عناصر الخطبة
1/ حرمة الأشهر الحرم في الجاهلية والإسلام 2/ بعض خصائص شهر محرم 3/ عمق الرابطة الأخوة الإيمانية بين المؤمنين 4/ حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على مخالفة أهل الكتاب 5/ بعض أحكام صيام عاشوراء 6/ التحذير من البدعاقتباس
نحن اليوم في شهر عظيم؛ شهر الله المحرم، شهر له حرمة، وفيه فضائل وأحكام. شهر محرم شهر فيه عدة خصائص، فمن خصائصه: أنه أحد الأشهر الحرم الأربعة؛ كما جاء ذلك في حديث أبي بكرة، فشهر محرم شهر عظيم، وهو من الأشهر الحرم.
الخطبة الأولى:
نحن اليوم في شهر عظيم؛ شهر الله المحرم، شهر له حرمة، وفيه فضائل وأحكام، كان ذلك هو الموجز وإليكم التفصيل والبيان من أحاديث سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" [رواه البخاري].
شهر محرم شهر فيه عدة خصائص، فمن خصائصه: أنه أحد الأشهر الحرم الأربعة؛ كما جاء ذلك في حديث أبي بكرة. فشهر محرم شهر عظيم، وهو من الأشهر الحرم.
ولذلك ينبغي تعظيم هذا الشهر، والتخفف فيه من الذنوب، والتزود من الأعمال الصالحة، فما سميت الأشهر الحرم إلا لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، وكانت العرب في الجاهلية تعظم الأشهر الحرم، وقد أخذت ذلك الإرث عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام-، وكانوا يحرمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يتعرض له، ولذلك جاء في البخاري: "أن وفد عبد القيس قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قدموا عليه من البحرين، وهي الأحساء حاليا، قالوا: "يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر المحرم؟" لأنهم كانوا يأمنون على أنفسهم من قطاع الطرق في هذه الأشهر.
ولما جاء الإسلام أكد حرمة هذه الأشهر وعظمها، فقال تعالى في سورة التوبة: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 36].
ومن خصائص شهر الله المحرم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغب الصيام فيه، حيث روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ: صَلاةُ اللَّيْلِ" [رواه مسلم] فهو في الفضل يأتي في الدرجة الثانية بعد صيام رمضان.
وقد يسأل سائل: كيف نجمع بين إكثار النبي -صلى الله عليه وسلم- من صوم شعبان حتى كاد أن يصومه كله وبين قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم؟
ذكر العلماء: أن لعله لم يوحَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بفضل المحرّم إلا في آخر حياته قبل التمكن من صومه.
ومن خصائص شهر الله المحرم: أن فيه يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم، الذي من صامه غفر له ذنوب سنة كاملة؛ حيث روى أبو قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" [رواه مسلم].
فتأملوا -رحمكم الله- في فضل الله -تعالى-؛ صيام يوم واحد يزيل عنك ذنوب سنة كاملة، فحري بنا أن لا نفرط في هذا اليوم ألبتة لا سيما أننا في موسم الشتاء فلا عطش ولا جوع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" [رواه أحمد].
وسر صيامنا لهذا اليوم هو ما رواه ابن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟" قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ" فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ" [رواه البخاري].
وروى أبو مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَصُومُوهُ أَنْتُمْ" [رواه مسلم].
إن صيامنا ليوم عاشوراء إنما هو تعبير عن شكرٍ وفرح لنجاة موسى -عليه الصلاة والسلام- في نفس اليوم من طاغية زمانه فرعون.
تأملوا -أيها الإخوة- إلى عمق الرابطة الأخوة الإيمانية بين المؤمنين وكيف امتدت جذورها لتخرق آلاف السنين لنشارك موسى -عليه الصلاة والسلام- فرحته بانتصار الحق على الباطل، فصيامنا ليوم عاشوراء هو مشاركة وجدانية لموسى -عليه الصلاة والسلام- وقومه من ظلم طاغية متجبر؛ كما جاء في حديث ابن عباس.
فانظروا إلى مدى ارتباط المؤمنين مع بعضهم وعمق فرحهم بنجاة موسى -عليه الصلاة والسلام- وقومه مع فارق الزمن الذي بيننا وبينهم.
إنه الإيمان الذي يوحد الأمة ويربط بين قلوبهم مهما تباعدت أقاليمهم، واختلفت ألسنتهم.
هكذا المؤمن يفرح لفرح المؤمنين، ويحزن لمصائبهم أينما كانوا، ومهما اختلفت جنسياتهم وابتعدت أوطانهم.
أما اليوم فتجد المسلمين يعيشون في زمن واحد وفي بلاد متقاربة إعلاميا، ولكن لا يحزن المسلم لمصاب أخيه، ولا يقدم له الدعاء والنصرة وهو يراه عبر شاشات التلفاز يقتل ويسحق بأيدي أعداء الإسلام وكأنه ينظر إلى أفلام بوليسية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة في الله: ولحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على مخالفة أهل الكتاب وعدم التشبه بهم؛ أمر بصيام يوم قبل عاشوراء، حيث روى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قال: "حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِع" قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ" [رواه مسلم].
وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه: أن يصام التاسع معه، وفوقه: أن يصام العاشر والحادي عشر.
وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب لا سيما أن من أفضل الأعمال التقرب إلى الله -تعالى- بالنوافل كي نصل إلى مرتبة محبة الله لنا، وقد جاء في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه".
ويجوز لمن كان عليه قضاء من رمضان أن يصومه في يوم عاشوراء بنية القضاء وله الأجر مضاعف، فقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-عن ذلك، فأجاب قائلا: "فمن صام يوم عرفة أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح، لكن لو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء رمضان حصل له الأجران: أجر يوم عرفة وأجر يوم عاشوراء مع أجر القضاء. هذا بالنسبة لصوم التطوع المطلق الذي لا يرتبط برمضان، أما صيام ستة أيام من شوال فإنها مرتبطة برمضان ولا تكون إلا بعد قضائه، فلو صامها قبل القضاء لم يحصل على أجرها".
وينبغي اجتناب البدع في هذا الشّهر الكريم فبعض النّاس يتخذّه عيدا يحتفل به، وهذا لا يجوز وبعضهم يتخذّه مأتما وعويلا، وهذا لم يشرع، فهلموا إلى عبادة الله في هذا الشهر كما يحب ربنا ويرضى.
أسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يسمع القول ويتبع أحسنه.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيها من البيان والحكمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مصرف الأيامِ والشهور، كورَ الليلَ على النهارِ وكور النهار على الليل، وهو عليم بذات الصدور، أحمدهُ سبحانه وأشكره ما تعاقبتِ الدهور والعصور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا له من إله غفورٍ شكور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافعُ المشفعُ يومَ بعثرةِ القبور، صلى الله عليه وعلى آل بيته وصحابته إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، واحرصوا على صيام يوم عاشوراء، فإنها فرصة عظيمة يخطئ من يفرط فيها دون عذر، فصيام يوم واحد يكفر ذنوب سنة كاملة ونحن ذنوبنا كثيرة، فيوم الأحد القادم يوافق عاشوراء فلا تحرموا أنفسكم من هذا الفضل، فعليك -أخي المسلم- اغتنام المواسم التي يضاعف فيها ثواب الطاعات، فلعلك لا تعود إليها.
فصوموا يوم عاشوراء ويوما قبله أو بعده، لتفوزوا بالأجر العظيم وتدركوا مخالفة أهل الكتاب.
واعلموا أنه في اليوم العاشر من المحرم من عام واحد وستين هجرية حلت بالمسلمين فاجعة كبرى لا تنسى هي مقتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ابن بنت رسول الله، وموت الحسين -رضي الله عنه- مصيبة جلل على المسلمين جميعا ولكن لا نقول فيها إلا ما يرضي الله عنا، فلا نشق فيها جيبنا ولا نسود ثيابنا ولا نضرب بالأيدي صدورنا ولا بالسلاسل ظهورنا، وإنما نسترجع ونقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون" هكذا أدبنا الله -عز وجل- عند وقوع المصيبة على أحدنا، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 - 157].
إن فئات من الناس بدلا من أن يجعلوا عاشوراء يوم فرح بانتصار الحق على الباطل كما أمر رسول الله جعلوه يوم مأتم وحزن لأجل مقتل الحسين.
وما علم هؤلاء أن الله -جل جلاله- لم يأمرنا ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما، فكيف بمن دونهم من سائر الناس؟
ألا وصلوا -عباد الله- على خير البرية أجمعين، ورسول رب العالمين، كما أمركم بذلك المولى -جل وعلا- بقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، واسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اجعله سقيا رحمة ولا تجعله سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم