عناصر الخطبة
1/ أهمية إصلاح القلب والعناية به 2/ الجمع بين صلاح الباطن والظاهر 3/ حرص السلف على إصلاح القلب 4/ من معينات إصلاح القلب 5/ شدة الحاجة لإصلاح القلب عند كثرة الفتن.اقتباس
فإذا اعتنى العبد بتلك الشواهد في حياته، وأعمل فيها فكره كانت أعظم عون له على تطهير قلبه، وتنزيهه من الأوصاف الذميمة، والإرادات السافلة وعلى تخليته وتفريغه من التعلق بغير الله سبحانه، وكانت أعظم باعث له على العبادة والمحبة والخشية والإنابة والافتقار إلى الله والسعي في مرضاته تبارك وتعالى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العزيز (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل القلوب بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي ما زال لسانه لا يفتر عن الدعاء بقوله "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى- ومراقبته في السر والعلانية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: إن من أهم المهمات في حياة كل مسلم أن يهتم بإصلاح قلبه، والعناية بنفسه حتى يقدم على ربه -تبارك وتعالى- بقلب سليم وعمل صالح رشيد، لاسيما ونحن نعيش زمانا قد كثرت فيه الفتن، وتعددت فيه الشبهات والشهوات؛ لأن القلب هو محرك الجوارح وموجهها، وهو أكثر الجوارح تأثراً، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرض الفتن على القلب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب إلى قلبين، قلب أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض" (رواه مسلم).
والميزان عند الله حين اطلاعه على قلوب العباد هو صلاحها أو فسادها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (رواه مسلم)؛ فهو سبحانه لا ينظر إلى صورنا سواء كان الشخص جميلا أو قبيحاً، أو أبيض أو أسود، ولا ينظر إلى أجسادنا هل هي قوية أو ضعيفة، أو طويلة أو قصيرة، ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا.
فالقلب هو موضع نظر الربِّ -جل وعلا- لما له من أهمية في حياة الإنسان؛ فالقلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره، فتكتسب منه الاستقامة أو الزيغ. يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (رواه البخاري).
فعلى كل مسلم ومسلمة العمل على إصلاح قلوبهم والعناية بها، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يهتم بإصلاح القلب غاية الاهتمام، ويعتني به تمام العناية، ويوصي بذلك في كثير من أحاديثه؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرِّفه حيث شاء"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك" (رواه مسلم). وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل في قلبي نورا"، ويقول أيضاً: "اللهمّ إني أعوذ بك من قلب لا يخشع".
عباد الله: يجب علينا أن نهتم بتزكية قلوبنا وإصلاحها مع الاهتمام بإصلاح الظاهر، ومتى ما أصلح المسلم قلبه بالإخلاص والصدق والمحبة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالأعمال الزّاكية استقامت جوارحه وصلح ظاهره. وهو أمر في غاية الأهمية؛ فإصلاح القلوب يترتب عليه صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات والسلوكيات.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور والظلم".
وقال بعض السلف: "من صفا ــ أي: صفا قلبه من الشوائب ــ صُفِّي له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له".
ولما كان سلفنا -رحمهم الله- أحرص ما يكونون على الخير كان اعتناؤهم بقلوبهم أشد ما يكون، ومن اعتنائهم بقلوبهم إخفاؤهم لأعمالهم؛ فقد وصف عمر -رضي الله عنه- أبا بكر الصديق قال: "اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله".
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن أعظم عون للعبد على إصلاح قلبه هو تكثير الشواهد النافعة في القلب؛ لتقوى صلة القلب بالله، ويزداد يقينه ويكمل إيمانه، وتعظم محبته بربه -سبحانه وتعالى-.
ومن ذلك: أن يقوم في قلب المسلم حقارة الدنيا وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها، ويتذكر قول الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آلعمران:185]، فيترحَّل قلبه عنها.
ومشاهدته للدار الآخرة ودوامها، وأن أهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير للمؤمنين والفجار.
وأن يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها، واضطرامها وبعد قعرها، وشدة حرِّها وعظيم عذاب أهلها، ويشاهد أهلها وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون، بالسلاسل في أعناقهم يسحبون، وفي أمواجها ولهيبها يتقلبون، ومن شجرة الزقوم يأكلون، ومن حميمها يشربون؛ فإذا رأى هذا المنظر الرهيب انخلع من الذنوب والمعاصي، ولبس ثوب الخوف والحذر، وبادر إلى الأعمال التي تصرفه عنها.
وأن يقوم بقلبه شاهد من الجنة وما أعد الله لأهلها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، دار قد جعل الله النعيم المقيم بحذافيره فيها، تربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبنة الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك وأبرد من الكافور وألذ من الزنجبيل، ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرشهم مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم عليه خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون. وإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد، والنظر إلى وجه الرب -جل وعلا-، وسماع كلامه منه بلا واسطة، فهناك يكون سير القلب إلى ربه أسرع من الرياح في مهبها، فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً.
فإذا اعتنى العبد بتلك الشواهد في حياته، وأعمل فيها فكره كانت أعظم عون له على تطهير قلبه، وتنزيهه من الأوصاف الذميمة، والإرادات السافلة وعلى تخليته وتفريغه من التعلق بغير الله سبحانه، وكانت أعظم باعث له على العبادة والمحبة والخشية والإنابة والافتقار إلى الله والسعي في مرضاته -تبارك وتعالى-.
نسأل الله تعالى أن يمن علينا وعليكم بصلاح قلوبنا، وأن يطهرها من أدرانها، وأن يملأها إيمانا وخشية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى -أيها المؤمنون-، واعلموا أن التقوى هي خير زاد لمن أراد النجاة يوم المعاد.
عباد الله: إن الواجب على كل مسلم أن يهتم بسلامة قلبه، ولاسيما عندما تشرئب الفتن، وتكثر البدع، ويعظم الجهل بدين الله تعالى، ولا نجاة للمسلم في هذه الحياة إلا بصلاح قلبه وسلامته.
واعلموا أنه ما رقّ قلبٌ لله -عز وجل- إلا كان صاحبه مشمّرًا في الطاعات سباقًا إلى الخيرات، وما رق قلب لله إلا وجدتَ صاحبه إذا ذُكِّر بالله تذكّر وإذا بُصِّر به تبصّر، وما رقّ قلب لله إلا كان أبعد ما يكون عن المعاصي والذنوب.
فاتقوا الله -عباد الله- في قلوبكم، وأصلحوها قبل أن يحال بينكم وبينها، واعمروها بذكر الله تعالى وخشيته في السر والعلن، وبادروا بالأعمال الصالحة الزاكية التي تكون عونا لكم في إصلاحها، واعملوا ليوم تقابلون فيه ربكم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88-89].
أسأل الله -جل وعلا- أن يصلح قلوبنا، وأن يزينها بالإيمان، وأن ينيرها بالعلم النافع والعمل الصالح، وأن يحفظنا وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم