سورة النصر

تركي بن عبدالله الميمان

2022-09-02 - 1444/02/06 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/تفسير سورة النصر 2/ من فوائد السورة

اقتباس

فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الإسلام جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً، فَصَارَتِ الْقَبِيلَةُ تَدْخُلُ بِأَسْرِهَا فِي دِيْنِ الْإِسْلَامِ، وَصَارَتِ الوُفُوْدُ تَتَقَاطَرُ على النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ العَام...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

 

أَمَّا بَعْد: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تعالى، فَبِالتَّقْوَى: تُدْفَعُ البَلايا والنَكَبَات، وتُجْلَبُ الخَيْراتُ والبَرَكات؛ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)[الطلاق:2-3].

 

عِبَادَ الله: إِنَّهَا رِسَالَةٌ مِنَ الله، تَحْمِلُ البِشَارَةَ لِرَسُوْلِ اللهِ، كَمَا تَحْمِلُ الإِشَارَةَ إِلَيْهِ: بِانْتِهَاءِ المُهِمَّةِ، وَوَدَاعِ الأُمَّةِ، وَلِقَاءِ رَبِّ العِزَّة؛ إِنَّها سُوْرَةُ النَّصْر، قَالَ -جل جلاله-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[النصر:1]: وَهَذِهِ بِشَارَةٌ بِنَصْرِ اللهِ لِرَسُوْلِهِ، وَفَتْحِهِ مَكَّة، فَبَعْدَ أَنْ كَانَ هَارِبًا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْش؛ صَارُوْا الآنَ في قَبْضَتِهِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ مَنْصُوْرًا مُؤَيَّدًا! قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مبينًا)[الفتح:1] أَيْ بَيّنًا عَظِيمًا وَاضِحًا.

 

ثُمَّ قالَ تعالى: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا)[النصر:2]: فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الإسلام جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةً، فَصَارَتِ الْقَبِيلَةُ تَدْخُلُ بِأَسْرِهَا فِي دِيْنِ الْإِسْلَامِ، وَصَارَتِ الوُفُوْدُ تَتَقَاطَرُ على النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ كُلِّ جَانِب، حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ العَام عَام الوُفُوْد.

 

قال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ)[النصر:3]: وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، لِكَيْلَا يَأْمَنُوا وَيَتْرُكُوا الِاسْتِغْفَارَ؛ فإِذَا كَانَ المعصومُ -صلى الله عليه وسلم- يُؤْمَرُ بِالِاسْتِغْفَارِ؛ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ؟

 

وَفِي تَقْدِيمِ الأَمْرِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ، عَلَى الْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، تَمْهِيدٌ لِلإِجَابَةِ والمَغْفِرَة؛ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الثَّنَاءِ قَبْلَ سُؤَالِ الْحَاجَةِ، سَبَبٌ لِإِجَابَةِ الدُّعَاء.

 

وَفِي سُوْرَةِ النَّصْر: إِشَارَةٌ إِلى أَنَّ أَجَلَ رَسُوْلِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَرُبَ وَدَنَا، وَأَنَّ حَيَاتَهُ الدُّنْيَوِيَّة أَوْشَكَتْ عَلَى الِانْتِهَاءِ؛ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلِقَاءِ رَبَّه، وَيَخْتِمَ عُمُرَهُ بِالتَّسْبِيْحِ والاِسْتِغْفَار، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: "كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ)؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَدْرِي فَقَالَ لِي عُمَر: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ، (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ) فذَلِكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ). قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ"(رواه البخاري).

 

قال بَعْضُ العُلَمَاء: "فَانْظُرْ إِلَى فَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُوَافَقَةِ عُمَرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَخَفَائِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ أَحْدَثُهُمْ سِنًّا! فَـالْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: عُنْوَانُ الصِّدِّيِقِيَّةِ، وَمَنْشُورُ الْوِلَايَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَفِيهِ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدٍ!".

 

وَمِنْ فَوَائِدِ سُوْرَةِ النَّصْر: أَنَّ التَّوْبَةَ والاِسْتِغْفَار؛ سَبَبٌ لِلْفِتْحِ وَالاِنْتِصَار! فَالنَّصْرُ لِهَذَا الدِّيْن، يَزْدَادُ عِنْدَ حُصُوْلِ الذِّكْرِ والشُّكْر، واللهُ يَقُوْلُ: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم:7]..

 

والاِسْتِغْفَارُ بَعْدَ الفَتْحِ والاِنْتِصَار؛ يَكْسِرُ الشُّعُورَ بِالغُرُوْرِ والاِفْتِخَار، وَهُوَ إِشْعَارٌ لِلْنَّفْسِ: بِأَنَّهَا فِي مَوْقِفِ العَجْزِ والتَّقْصِيْر، أَمَامَ نِعْمَةِ اللهِ العَلِيِّ الكَبِير؛ فَمِنْ هَذَا التَّقْصِير: يَكُوْنُ الاِسْتِغْفَار! (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها)[إبراهيم: 34].

 

والمُسْلِمُ إِذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ دِيْنِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيّةٍ؛ لا يَقُوْلُ -كما قالَ قَارُوْن-: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[القصص:78]، وَإِنَّمَا يَقُوْلُ -كَمَا قَالَ سُلَيْمَان-: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)[النمل:40].

 

وَمِنْ فَوَائِدِ سُوْرَةِ النَّصْر: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ تُفْتَحَ لَهُ المَسَائِلُ المُغْلَقَة، والنَّوَازِلُ المُشْكِلَة؛ فَعَلَيْهِ بِكَثْرَةِ الاِسْتِغْفَار! قالَ ابْنُ القَيِّم: "وَشَهِدْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ: إذَا أَعْيَتْهُ الْمَسَائِلُ، وَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ؛ فَرَّ مِنْهَا إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَقَلَّمَا يَلْبَثُ الْمَدَدُ الْإِلَهِيُّ أَنْ يَتَتَابَعَ عَلَيْهِ مَدًّا، وَتَزْدَلِفُ الْفُتُوحَاتُ الْإِلَهِيَّةُ إلَيْهِ!".

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

عِبَادَ الله: وَصَفَ اللهُ نَفْسَهُ قَائِلاً: (إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا)[النصر:3]: وَهَذَا إِغْرَاءٌ لِعِبَادِهِ أَنْ يَدْخُلُوا بابَ التَّوْبَة، قَبْلَ أَنْ يُغْلَق؛ لِأَنَّ التَوَّابَ: مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ؛ فَالله مُبَالِغٌ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ، وَإِكْرَامِ الوَافِدِيْن، الَّذِينَ تَرَكُوْا الذُّنُوْب؛ خَوْفًا مِنْ عَلَّامِ الغُيوب! (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة:222].

 

وكانَ -صلى الله عليه وسلم- كَثِيرَ الاِسْتِغْفَارِ والحَمْد: بَعْدَ نُزُوْلِ هَذِهِ السُّوْرَة؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي"(رواه البخاري ومسلم).

 

قالَ المُفَسِّرُوْنَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وأُعْلِمَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ أَجْلُهُ؛ فَأُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّوْبَةِ". وقد تُوُفِّيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّوْرَة بـ(سُوْرَةِ التَّوْدِيْع)، وَلِهَذَا حِينَ أُنْزِلَتْ؛ أَخَذَ -صلى الله عليه وسلم- فِي الاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ! وَهَكَذَا المُؤْمِن؛ كُلَّمَا اقْتَرَبَ أَجَلُه زَادَ في عَمَلِه (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر:98-99].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

 فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].

المرفقات

سورة النصر.pdf

سورة النصر.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات