عناصر الخطبة
1/ فضائل صنع المعروف للآخرين 2/ عِظَم جزاء المحسنين إلى الآخرين 3/ ثمرات صنع المعروف 4/ لذة عمل الخير والإحسان إلى الآخرين.اقتباس
هذه السعادة التي يجدها الإنسان حين يصنع المعروف سعادة لا تعدلها سعادة، وشعور لا يعدله أي شعور في هذه الدنيا، والله لو ملك الإنسان كنوز الدنيا كلها فلن يجد السعادة التي يجدها حين يحسن إلى الناس، وحين يصنع المعروف للخلق، ومن كان يشعر بالحزن والهم والغم والاكتئاب فليعالج نفسه بهذا؛ بصنع المعروف للناس، وسيجد أن الله -سبحانه وتعالى- قد أبدل همه وغمه وحزنه فرحة وسرورًا وسعادة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد أيها المسلمون عباد الله: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذهب إلى غار حراء فيتعبد فيه، ويعتكف الليالي الطويلة حتى جاءه جبريل ونزل عليه وهو في الغار، فأخذه وضمَّه إليه ضمة شديدة ثم أرسله وقال له: "اقرأ"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنا بقارئ"، فأخذه الثانية وقال: "اقرأ"، وأخذه الثالثة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "ما أنا بقارئ"، أي: لست أحسن القراءة، ففي الثالثة قرأ عليه قول الله -تبارك وتعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1- 5].
أول آيات أنزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فزع النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الذي جرى ورجع إلى أهله خائفًا من الذي رآه، وأخذ يقول لزوجه خديجة -رضي الله عنها وأرضاها-: "زملوني زملوني"، أي غطوني، فزملوه وغطوه، فلما ذهب عنه الروع أخبر خديجة بالخبر، وقال لها: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت له خديجة وهنا موضع الشاهد الذي نريده، قالت له: "كَلا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".
"إنك لتصل الرحم وتحمل الكل" أي: تقدم المساعدة لمن لا يستقل بأمره "وتقري الضيف"، تقدم له القرى وهو الطعام والشراب الذي يعطى للضيف، "وتكسب المعدوم" تعطي المال لمن ليس عنه مال، "وتعين على نوائب الحق"، أي تعين الناس على النوازل التي تنزل بهم والمصائب التي تلمّ بهم.
تريد خديجة أن تقول: أنت يا محمد صاحب معروف، وصاحب المعروف لا يضيعه الله -عز وجل- وصاحب المعروف لا يخذيه الله -سبحانه وتعالى- من كان محسنًا إلى الناس فالله يحسن إليه، ومن كان سريعًا بالبر إلى الخلق فالله -عز وجل- أسرع بالبر إليه وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
وهذا الذي قالته خديجة يدل على أنه كان من المشهور عند أهل الجاهلية أن صاحب المعروف لا يضيعه الله -عز وجل- أبداً، وهذا أقره الإسلام وأكدته نصوص الكتاب والسنة ودلت دلالة واضحة ظاهرة على أن صاحب المعروف لا يضيعه ربه أبداً، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وتدفع عن صاحبها الشرور والنوازل والنكبات، وصنائع المعروف تمد صاحبها بالخيرات والأرزاق والبركات ويفتح الله -سبحانه وتعالى- له بها ما لا يخطر له على بال.
واسمع لهذا الحديث العجيب الذي يدل على مدى أثر صنع المعروف، تروي لنا أم سلمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء"، أي: تحمي صاحبها من الخاتمة القبيحة السيئة، "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة".
انظر إلى هذه الفضائل صنائع المعروف تقي مصارع السوء، تطفئ غضب الرب، تزيد في العمر، تبارك للإنسان فيما رزقه الله، ويكون معروفًا في الآخرة عند الله -سبحانه وتعالى-.
وفي حديث أنس الذي رواه الحاكم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات".
واسمعوا إلى هذه القصة التي تؤكد هذا المعنى: ذكر جمع من العلماء لقصة عجيبة لرجل خرج يومًا يبحث عن ماء فدخل في دحل من الدحول، والدحول هي أنفاق وممرات أرضية توصل إلى أماكن الماء، وهذه الأنفاق غالبًا ما تكون مظلمة يضيع الإنسان فيها إذا لم يضع له علامات، ولم يكن له ما يدله على الطريق، فدخل الرجل في هذا الدحل، فضاع فيه، ولم يتمكن من الخروج، فجلس في مكانه لا يدري ماذا يفعل ينتظر الموت أو الفرج من الله -سبحانه وتعالى- وظل على هذا الحال أكثر من عشرة أيام، وهو في هذا المكان المظلم الذي لا يعلم عنه فيه أحد إلا الله -سبحانه وتعالى-.
ثم بعد أكثر من عشرة أيام إذا بأولاده يصلون إليه بعد أن بحثوا عنه في كل مكان وكان بحثهم عنه في هذا المكان محاولة أخيرة، وقد يأسوا من العثور عليه، فوصلوا إلى هذا المكان فوجوده فأخذوه وغطوه وأغمضوا وغطوا عينيه حتى لا يصاب بالعمى حين يفجأه ضوء الشمس وأخذوه إلى بيته.
ثم بعد أن هدأ وارتاح بدأوا يسألونه كيف عشت هذه الأيام كلها دون طعام ولا شراب؟ فقال لهم قبل أن تسألوني أسألكم سؤالاً قالوا: وما هو؟ قال ماذا فعلتم بمنيحة فلان؟ المنيحة هي عبارة عن بهيمة ناقة أو بقرة أو شاه تُعطى لإنسان لأجل أن ينتفع بحليبها على وجه الإعارة ينتفع بحليبها ويشرب منه، ثم يعيدها بعد مدة من الزمان، فكان هذا الرجل قد أعطى أسرة فقيرة منيحة أعطاهم بقرة لينتفعوا بحليبها فقال لهم ماذا فعلتم بمنيحة فلان؟
قالوا: لا زالت عنده إلى الأمس أخذناها منه بالأمس، قال قد علمت أنكم قد أخذتموها، قالوا كيف علمت؟ أنت منقطع عن الدنيا كيف تصلك الأخبار، قال منذ أن دخلت ذاك المكان وفي كل يوم يأتيني إناء فيه لبن طعمه كطعم لبن تلك البقرة، فلا زال يأتيني كل يوم وأشرب منه إلى أمس انقطع عني ولم يأتيني، فعلمت أنكم قد أحدثتم شيئًا.
انظروا إلى صنيع المعروف كيف وقى هذا الرجل من الهلكة، حماه من الموت دفع الله -عز وجل- عنه ذاك المصرع ورزقه به طعامًا وشرابًا إلى عنده كل يوم.
صنائع المعروف -يا أيها الأحباب- يرزق الإنسان بها من حيث لا يحتسب، وينعم الله -عز وجل- عليه بسببها ويغدق عليه بالعطاء.
انظروا إلى قصة موسى --عليه السلام-- خرج من بلدته خائفًا يترقب يخشى من أن يقبض عليه ملأ فرعون فيقتلوه، وانطلق إلى بلد بعيد فوصل إلى هذه البلدة وفي أطرافها بئر يستقي الناس منه فوجد امرأتين ضعيفتين تجلسان على مقربة من هذا البئر تنتظران أن ينتهي الرعاة من سقيهم فيسقون، قال ما خطبكما؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا) [القصص:23 - 24]، ذهب واستقى لهما من البئر وذهبت هاتان المرأتان ثم تولى إلى الظل وجلس ينظر في حاله ويناجي ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 24] محتاج إلى عونك، محتاج إلى رزقك، محتاج إلى مددك يا رب (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء) مباشرة بسرعة دون تأخر تأتيه هذه المرأة وتدعوه (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص: 25].
مباشرة جاء الجزاء ولم يتأخر، وماذا كان الجزاء؟ عرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه وأن يعمل عنده ويمكث عشر سنين جزاء سقي الماء لمرة واحدة.
سقى موسى -عليه السلام- لمرة واحدة لهاتين المرأتين فكان الجزاء زوجة وعمل وسكن لمدة عشر سنوات الذين يبحثون عن الوظائف، فأين الذين يريدون الزواج؟ أين الذين يتمنون المأوى والمسكن؟ هذا طريق سهل، طريق مفتوح، طريق الرزق والسعة والخير والنعمة من الله -سبحانه وتعالى-، صنع المعروف والإحسان إلى الناس.
فاصنع المعروف وانتظر الخير من الله -سبحانه وتعالى- فإن الله -عز وجل- يحب من يحسن إلى عباده، سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟ وأين الأعمال أحب إلى الله؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَتَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ".
انظروا إلى هذا الثواب انظروا إلى هذا الأجر والفضل العظيم كم من الحسنات التي تترتب على صنائع المعروف، بل رُب صنيع معروف واحد يدخل العبد به الجنة، وكلكم تعرفون قصة المرأة البغي التي وجدت كلبًا ليس إنسانًا وجدت كلبًا يلهث من العطش فنزلت البئر وأتت له بالماء وسقته من هذا الماء فسقته من هذا الماء، فشكر الله لها وغفر الله لها.
كلكم تعرفون قصة ذلك الرجل الذي كان يمشي في الطريق فوجد شوكًا يؤذي المسلمين فقال لا يؤذي هذا المسلمين، وأزاحه عن طريق المسلمين، فشكر الله له وغفر له وأدخله الجنة.
هذه أعمال يسيرة انظروا ماذا كان جزاءها، فكيف بما هو أعظم من ذلك كيف بما هو أكبر من ذلك كيف بمن يكفكف دمعة اليتيم، كيف بمن يعين المسكين، كيف بمن يواسي الأرملة الضعيفة، كيف بمن يساعد الأسر الفقيرة، كيف بمن يعين على علاج المرضى ويساهم في إدخال السرور على قلوب المسلمين، كيف بمن يرسم الضحكات على الوجوه، كيف بمن يشبع جائعًا أو يكسو عاريًا أو يؤوي شريدًا أو يؤنس وحيدًا، ماذا عسى أن يكون أجره على الله -سبحانه وتعالى-!
وعلاوة على ما في هذا الأجر على ما في هذا العمل من الأجر والثواب كذلك أيضًا يجد العبد في صنع المعروف سعادة وراحة وسرورًا وفرحة لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- ومن لم يجرب فليجرب أن يصنع المعروف فليجرب أن يحسن إلى الناس ولينظر إلى الشعور الذي سيمتلئ به قلبه، فلينظر إلى السعادة التي ستعمر فؤاده حين ترتفع أكف الناس تدعو له بالخير عندما يحسن إليهم، ينظر إلى السعادة التي سيجدها في قلبه حين يرى أنه صار سببًا في إسعاد إنسان مُقعد لا يتحرك فصار سببًا في مشيه وسيره على قدميه، آخر يوشك على العمى فصار سببًا في عودة البصر إليه، وثالث طفل مسكين لا يكفّ الدمع من عينيه فصار بعد ذلك بسببه يضحك ويفرح كسائر الأطفال.
إنسان آخر يوشك على أن ينتحر ويقتل نفسه من شدة المعاناة فصار سببًا في عودة الأمل إليه وعودته إلى الله -سبحانه وتعالى-.
هذه السعادة التي يجدها الإنسان حين يصنع المعروف سعادة لا تعدلها سعادة، وشعور لا يعدله أي شعور في هذه الدنيا، والله لو ملك الإنسان كنوز الدنيا كلها فلن يجد السعادة التي يجدها حين يحسن إلى الناس، وحين يصنع المعروف للخلق، ومن كان يشعر بالحزن والهم والغم والاكتئاب فليعالج نفسه بهذا؛ بصنع المعروف للناس، وسيجد أن الله -سبحانه وتعالى- قد أبدل همه وغمه وحزنه فرحة وسرورًا وسعادة.
الناس بالناس مادام الحياءُ بهمُ *** والسعد لاشك تارات وهباتُ
وأفضل الناس ما بين الورى رجلُ*** تُقضى على يدهِ للناس حاجاتُ
لا تمنعن يد المعروف عن أحد *** ما دمت مقتدراً فالسعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت*** إليك لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم*** وعاش قوم وهم في الناس أموات
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا..
وبعد أيها الأحباب الكرام: كما أن الإسلام قد رغَّب في صنع المعروف كذلك قد حذَّر ورهَّب من ترك صنع المعروف من التقصير في أداء المعروف مع القدرة عليه، ألم نسمع كثيرًا ونقرأ كثيرًا في القرآن الكريم مثل قول الله تبارك وتعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر: 42- 44]، (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر: 17- 18]، (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30- 32]، لماذا؟ (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة: 33- 34].
مع قدرته على ذلك ولا يضرّه ذلك ولا يؤذيه ذلك، لكنه لشح نفسه ترك الحث على إطعام المساكين، ترك هذا المعروف الذي كان قادرًا على أدائه.
وفي سورة الماعون يقول -سبحانه وتعالى-: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الماعون: 1- 3]، ثم يقول الله تبارك وتعالى بعدها: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون: 4- 7]، أي: يمنعون الشيء الذي لا يضرهم إعطاءه للناس على وجه الإعارة يمنعون الخير الذي بأيديهم عن الناس مع أنه لا يضرهم أداء هذا الخير للناس.
وفي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-، يقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم"، وذكر من هؤلاء الثلاثة "ورجل منع فضل ماء فيقول الله -عز وجل- له يوم القيامة: اليوم أمنع عنك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك".
ماء كان عندك في أرضك بئر أو مجرى ماء يمر في أرضك فتمنعه عن الناس لماذا؟ لماذا تمنع هذا الخير فيجزيه الله -سبحانه وتعالى- بجزاء من جنس عمله فيمنع عنه فضله كما منع عن الناس فضله.
ومات رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل آخر: هنيئًا لك الشهادة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما يدريك؟! فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه".
عنده مال كثير عنده، خير كثير عنده، متاع زائل لو أعطاه الناس فلن ينقص هذا مما عنده شيئًا، فبخل بهذا الشيء الذي لا ينقصه، وهذا يدل على ذم من يفعل مثل هذا الفعل الذي يشح بما في يديه على الناس هذا شح النفوس الذي قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
فهذا أيها الأحباب دعوة لنا جميعًا إلى التعاون والتبادل والإحسان والبر وصنع المعروف، كل واحد بما يستطيع، وبما يقدر عليه، فأبواب المعروف كثيرة، هذا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر لك صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة"، أي إذا كان هناك رجل ضائع في طريق لا يعرفه إرشادك إياه هذا من المعروف والصدقة، "وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة"، رجل أعمى أو ضعيف البصر تدله على الطريق هذا معروف وهذه صدقة وإحسان، "وإماطتك الحجرة والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة".
فأبواب المعروف كثيرة ميسورة سهلة، وأوقات الفراغ عندنا كذلك كثيرة ربما نقضيها فيما لا ينفع ونضيعها فيما لا يفيد، وكل واحد منا قادر على أن يقدم معروفًا، وأن يصنع خيرًا فلا تحرم نفسك من الخير ولا تحرم نفسك من المعروف.
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس
وتذكر دائمًا "صنائع المعروف تقي مصارع السوء".
اللهم يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول والإنعام يا منان يا كريم، اللهم وفقنا لكل خير، اللهم أعنا على صنع المعروف..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم