عناصر الخطبة
1/ فضائل سورة ق 2/ نظرات في سورة ق 3/ أهمية التأثر بالقرآن الكريماقتباس
بين يدينا سورة عظيمة خُصصت لمعالجة هذه القضية تخاطب العقول وتعالج مرض الشك لا بالجدل العقيم، ولكن بالطريقة القرآنية الفريدة التي يكفينا أنها من عند الله، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها على المنبر ليسمع الناس كيف بدأ الله الخلق وكيف يبعثهم، وليتصوروا مشاهد يوم القيامة، فيمروا...
الحمد لله..
أما بعد: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: ما أخذت (ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1] إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
أيها المسلمون: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليقرأ هذه السورة كل جمعة على المنبر كما قالت أم هشام رضي الله عنها، ما كان ليقرأ هذه السورة لولا أنها سورة عظيمة في حقائقها، ظاهرة في حجمها، تأخذ بمجامع النفوس، وتقرع القلوب المؤمنة بالله فتبرهن على عقيدة البعث والنشور، من المولد والوفاة، والمحشر والحساب، والثواب والعقاب، بإيضاح عجيب، وبسط دقيق.
أيها المسلمون: مشاهد يوم القيامة من البعث والنشور والجزاء والحساب، أمر جاءت به جميع رسل الله، ولقد كان أعداء الرسل كلهم يقابلون هذا الأمر بالتكذيب والاستغراب، وسجل القرآن على هؤلاء المجرمين جريمتهم في قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [النحل: 38] وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) [مريم: 66] وقوله تعالى: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون: 35- 37] وغيرها كثير من الآيات، ولا يزال هذا الأمر موضع تكذيب واستغراب من شرذمة منحلة من بني آدم حجبها عن معرفة الحق سلطان الهوى وحب الشهوات.
أيها الإخوة: بين يدينا سورة عظيمة خُصصت لمعالجة هذه القضية تخاطب العقول وتعالج مرض الشك لا بالجدل العقيم، ولكن بالطريقة القرآنية الفريدة التي يكفينا أنها من عند الله، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها على المنبر ليسمع الناس كيف بدأ الله الخلق وكيف يبعثهم، وليتصوروا مشاهد يوم القيامة، فيمروا على الحساب والجنة والنار، وليسمعوا الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.
تبتدئ السورة الكريمة بتعجب الكفار واستبعادهم للمعاد، وهكذا دائماً حال الكفار والمعاندين سذاجة في التفكير وقصور في النظر منهم ينكرون إعادة الخلق وقد خُلقوا أول مرة، فيأتي الرد القرآني سهلاً سريعاً ليقيم عليهم الحجة وليبين لهم المحجة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) [ق: 1- 5].
إن كل مكذّب بالحق فهو في أمر مريج سائر في غير درب الحق، فهو في أمر مختلط تتفاوته الأهواء وتتخطفه الهواجس، وتقلقه الشكوك، فسيره في الحياة مضطرب ومواقفه متأرجحة وقلبه في وحشة، هذا هو حال الكثيرين من الفلاسفة المتقدمين، والماديين المتأخرين والشيوعيين والعلمانيين.
ويجب أن يعلم هؤلاء كلهم أنه لا يوجد لهم علاج إلا في كتاب الله الذي يعرض عليهم الرجوع ويعطيهم الفرصة إلى آخر لحظة من حياتهم كي يعودوا إلى رشدهم ويستدركوا ما فاتهم.
ثم يدعو الله سبحانه وتعالى هؤلاء وغيرهم إلى التفكير في مخلوقات الله، ذلك التفكر الذي ينبه القلب المنتكس ويزيد القلب المؤمن إيماناً (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) [ق: 6- 11].
ثم يبين الله جل وعلا مسلياً رسوله صلى الله عليه وسلم إن التكذيب حصل لمن قبله من الرسل فقال تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق: 12- 15].
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلى طريق في البرهان آخر فهو مشهد مألوف ولا ينكره أحد، ولكن كثيراً ما تغفل عنه النفوس، بل إن كثيراً من النفوس لا ترغب حتى في تذكره لأنه يفسد عليها شهواتها ويقطع عليها لذاتها، إنها لحظة الموت وسكراته يكتنف ذلك رقابة إلهية وإحاطة ربانية فهو في قبضة مولاه، أنفاسه معدودة، وهواجسه معلومة، وألفاظه مكتوبة، ولحظاته محسوبة، إنها رقابة رهيبة لا يمكن لإنسان أن يصفها مثل ما وصفها ربنا جل وعلا، تُذكر هذه الرقابة مصحوبة بحال الموت والسكرات التي تمر على كل إنسان براً كان أو فاجراً مؤمناً كان أو كافراً.
ها هي سكرات الموت قد جاءت بالحق الذي ينكره المنكرون ويستبطؤه المستبطئون، ولكن لن ينفع الاعتراف بعد فوات الأوان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 16- 19].
وبعد الموت وسكراته تأتي صورة المحشر رهبة الحساب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 20- 22] لقد أثر هذا المشهد في رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي وغيره: قال صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، وانتظر أن يؤذن له" قالوا: يا رسول الله كيف نقول؟ قال: "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل"، فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
إنها أعلى درجات الشفقة والخوف على الأمة، وإلا فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد جعل الله له من المنزلة ما يجعله في أمن وأمان بعد موته صلى الله عليه وسلم حتى ينال منزلته في الجنة. ولكنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
فعلى من أراد أن يقتفي أثر رسوله خاصة ممن أراد أن يتشرف بمقام الدعاة إلى الله، على هؤلاء أن يعيشوا هذه الحالة من الحرص على نجاة الأمة فيكون همهم هو الدعوة إلى الله وتغيير حال الأمة فلا يقدموا أي شيء من حطام الدنيا على هذا الهدف السامي والوظيفة النبوية، ثم يبين الله كيف يجيء الشهداء وتنشر السجلات ويُفصل بين الفريقين، ويبدأ الخاسرون بالمحاجة ويرجعون إلى أنفسهم بالتلاوم.
(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق: 23- 35].
بارك الله لي ولكم في القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والبيان أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: معاشر المسلمين: تأتي خواتيم هذه السورة العظيمة لتوجز لنا ما سبق لتقيم الحجة مرة أخرى للقلب الذي يعي ما يقال له: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 36 - 45].
أيها الإخوة في هذه الآيات الأخيرة يقول الله لنبيه فاصبر على ما يقولون وهذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن يقوم بمثل مهمته من التصدي للدعوة إلى الله ونشر الخير ومحاربة الباطل يأتيهم هذا التوجيه؛ لأن طبيعة عملهم تحتاج إلى صبر صبر على ما يقول المبطلون صبر على أذى المنافقين وصبر على تمدد مساحة حجم المفسدين وصبر على التهم الملفقة، والألفاظ المعلبة المستوردة من بلاد الكفار، صبر على تفسير الأعمال والجهود بتفسيرات سيئة، وصبر على اتهام النوايا والتصنيف الغاشم، فإن يصبر هؤلاء فإن لهم قدوة وهم أنبياء الله ورسله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34].
أيها المسلمون: خلاصة هذه الخطبة الذي أريد أن أصل إليه: إن الذي لا يؤثر فيه القرآن لحري أن لا تؤثر فيه أي موعظة، وحق للجبال أن تصنف في منزلة تفوق منزلة هذا الآدمي؛ لأن الله جل جلاله قال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21]، وأنت قد قرأ عليك سورة ق كاملة من فوق المنبر فهل اتعظنا.
نسأل الله أن يفقهنا في القرآن وأن يجعله حجة لنا لا علينا.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم