ظل الرحمن

عبدالله بن عمر السحيباني

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/أهوال يوم القيامة وكرباتها 2/وقفات مع حديث السبعة الأصناف الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله

اقتباس

في ذلك اليوم العصيب والكرب الشديد، والهم والغم والألم، هناك أقوام من المؤمِنين أكرَمَهم الله -تعالى-، ولطف بهم، لا ينالهم ضررُ الشمس، ولا يؤذيهم منها عَرَق، يظلّهم ربهم تحت ظلِّ أعظم مخلوق خَلَقه...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

أيّها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوَى الله -عزّ وجل-، فمنِ اتَّقى الله وقاه، ومن كلِّ كربٍ أنجاه، ثم جَعَل الجنّةَ مأوَاه ومَثوَاه.

 

يوم عصيب وكرب شديد يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم يشيب فيه المولود، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، يوم يستغني المرء فيه بنفسه وينسى غيره، يوم يفرّ المرءُ من أخيه وأمِّه وأبيه، يوم أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله وعليه وسلم- عن بعض كربه بقوله: "تُدنى الشَّمسُ يومَ القيامَةِ مِنَ الخلقِ حتى تكونَ مِنهم كمِقدارِ مِيل، فيكون الناسُ على قَدرِ أعمَالهم في العَرَق، فمنهم من يكون إلى كَعبَيه، ومِنهم مَن يكون إلى رُكبَتَيه، ومِنهم من يكون إلى حقوَيه، ومنهم من يُلجِمُه العرَقُ إلجامًا" قال: وأشار النبيّ -صلى الله وعليه وسلم- بيدِه إلى فيه" (رواه مسلم).

 

تصوروا -أيها المسلمون- هذه الشمس الملتهبة تقترب من الأجساد فيبلغ الجهد والجزع منتهاه، ويبلغ الكرب النفسي والبدني أعلاه، والناس حفاة عراة لا تسمع منهم إلا همسا، ذلك يوم مجوع له الناس، يجمَع اللهُ فيه الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ يُسمعهم الداعي ويَنفُذُهم البَصَر، لا ماءَ ولا شجَر، ولا ظلَّ ولا مدر، ولا حتى حَجَر.

 

قد (دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا) [الفجر:21]، (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا) [الواقعة:5-6].

 

أرض قاع صفصف لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.

 

أيّها المسلمون: في ذلك اليوم العصيب والكرب الشديد، والهم والغم والألم، هناك أقوام من المؤمِنين أكرَمَهم الله -تعالى-، ولطف بهم، لا ينالهم ضررُ الشمس، ولا يؤذيهم منها عَرَق، يظلّهم ربهم تحت ظلِّ أعظم مخلوق خَلَقه، فهم في كنفه وتحت ظل عرشه.

 

إنهم عباد الله وخاصته، اصطفاهم فهم في ظلٍّ ظليل حتى يُقضَى بين العِباد؛ في الصحيحين أنَّ النبيَّ -صلى الله وعليه وسلم- قال: "سَبعةٌ يظِلّهم الله -تعالى- في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلُّه: إمامٌ عادِل، وشابٌّ نشَأ في عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَم شمالُه ما تنفِق يمينه، ورجلٌ ذكَر الله خالِيًا ففاضَت عيناه" قال ابنُ عبد البرّ -رحمه الله-: "هذا أحسَنُ حديث يُروى في فضائلِ الأعمال وأعمُّها وأصحُّها".

 

سبعة أصناف من الناس هم أسعد الخلق ذلك اليوم، لا خوف عليهم في ذلك الموقف الرهيب ولا هم يحزنون، الجامع لصفاتهم خشيةُ الله -تعالى- ومراقبته بالغيب، أصلحوا بواطنهم، وحرصوا على إخفاء أعمالهم، وعاملوا الله بصدق فصدقهم وعده، وعرفوه في الرخاء فعرفهم في الشدة.

 

فالإمام العادل ذاك التقي الذي يخاف الله فيما استرعاه من أمانة، مع قدرته على البطش والظلم، ويدخُل فيه كلُّ مَن إليهِ نظرٌ في شيءٍ من مَصالح المسلمين مِنَ الوُلاةِ والحكّام كما قالَ النوويّ -رحمه الله-، وبَدَأ به لكَثرةِ مصالحِه وعمومِ نَفعِه.

 

أما الشابُّ الذي نشَأ في عبادةِ الله فهو ذاك الفتى القوي في جسمه وقلبه ليس له كبوة ولا صبوة، في الوقت الذي يغر الشباب والفتوة كثيرين من أبناء جنسه، إنه شاب طيب القلب، طلق الوجه، يحترم الكبير، ويرحم الصغير، عزيمته في الخير قوية، وإرادته لنفع الآخرين صادقة، زاده الله هدى وتوفيقا لما اهتدى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف:13].

 

وأمّا الذي قلبه معلق بالمساجِد، فهو الذي يحب الصلاة، حتى  أنه لفرط حبه انشغل قلبه وفكره في شأن الصلاة، ينتظر وقتها ويحب أمكنتها، أنسه وراحته في المساجد بيوت بالله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 26-37].

 

أمّا الرجلان اللذان تحابا في الله فاجتمعا عليه وتفرقا عليه، فربما يكون عملهما في نظر البعض من أهون الأعمال، لكنه وربي مِن أوثقِ عُرى الإيمانِ، ومن أجل الأعمال وأصعبها على القلوب، قلوب سليمة نقية، سريرتها خير من علانيتها، قلوب أحبت لغيرها ما تحب لنفسها من الخير والفضل، وكرهت لغيرها ما تكره لنفسها من الأذى والشر، أصدقاء في ذات الله لم تجمعهم أرحام بينهم، ولا مصالح دنيوية، إنما جمعهم الصدق والإخلاص والمحبة لله وفي الله، صداقة متصلة ومودة دائمة إنهم المتقون المتحابون في الله، حين تنقطع الصداقات: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67].

 

أمّا ذاك الرجل الذي دعته امرأة ذلت منصب وجمال فتركها، وقال: إني أخاف الله، فقد ثبت في امتحان وبلاء وفتنة، وصلت عنده ودعته وتوافرت أسباب المعصية الحسية، فهي وجيهة جميلة، فاتنة مغرية، لكنه قال: إني أخاف الله، قال: إني أخاف الله في حين تتبع غيره مواضع الفتنة والريبة، وتابع وراسل وسعى وسافر إلى حيث العهر والرذية والحرام، قال: "إني أخاف الله"؛ لأنه موقن بأن الله يراه.

 

وَإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ في ظُلمَةٍ *** وَالنَفسُ داعيَةٌ إِلى الطُغيانِ

فاِستَح مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَها *** إِنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني

 

(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:40-41].

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها المسلمون: وممن يضله الله بظله في ذلك اليوم: ذاك المتصدق بصدقة خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، لقد بالغ في الإخلاص والصدق، وأنفق ماله رجاء موعود الله -تعالى-، إنه يتصدق لوجه الله، ويذكر فضل الله عليه، قد تخطى عقبة الشح والجشع، وأنقذه الله فلم يكن من عبدة الدرهم والدينار، وأنقذه الله فلم يكن ممن ينفق ماله رياء الناس.

 

أما آخر تلك الأصناف السبعة فهو عبد علم ضعفه وعجزه، فرق قلبه ودمعت عينه، دمعت عينه في حال كونه خاليا بعيدا عن نظر الناس، دمعت عينه محبة لله وشوقاً إليه ورجاء لما عنده، أو دمعت عينه وبكى حين تذكر عظمة الله وكثرة ذنوبه ومعاصيه، وإسرافه وتفريطه في جنب الله، دمعت عينه حين علم أن نيران المعاصي التي تلتهب في قلبه لا يطفئها إلا تلك الدموع، دمعت عينه ولسان حاله يقول:

نزف البكاءُ دموعَ عينك فَاسْتَعِرْ *** عيناً لغيرك دمعُها مدرار

من ذا يعيـرك عينَه تبكـي بها *** أرأيت عينا للدموع تُعار

 

روى عقبة بن عامر قال: قلت: "يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"، وفي الحديث الصحيح قالَ عليه الصلاةُ والسلام: "لا يلِج النارَ رجلٌ بكَى من خشيةِ الله حتى يعودَ اللبنُ في الضَّرع".

 

أيها المسلمون: ما أسعد من أتى بشيء من تلك الصفات، بواحدة أو أكثر، إنهم الآمنون حين يفزع الناس، والمستظلون حين يعرق الناس.

 

عسى الله أن يجعنا جميعا بهم.

 

اللهم ارحمنا فوق الأرض، وارحمنا تحت الأرض، وارحمنا يوم العرض.

 

اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

 

اللهم اجعلنا عند قيام الأشهاد من الآمنين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، نحن ووالدينا ووالديهم وذرياتهم يا رب العالمين.

 

اللهم أعز الإسلام...

 

المرفقات

ظل الرحمن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات