عناصر الخطبة
1/فضائل اليقين 2/أهمية اليقين 3/مهددات اليقين 4/أسباب حفظ اليقين 5/وجوب توقي الوساوس في العقيدة 6/خير ما تُدفع به الشبهات.اقتباس
تقحَّموا مواطنَ الشُّبَهِ حبًّا للاستطلاع ومعرفةِ ما لدى أصحابِها زاعمين تحصَّنَهم وعدمَ تأثُّرِهم، بينما يُرَوْنَ مُتَّخذين أشدَّ إجراءاتِ التَّحَرُّزِ التي تقرب من الوسوسة مِن مخالطةِ ذَويْ المرضِ المعديِ،.. وتَرْكِ ما مَسَّتُه أيديهم..، وما عَلِموا أن سلامةِ يقينِ قلوبِهم أولى بالرعايةِ والوقايةِ من سلامةِ أبدانِهم؛ إذ هو مَعْقِدُ النجاةِ يومَ الدِّين...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
أيها المؤمنون: اليقينُ أعظمُ منَّةٍ ربانيةٍ يُكرَم بها العبدُ، وأجزلُ هِبَةٍ يُعطاها، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "سَلُوا اللهَ العفوَ والعافيةَ، واليقينَ في الأولى والآخرةِ؛ فإنه ما أُوتيَ العبدُ بعْدَ اليقينِ خيرًا من العافيةِ"(رواه الحاكمُ وصحَّحه).
بذلك اليقينِ يَستقرُ في القلبِ التصديقُ الجازمُ بأن ما جاءَ عن اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم- حقٌ وصدقٌ؛ لا يَتسرَّبُ إليه ريبٌ، أو يُعارضُ بشبهةٍ، أو يُؤوَّلُ بشهوةٍ، بل يَراه حقًا ماثلاً كما يَرى الواقعَ إذا وَقَع؛ وِفْقَ ما وَصَفَ عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ -رضي اللهُ عنه- ذاك الحالَ بقولِه:
وفينا رسولُ اللهِ يتلو كتابَه *** إذا انشقَّ معروفٌ من الفجرِ ساطعُ
أَرانا الهدى بعد العمَى فقلوبُنا *** به موقِناتٌ أن ما قال واقعُ
إن اليقينَ نورٌ متى حَلَّ في القلب أكْسبَه صفاءً يُبْصِرُ به خَطَلَ الضلالِ وظلمتَه، ويُورِثُه ذلك حساسيةً مُرْهَفَةً تُنَفِّرُ عن الباطلِ؛ فلا يَقرَبُ منه، فضلاً عن أن يمازجَه.
واليقينُ مع رِقَّةِ صفائِه صلبٌ ذو رسوخٍ يَقوى به القلبُ أيّما قوةٍ، ويَثْبُتُ أمامَ جَحَافِلَ الشُّبَهِ الشَّرِسَةِ؛ فترجعُ منكسِرةً لم تَظْفرْ منه بشيءٍ سوى زيادةِ مخزونِ القوةِ فيه حين علا عليها.
وشِيمةُ البُصَرَاءِ إزاءَ النَّعمِ: الجِدُّ في طلبها، وتقييدُها بَعْدَ حَوْزِها بزمامِ الحفظِ والشكرِ؛ وكلما علا شأنُ النعمةِ حَسُنَ التَّحوُّطُ في حفظِها والزيادةُ في شكرِها؛ كيف إذا كانت تلك النعمةُ اليقينَ سيدَ النعم وواسطةَ عِقْدِها؟!
عبادَ اللهِ: إنَّ أعظمَ خطرٍ يُهدِّدُ صفاءَ اليقينِ عادياتُ الشُّبَهِ التي لا تَنِي عن الإجْلابِ على القلبِ بُغْيةَ زعزعةِ يقينِه؛ إذ هو الحارسُ الذي إنْ ضَعُفَ عاثتْ جنودُ الفَسادِ في مملكةِ القلبِ دون ردعٍ أو مقاومةٍ تخريبًا وهدْمًا، سيما وأن لهذه الشبهاتِ بَرِيقًا ودَهْشَةً إن وقعتْ في زمنِ غلبةِ الجهلِ وانحسارِ العلمِ وبُروزِ أئمةِ الضلالِ والمنافقين عليمي اللسانِ ولُبِّستْ بشعارٍ جذابٍ ومَسْحةٍ شرعيةٍ تضليليةٍ وسَهُلَ وصولُها والوصولُ إليها وتناقلتَها القنواتُ ووسائلُ التواصلِ ولم تقمْ الكفايةُ بواجبِ دَحْضِها وإبطالِها؛ وذاك ما يجعلُ المؤمنَ يبحثُ عن جادةِ النجاةِ التي إنْ سَلَكَها سَلِمَ له يقينُه الذي به نجاتُه.
إنّ أعظمَ أسبابِ حفظِ اليقينِ وإبقاءِ صفائِه إدراكُ العبدِ ضعفَه وعجزَه، وأنه لا غنى له عن إعانةِ اللهِ له طرفةَ عينٍ؛ وذاك ما يدعوه إلى دوامِ الافتقارِ إلى ربِّه، وإدمانِ سؤالِه الهدايةَ والثباتَ عليها التي يلزم كلَّ مسلمٍ طلبُها من ربِّه كلَّ يومٍ وليلةٍ سبعَ عشرةَ مرةً.
ومن لازم استشعارِ الضعفِ البشريِّ أمامَ الشُّبَهِ الذي به العصمةُ منها الابتعادُ عن مواطنِها، وعدمُ الاقترابِ منها، فَضْلاً عن البحثِ عنها، ومتابعةِ أصحابِها، كما قال اللهُ –تعالى-: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68]، وقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَمِعَ بالدجالِ فلينأْ عنه، فواللهِ إن الرجلَ ليأتيه وهو يحسبُ أنه مؤمنٌ فيتبعُه، مما يبعثُ به من الشبهاتِ"(رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ).
قال مَعْمَرٌ: "كنت عند ابنِ طاووسَ في غديرٍ له، إذ أتاه رجلٌ يقال له صالحٌ، يتكلَّمُ في القَدَرِ، فتكلَّمَ بشيءٍ منه، فأدخلَ ابنُ طاووسَ أصبعيه في أذنيه، وقال لابنِه: أدخلْ أصبعيك في أذنيك واشْدُدْ، حتى لا تسمعَ من قوله شيئًا؛ فإنَّ القلبَ ضعيفٌ".
وأمّا إنِ اغْتَرَّ العبدُ بحالِه وعِصمتِه، فخاضَ لُجَّةً الشَّبُهِ، وقَلّبَ نظرَه بين سطورِها ومواقعِها وقنواتِها، وأرخى سمعَه لأهلها؛ فإنّ اللهَ يَكِلُهُ لنفْسه؛ فسريعًا ما يَتداعى بناؤه، ويَتهاوى في حَمْأَةِ الشُّبهاتِ قلبُه، قال سفيانُ الثوريُّ: "مَنْ أَصْغى بسمعِه إلى صاحبِ بدعةٍ خرجَ مِن عِصمةِ الله، وَوُكِلَ إلى نفسه". قال ابنُ الجوزيِّ: "ما رأيتُ أعظمَ فتنةً مِن مقاربةِ الفتنةِ، وقلَّ أن يقاربَها إلا مَن يقعُ فيها، ومَن حَامَ حول الحمى يُوشِكُ أن يقعَ فيه".
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: "فهذه المحنُ والفتنُ إذا لم يطلبْها المرءُ، ولم يتعرضْ لها، بل ابْتُليَ بها ابتداءً أعانه اللهُ -تعالى- عليها بحسبِ حالِ ذلك العبدِ عنده؛ لأنه لم يكن منه في طلبِها فعلٌ ولا قَصْدٌ؛ حتى يكونَ ذلك ذنبًا يُعاقَبُ عليه، ولا كان منه كِبْرٌ واختيالٌ مِثْلُ دعوى قوةٍ، أو ظَنِّ كفايةٍ بنفسه حتى يُخذَلَ بتركِ توكُّلِه ويُوكَلُ إلى نفسه، فإنَّ العبدَ يُؤْتَى مِنْ تَرْكِ ما أُمِرَ به".
قال ابنُ بطَّةَ العَكْبُرِي: "فاللهَ اللهَ معشرَ المسلمين، لا يَحْمِلَّنَّ أحدًا منكم حُسْنُ ظنِّه بنفسه، وما عَهِدَه مِن معرفتِه بصحةِ مذهبِه على المخاطرةِ بدينه في مُجالسةِ بعضِ أهلِ هذه الأهواءِ، فيقولَ: أُداخِلُه لأناظرَه، أو لأستخرجَ منه مذهبَه؛ فإنهم أشدُّ فتنةً مِن الدجالِ، وكلامُهم ألصقُ من الجَرَبِ، وأحْرَقُ للقلوبِ من اللَّهبِ. ولقد رأيتُ جماعةً من الناس كانوا يلعنونهم، ويسبُّونهم، فجالسوهم على سبيلِ الإنكار، والردِّ عليهم، فما زالتْ بهم المباسطةُ وخفيُّ المَكْرِ، ودقيقُ الكفرِ حتى صَبَوْا إليهم".
وإنْ عَجَبٌ فَعَجَبٌ حالُ أولئك الذين تقحَّموا مواطنَ الشُّبَهِ حبًّا للاستطلاع ومعرفةِ ما لدى أصحابِها زاعمين تحصَّنَهم وعدمَ تأثُّرِهم، بينما يُرَوْنَ مُتَّخذين أشدَّ إجراءاتِ التَّحَرُّزِ التي تقرب من الوسوسة مِن مخالطةِ ذَويْ المرضِ المعديِ، وغِشيانِ الأماكنِ التي مَرَّوا عليها، وتَرْكِ ما مَسَّتُه أيديهم، فضلاً عن مُخالطتِهم، وما عَلِموا أن سلامةِ يقينِ قلوبِهم أولى بالرعايةِ والوقايةِ من سلامةِ أبدانِهم؛ إذ هو مَعْقِدُ النجاةِ يومَ الدِّين؛ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 89].
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله.
أمّا بعدُ، فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون: رُبَّما عَرَضَتْ الشبهةُ على القلبِ دون أن يَتَعَرَّضَ لها؛ فِتنةً واختبارًا، ومِن خيرِ ما تُدفعُ به إن عَرَضَتْ الانتهاءُ والإعراضُ، وألا يقفَ المؤمنُ عندها، وأن يَلْهَجَ بإظهارِ لفْظِ الإيمانِ والاستعاذةِ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ واستشعارِ معناهما، قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ: مَنْ خَلَقَ كذا وكذا؟ حتى يقولَ له: مَن خَلَقَ ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك، فليستعذْ بالله، وليَنْتَهِ"(رواه مسلم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الناسُ يتساءلون حتى يُقال: هذا خَلْقُ اللهِ الخَلْقِ، فمَن خَلَقَ اللهَ؟ فمَن وجدَ مِن ذلك شيئًا، فليقلْ: آمنتُ بالله"(رواه مسلم).
والمبادرةُ بإزالةِ الشبهةِ مِن حين تَعْلَقُ بالقلبِ بسؤالِ أهلِ العلمِ الراسخين عن كَشْفِها مما يجبُ الاهتمامُ به؛ حتى لا تتراكمَ الشبهةُ وتُفْسِدَ القلبَ أو تُورِثَه الحيرةَ والاضطرابَ؛ إذ هي كالسُّوُسِ النَّاخِرِ جِذْعَ الشجرِ الباسقِ، فإنْ تُرِكَ تَمَادَى في نخْرِه حتى تَسقطَ، وإنْ كُوفِحَ وطُرِدَ سلِمتْ تلك الشجرةُ. وإن لم يجدْ من يجلِّيها له؛ فليوقِنْ ببطلانِها وإن لم يهتدِ لدَحْضِها؛ فذاك ممّا يُحْفَظُ به اليقينُ.
قال الأوزاعيُّ: "قَدِمَ علينا غَيْلَانُ القدريُّ في خلافةِ هشامِ بنِ عبدِالملكِ، فتكلَّمَ غيلانُ -وكان رجلاً مُفَوَّهًا-، فلما فَرَغَ مِن كلامِه قال لحسان بنِ عطيةَ: ما تقولُ فيما سمعتَ من كلامي؟ فقال له حسانُ: يا غيلانَ، إن يكنْ لساني يَكِلُّ عن جوابِك؛ فإنَّ قلبيَ يُنْكِرُ ما تقول، وإنَّا لَنَعرف باطلَ ما تأتي به".
ومَن خيرِ ما تُدْفَعُ به الشُّبَهُ، ويَسلمُ به اليقينُ: ما أوصى به شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ تلميذَه ابنَ القيمِ في التعاملِ مع الشُّبَهِ، قال ابنُ القيمِ: "قال لي شيخُ الاسلامِ -رضي اللهُ عنه- وقد جعلتُ أُورِدُ عليه إيرادًا بعد إيرادٍ: لا تجعلْ قلبَك للإيراداتِ والشبهاتِ مِثْلَ الإسفنجةِ؛ فيَتشرَّبَها، فلا يَنْضَحُ إلا بها، ولكن اجعلْهُ كالزجاجةِ المُصْمَتَةِ؛ تَمُرُّ الشبهاتُ بظاهرها، ولا تستقرُّ فيها؛ فيراها بصفائِه، ويدفعُها بصلابتَه، وإلا فإذا أُشْرِبَ قلبُك كلَّ شبهةٍ تَمُرُّ عليه صار مَقَرًّا للشبهاتِ، أو كما قال. فما أعلمُ أنّي انتفعتُ بوصيةٍ في دفْعِ الشُّبهاتِ كانتفاعي بذلك".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم