شهر البذر

تركي بن عبدالله الميمان

2023-01-27 - 1444/07/05 2023-01-28 - 1444/07/06
عناصر الخطبة
1/رجب من الأشهر الحرم والحكمة من ذلك 2/عظم الظلم في شهر رجب 3/المسابقة للطاعات فيه 4/محدثات شهر رجب

اقتباس

وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى أَنْ جَعَلَ رَجَبًا شَهْرًا حَرَامًا تُتَجَنَّبُ فِيهِ الذُّنُوبُ؛ لِيَكُوْنَ مَعَ شَعْبَانَ: كَالتَّمْهِيدِ لِرَمَضَانَ؛ فَحَرِيٌّ بِمَنْ فِي رَجَبٍ أَنْ يُحْسِنَ فِي شَعْبَانَ، وَجَدِيرٌ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، وَاتِّبَاعِ هُدَاه؛ فَهِيَ أَعْظَمُ القُرُبَات، وبَابُ الرَّحَمَات؛ (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأنعام:155].

 

عِبَادَ الله: لَقَدْ انْتَصَفَ العَامُ، وَدَخَلْنَا في الشَّهْرِ الحَرَامِ إِنَّهُ شَهْرُ رَجَب. وكانَت العَرَبُ في الجَاهِلِيَّةِ: تُعَظِّمُ الأَشْهُرَ الحُرُمَ؛ فَلَا تَسْفِكُ فِيْهَا دَمًا، ولا تَأْخُذُ فِيْهَا بِثَأْرٍ، وجَاءَ الإِسْلَامُ لِيُؤَكِّدَ حُرْمَتَهَا؛ فأَقَرَّ تَعْظِيمَهَا وَزَادَهَا إِجْلَالًا.

 

وَشَهْرُ رَجَب: هُوَ أَحَدُ الْأَشْهُرِ الحُرُمِ، الَّتِي عَنَاهَا اللهُ عز وجل بِقَوْلِهِ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)[التوبة:36]، وقَالَ صلى الله عليه وسلم: “السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ”(رواه البخاري ومسلم).

 

وَسُمِّيَتْ بِالأَشْهُرِ الحُرُمِ؛ لِتَحْرِيْمِ القِتَالِ فِيْهَا؛ وَلِأَنَّ المَعَاصِي فِيْهَا أَشَدّ؛ قالَ عز وجل: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36]، قَالَ قَتَادَةُ: “الظُّلْمُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: أَعْظَمُ خَطِيئَةً مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا” ، وَيَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ: “الشَّهْرُ الْحَرَامُ: تُغَلَّظُ فِيهِ الْآثَامُ”.

 

وَشَهْرُ رَجَب مِفْتَاحُ أَشْهُرِ الخَيْرِ والبَرَكَةِ، قالَ البَلْخِي: “شَهْرُ رَجَب: شَهْرُ البَذْرِ لِلزَّرْعِ. وَشَعْبَانُ: شَهْرُ السَّقْيِ لِلْزَّرْعِ. وَرَمَضَانُ: شَهْرُ حَصَادِ الزَّرْع”، وقالَ بَعْضُهُمْ: “مَثَلُ شَهْرِ رَجَب: مَثَلُ الرِّيْحِ، وَمَثَلُ شَعْبَان: مَثَلُ الغَيْمِ، وَمَثَلُ رَمَضَان: مَثَلُ القَطْرِ”.

 

وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ -سبحانه وتعالى- أَنْ جَعَلَ رَجَبًا شَهْرًا حَرَامًا تُتَجَنَّبُ فِيهِ الذُّنُوبُ؛ لِيَكُوْنَ مَعَ شَعْبَانَ؛ كَالتَّمْهِيدِ لِرَمَضَانَ؛ فَحَرِيٌّ بِمَنْ فِي رَجَبٍ أَنْ يُحْسِنَ فِي شَعْبَانَ، وَجَدِيرٌ بِمَنِ اغْتَنَمَهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُوَفَّقِينَ فِي رَمَضَانَ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: “السَّنَةُ مَثَلُ الشَّجَرَةِ، وَشَهْرُ رَجَب: أَيَّامُ تَوْرِيْقِهَا وَشَعْبَانُ: أَيَّامُ تَفْرِيْعِهَا، وَرَمَضَانُ: أَيَّامُ قَطْفِهَا”.

 

والمَعَاصِي في رَجَب؛ أَشَدُّ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي قالَ جل جلاله عَنْهَا: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36].

 

وَالظُّلْمُ على نَوْعَين: ظُلْمُ النَّفْسِ بِالمَعَاصِي، وَظُلْمُ الغَيْرِ بالاِعْتِدَاءِ؛ فَمَنْ تَسَاهَلَ بالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ.

 

وَمَنْ تَسَاهَلَ بِأَكْلِ الْحَرَامِ مِنْ رِبًا أَوْ رِشْوَةٍ، أَوْ غِشٍّ أوَ كَذِبٍ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ، وَمَنْ تَسَاهَلَ بالنَّظَرِ إِلَى الْحَرَامِ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْهَا فِي رَجَب.

 

وَمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، أو قَطَعَ رَحِمَهُ، أَوْ أَسَاءَ إِلَى جَارِهِ أوَ عَامِلِهِ؛ فَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ: تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ رَجَبٍ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36].

 

وَالتَّقْصِيرُ فِي الْفَرَائِضِ ظُلْمٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ فَمَنْ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، أو تَخَلَّفَ عَنْ أَدَائِهَا مَعَ الجَمَاعَة؛ فَلْيُحَافِظْ عَلَيْهَا؛ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ هَذَا الشَّهْر.

 

وَبَعْضُهُمْ يَمُرُّ عَلَيْهِ رَجَب؛ كَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، لَا يَسْتَشْعِرُ حُرْمَتَهُ، وَلَا يَسْتَحْضِرُ عَظَمَتَهُ، وَلَا يُرَاعِي حَقَّ اللّهِ فِيه (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوب)[الحج:32].

 

وَمَنْ سَوَّدَ صَحِيْفَتَهُ بِالذُّنُوْب فَلْيُبَيِّضْهَا بِالتَّوْبَةِ في هَذَا الشَّهْرِ، وَلْيَغْتَنِمْ ما بَقِيَ مِنَ العُمر.

 

بَيِّضْ صَحِيفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبٍ *** بِصَالِحِ الْعَمَلِ الْمُنْجِي مِنَ اللَّهَبِ

طُوبَى لِعَبْدٍ زَكَى فِيهِ لَهُ عَمَلٌ *** فَكَفَّ فِيهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالرِّيَبِ

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

عِبَادَ الله: مِنْ تَعْظِيْمِ رَجَب: الْمُسَابَقَةُ فِيْهِ إِلَى اَلْطَّاعَاتِ بِفِعْلِ الوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَات، والاِسْتِكْثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ وَالمُسْتَحَبَّات.

 

وَإِذَا عَظَّمَ اللهُ مَكَانًا أو زَمَانًا، كَانَتْ المَعْصِيَةُ فِيْهِ أَعْظْمَ إِثمًا، والطَّاعَةُ فِيْهِ أَعْظَمَ أَجْرًا، قالَ القُرْطُبِيُّ: “(لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36]؛ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً؛ فَيُضَاعَفُ فِيهِ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السَّيِّئِ كَمَا يُضَاعَفُ الثَّوَابُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ”.

 

وَتَعْظِيْمُ شَهْرِ رَجَب لا يَعْنِي تَخْصِيْصَهُ بِعِبَادَةٍ لَمْ تَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَاَلَة، وَهِيَ مَرْدُوْدَةٌ على صَاحِبِهَا؛ قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ؛ فَهُوَ رَدٌّ”(رواه البخاري ومسلم).

 

وَمِنَ المُحْدَثَاتِ في رَجَب: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، والعُمْرَةُ الرَّجَبِيَّة، واعْتِقَادُ فَضْلِهَا على غَيْرِهَا مِنَ الشُّهُور، والاِحْتِفَالُ بِلَيْلَةِ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاج، وغَيْرِهَا مِنَ المُحْدَثَاتِ الَّتِي لا تَزِيْدُ صَاحِبَهَا مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا، قالَ ابنُ القَيِّمِ: “كُلُّ حَدِيثٍ فِي ذِكْرِ صَوْمِ رَجَبٍ، وَصَلاةِ بَعْضِ اللَّيَالِي فِيه؛ فَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى”، وقالَ ابْنُ حَجَر: “لَمْ يَرِدْ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَجَبَ، وَلَا صِيَامِهِ، وَلَا قِيَامِ لَيْلَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِيهِ؛ حَدِيثٌ صَحِيحٌ يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ”.

 

فَحَرِيٌّ بِالمُسْلِمِ أَنْ يَتَّبِعَ لا أَنْ يَبْتَدِعَ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ وَرَسُوْلِه؛ تُنَالُ بالاِتِّبَاعِ لا بِالاِبْتِدَاع، قال عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران:31].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].

المرفقات

شهر البذر.pdf

شهر البذر.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات