صناعة المنتكسين

الشيخ هلال الهاجري

2022-11-04 - 1444/04/10 2022-11-08 - 1444/04/14
عناصر الخطبة
1/في قصص القرآن والسنة دروس وعبر من أهمها ثبات القلب 2/صناعة المنتكسين طريقة سلكها أهل الكتاب لصد المؤمنين فترة بعثة النبي الكريم 3/طريق الشهوات والإغراءات هي الأسلوب الأحدث لصناعة الانتكاسة في عصرنا 4/دعوة للثبات ولزوم الاستقامة

اقتباس

أما في الأزمِنَةِ المُتأخرةِ ومَعَ تَغيُّرِ الأحوالِ والرِّجالِ؛ فَقَد استَخدمَ الأعداءُ طَريقةً أُخرى في صِناعةِ المُنتَكسينَ، أسهَلُ في التَّنفيذِ، وأَوفرُ في الوَقتِ، وأَعظمُ في الفِتنةِ، ألا وهِيَ إغواءُ الثَّابتينَ وإسقاطُهم في بُحورِ الشَّهواتِ والشُّبَهاتِ؛ حتى رأينَا فِي...

الخطبة الأولى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:

 

في نِهايةِ سُورةِ هُودٍ المَليئةِ بِقَصَصِ الأنبياءِ، أَخبرَ اللهُ -سُبحَانَهُ- الحِكمَةَ مِن هَذهِ القَصَصِ؛ فَقَالَ: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ‌مَا ‌نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)؛ فَعَلامةُ الحقِّ هُوَ ثَباتُ أهلِهِ عَليهِ، وعِندَما سَألَ هِرَقْلُ أَبا سُفيانَ بنَ حَربٍ قَبلَ إسلامِهِ: "هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟، قَالَ أَبو سُفيانَ: لَا، فَقَالَ هِرَقْلُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ"؛ فَعَلِمَ أنَّهُ الدِّينُ الحَقُّ، ولِذلكَ كَانَ ذِكرُ مَواقفِ الثَّابتينَ الأَولينَ، تَثبيتاً لِلأَتباعِ الآخِرينَ.

 

ولِذلكَ كَانَ مِن الوَسائلِ الخَبيثةِ التي استَخدَمَها أهلُ الكِتابِ في المَدينةِ لِصَدِّ النَّاسِ عَن الإسلامِ، هو صِناعةُ المُنتَكسينَ كَما في قَولِهِ تَعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ‌وَاكْفُرُوا ‌آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)؛ فَيتَظاهرونَ بالإسلامِ والإيمانِ في أَولِ النَّهارِ، ثُمَّ يَعِيبونَهُ ويَخرجونَ مِنهُ في آخرِ النَّهارِ، فَيَقولُ النَّاسُ: لَو كَانَ هَذا الدِّينُ حَقَّاً لَما تَرَكَهُ أهلُ الكِتابِ؛ فَهُم أَعلمُ بِأَديانِ الأنبياءِ وكُتبِ اللهِ السَّابقةِ، فَتَكونُ فِتنةٌ عَظيمةٌ في تَشكيكِ النَّاسِ بالمَنهجِ القَويمِ، وصَدِّهم عَنِ الصِّراطِ المُستَقيمِ.

 

وإنما احتاجَ الأعداءُ إلى صِناعةِ المُنتكسينَ مِنهم في ذلكَ الزَّمانِ، لأنَّهم ما استطاعوا على إغواءِ الرِّجالِ، الذينَ كَانَ الإيمانُ في قُلوبِهم كالجِبالِ، واسمَعوا لِهذَا المَوقفِ: عِندَما هَجرَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ- والنَّاسُ كَعبَ بنَ مالكِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- لَمَّا تَخلَّفَ عَن غَزوةِ تَبوكٍ دُونَ عُذرٍ، فَلا يُكلِّمُهُ أحدٌ، وهو الشَّاعرُ المَعروفُ صَاحبُ النَّفسِ العَزيزةِ، الذي يَسعى الجَميعُ لِكَسبِ لِسانِهِ، يَأتيهِ في عِزِّ الأزمَّةِ كِتابُ ‌مَلِكِ ‌غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ"؛ فَقَالَ حِينَ قَرَأَها: "وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَّرْتُهَا بِهَا"، هَكَذا كَانُ رِجالُ الإسلامِ.

 

أما في الأزمِنَةِ المُتأخرةِ ومَعَ تَغيُّرِ الأحوالِ والرِّجالِ؛ فَقَد استَخدمَ الأعداءُ طَريقةً أُخرى في صِناعةِ المُنتَكسينَ، أسهَلُ في التَّنفيذِ، وأَوفرُ في الوَقتِ، وأَعظمُ في الفِتنةِ، ألا وهِيَ إغواءُ الثَّابتينَ وإسقاطُهم في بُحورِ الشَّهواتِ والشُّبَهاتِ؛ حتى رأينَا فِي الرِّجالِ مَن يَصدقُ عَليهِ قَولُه تَعَالى: (‌فَتَزِلَّ ‌قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، ومِن النِّساءِ مَن يَصدقُ عَليها قَولُه تَعالى: (نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ‌أَنْكاثاً)، وأَصبحَ كَثيرٌ مِن الحَيَارى يَنظرونَ في جَميعِ الجِهاتِ، ويَقولونَ: أينَ الصَّالحونَ والصَّالحاتُ؟، أينَ المُربُّونَ والمُرَبيِّاتُ؟، أينَ مَن كُنَّا نَظُنُّهم قُدواتٍ؟.

 

فَيا مَن كَانَ شَامخاً في قِمَمِ الخَيرِ والصَّلاحِ، يا مَن كَانَ رَمزاً لِلفَضيلةِ والفَلاحِ، أينَ تِلكَ المَبادئُ الرَّاسخةُ والقِيَمُ؟ أينَ تِلكَ الأخلاقُ الحَسَنةُ والشِّيَمُ؟ أينَ ذلكَ الكلامُ عن الثَّباتِ في زَمنِ المُتَغيِّراتِ؟ أينَ تِلكَ المَواعظُ التي تَفيضُ لَها الدَّمَعاتُ؟ أَينَ غَضُ البَصرِ في الرِّجالِ والنِّساءِ؟ أينَ السِّترُ والحِشمةُ والحَياءُ؟ أينَ قَومي؟ أينَ صَحبي؟

فانتَبِهوا لِهَذا التَّغيُّرِ السَّريعِ والكَبيرِ، والحَذرُ مِن الانزلاقِ في الوَحلِ الخَطيرِ، فالنَجاةَ النَجاةَ؛ (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

 

‌أَقولُ ‌مَا ‌تَسمعونَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِسائرِ المسلمينَ؛ فَاستغفروهُ، فَقد فَازَ المُستغفرونَ، وسَعِدَ الآيِبونَ.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ، آوى التَّائبَ الذي إلى لُطفِهِ أَوَى، ودَاوَى بِفَضلِه المَريضَ الذي يَئسَ مِن الدَّوا، وأَشهدُ أَن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أن نَبيَّنا مُحمَّدًا عَبدَهُ ورَسولَهُ شَهادةً نَرجو بها الفَوزُ والهُدى، والنَّجاةَ من الخَيبةِ والرَّدى، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِه مَا انفلقَ صُبحٌ ثُمَّ بَدا وسَلَّم تَسليمًا، أَمَّا بَعدُ:

 

أيُّها الأحبَّةُ: فإذا كَانتْ الانتِكَاسةُ سَبَباً لِلتَّجريحِ في المَنهَجِ الصَّحيحِ، فَكَذلكَ الثًّباتُ على الدِّينِ هو سَببُ الاطمِئنانِ واليَقينِ؛ فَهَذا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَطْعَنُهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جَبَّارُ بْنُ ‌سُلْمَى يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَلَمَّا طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ قَالَ: ‌فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ سَأَلَ جَبَّارٌ بَعْدَ ذَلِكَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ‌فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ؟، قَالُوا: يَعْنِي بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ جَبَّارُ بِسَببِ ثَباتِ عَامرٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُما-.

 

فيَا أيُّها الثَّابتُ فِي أيَّامِ الصَّبرِ يا أيُّها القَابضُ على الجَمرِ: نَفرَحُ بِرؤيتِكَ وأَنتَ لا زِلتَ على العَهدِ والمِيثاقِ، ونَحنُ إلى سَماعِ كَلامِ العِزَّةِ والرُّسوخِ بالأشواقِ، كَم ثَبتَ بِثَبَاتِكَ خَلقٌ كَثيرٌ وكَمْ أَغَظْتَ مِن عَدوٍّ وشِريرٍ، وصَدقَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لا تَزالُ طَائفةٌ من هذه الأُمَّةِ قَائمةٌ بَأمرِ اللهِ، لا يَضرُّهم من خَذَلهم ولا مَنْ خَالفَهُم حَتى يَأتيَ أَمرُ اللهِ وهُم عَلى ذَلك"؛ فَالثَّباتَ الثَّباتَ، ونُوصِيكَ بِما أوصى اللهُ -تَعالى- رَسولَهُ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَم- حِينَ قالَ لَهُ: (‌فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

تَثَّبَتْ بالعَقيدةِ ما تَولَّتْ *** جُموعُ النَّاسِ واُفتُقِدَ الثَّباتُ

وكُنْ في وَجهِ ما تَلقاهُ جَلْداً *** وكُنْ جَبَلاً إذا نَزلَ الرُّماةُ

 

اللهم يا مُقَلِبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا على دينِكَ، ويا مُصَرِّفَ القلوبِ صَرِّفَ قُلُوبَنا على طاعتِكَ، اللهم أصْلِحْ لنا دينَنا الذي هو عِصْمَةُ أَمرِنا، وأصْلِحْ لنا دنيانا التي فيها مَعَاشُنا، وأصلحْ لنا آخرتَنا التي فيها مَعَادُنا، واجْعَل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجْعَل الموتَ راحةً لنا مِنْ كلِّ شرٍ، اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وفرِّج كربَهم، وأرغدْ عيشَهم، وارفعْ بلاءَهم، وأصلح قادتَهم، واجمعهم على الكتابِ والسنةِ يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفقْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه لما تحبُّ وترضى وخذ بناصيتِه للبرِ والتقوى، اللهم احفظهما ووفقهما للصالحاتِ وهيئ لهما البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُّهما على الخيرِ وتعينُهما عليه ياربَّ العالمينَ.

المرفقات

صناعة المنتكسين.pdf

صناعة المنتكسين.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات