكة، مع أنه لا يجوز لأحد أن يُسنِد حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتوثَّق من صحَّته، بأن يصحِّحه أحد المحدِّثين الموثوق بهم، كأصحاب الكتب الستة - على اختلاف شروطهم في تصحيح الأحاديث- أو يعتمده فقهاء مذهب من المذاهب الأربعة، ويتفقوا على الأخذ به. ومَنْ أخذ كل حديث يجده في كتاب، أو يسمعه من فم إنسان، فنسبه على المنبر إلى الرسول من غير أن يعرف درجته من الصحة، ومن غير أن يبحث عن مخرجه وراويه؛ أوشك أن يكون داخلاً تحت حديث: "مَنْ كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوَّأ مقعده من النار".
فليتنبَّه الخطباء إلى هذا؛ فإنه لمن أهمِّ المهمَّات.

ويا ليت خطيب كل مسجد يُعِدُّ لخطب الشهر برنامجًا يعلقه على باب المسجد، أو يبيِّن للناس على الأقل أن خطبة الجمعة القادمة موضوعها كذا، ومدتها كذا؛ ليكون المصلِّي على بيِّنة من أمره، ويجعل الخطبة الثانية مطلقةً، يتكلم فيها عمَّا يجِدُّ بعد إعلان موضوع الخطبة الأولى، أو يجعلها موعظة عمليَّة.

وأن يكون منهج الخطيب: أن يعمل لإصلاح الأفراد أولاً، ثم يتكلم عن إصلاح الأُسَر والبيوت، ثم يبحث في الإصلاح العام، وأن يبدأ بما بدأ به الشَّرع، فيصحِّح التوحيد أولاً، ثم يأمر باجتناب المحرَّمات ويعددها، ويجعل لكل منها خطبةً، من آفات اللِّسان كالكذب والغيبة والنميمة، إلى السرقة والزنا والغشّ، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وأمثالها.
ثم يأمر بالفرائض، ويجعل لكلٍّ منها خطبةً يبيِّن فيها أحكامها، لا بيان الفقيه الذي يعدِّد الشروط والأركان والسنن والمكروهات؛ بل بيان المُرْشِد الذي يبيِّن الأعمال، ويدل على طريق الإخلاص فيها، فيتكلم عن الصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف، وما إلى ذلك.

وعلى السامعين أن يعلموا أن سماع الخطبة ليس للبركة فقط؛ بل للاتعاظ بها، والعمل بما يتعلَّمه منها، والعاقل منهم مَن استفاد من صحة القول ولو شكَّ في حال القائل، والحكمة ضالَّةُ المؤمن يأخذها من حيث وجدها.

هذه خواطرٌ في الموضوع، لم أقصد فيه لمَّ جوانبه، وجمع أطرافه، واستيفاء القول فيه؛ لأن الكلام فيه طويل، والمجال قليل، والقصد التنبيه.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات