سورة القلم

مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تعريف بسورة القلم 2/ تفسيرها 3/ ملخص لموضوعاتها الرئيسية 4/ بيان أن محورها هو إثبات نبوة النبي الكريم

اقتباس

سورة القلم عنيت بأصول العقيدة والإيمان، وتحدثت عن ثلاثة مواضيع أساسية هي: رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أثاره حولها كفار مكة من شبه وأباطيل. قصة أصحاب الجنة (البستان) لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى وعدم شكرها. الآخرة وأهوالها وشدائدها وما أعده الله للفريقين : المسلمين والمجرمين ..

 

 

 

 

 

الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، قال فيه الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وحديثنا اليوم بمشيئة الله تعالى عن سورة القلم، وهي السورة الثامنة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وهي اثنتان وخمسون آية، وهي مكية، وتسمى أيضاً سورة نون.

بدأت بقسَم الله تعالى القائل: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم:1]، ونون وجميع الحروف المقطعة التي بدأت بها بعض سور القرآن الكريم أغلب المفسرين يقولون: الله أعلم بمراده منها، ولهم في تفسير هذا الحرف تفسيرات أخرى، فأقسم الله بهذا الحرف وبالقلم لما فيه من البيان، وهو واقع على كل قلم يُكتب به.

وقال جماعة من المفسرين: المراد بالقلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيماً له، (وَمَا يَسْطُرُونَ)، أي: وما يكتبون، وجواب القسم: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [2]، وفيها نفي للجنون عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أي أنت برئ من الجنون يا محمد، ملتبساً بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة، والآية رد على الكفار حيث قالوا: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر:6].

ثم قال الله تعالى في سورة القلم: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) [القلم:3]، أي: لك ثواب على ما تحمَّلْتَ من أثقال النبوة غير مقطوع.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [4]، قيل: هو الإسلام والدين، وقيل هو القرآن، وحقيقة الخَلْق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سئلت عن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خلقه القرآن".

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) [5]، أي: ستُبْصِرُ يا محمد، ويُبصر الكفار إذا تبين الحق وانكشفت الغطاء يوم القيامة (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) [6]، أي: أيكم المفتون بالجنون، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [7]، تعليل لما قبلها، أي: الله أعلم بمن ضل عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين، وأعلم بالمهتدين إليه.

(فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [8]، نهى الله سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن طاعة المشركين، وهم رؤساء كفار مكة؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه الله عن طاعتهم، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [9]، الإدهان: هو الملاينة والمسامحة والمداراة، والمعنى: ودوا لو تلين لهم فيلينوا لك.

(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [10]، أي: لا تُطِعْ كثيرَ الحلف بالباطل، قليل الرأي والتمييز؛ وقيل: الكذَّاب، وقيل: الحقير أو الذليل أو الوضيع، قيل: هو الأسود بن عبد يغوث.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [11]، الهمَّاز: المغتاب للناس، والمشَّاء بنميم: الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) [12]، أي: بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه، وقيل: هو الذي يمنعه أهله وعشيرته عن الإسلام، متجاوزاً الحد في الظلم، كثير الإثم.

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [13]، عُتُلٍّ: أي: فاحش الخلُق، أو شديد الخصومة في الباطل، أو الغليظ الجافي، وبعد ذلك زنيم: أي هو بعد ما عد من معايبه زنيم، والزنيم: هو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم.

(أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) [14]، أي: لا تطعه لماله ولبنيه، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [15]، أي: قال مستهزئاً ساخراً: إنها خرافات وأباطيل المتقدمين اختلقها محمد ونسبها إلى الله!.

فردَّ عليه الله سبحانه بقوله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [16]، أي: سنسمه بالكي على خرطومه، قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك أن يسود وجهه قبل دخول النار، أي سنجعل له علامة بالخطم عليه يعرف بها إلى موته.

وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال له: اكتب فقال: يا رب! وما أكتب؟ قال: اكتب القدَر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم طوي الكتاب، ورفع القلم.

وكان عرشه على الماء، فارتفع بخار الماء، ففتقت منه السماوات، ثم خلق النون فبسطت عليه، والأرض على ظهر النون فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة، ثم قرأ ابن عباس -رضي الله عنهما: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ).

ثم تحدثت السورة عن قصة أصحاب الجنة، بدءاً بقول الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) [17]، أي: بلونا كفار مكة بالجوع والقحط بدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرهم عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاءَ لرجُلٍ يؤدِّي حق الله منها، فمات وصارت إلى أولاده، فمنعوا الناس خيرها بحق الله فيها.

وقيل: إنهم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين، ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزروع ونخيل، وكان أبوهم يجعل ما فيها من كل شيء حظا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقال بنوه: المال قليل، والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا، وعزموا على منع المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قصَّه الله في كتابه.

إذ حلفوا بأن يقطعوا ثمارها داخلين في وقت الصباح، (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) [18]، يعني: ولا يقولون إن شاء الله، (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) [19]، قيل: نار أحرقتها حتى صارت سوداء، (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [20]، أي: كالشيء الذي قُطِعَتْ ثماره، أو كالليل الأسود.

(فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ) [21]، أي: نادى بعضهم بعضا داخلين في الصباح، فقال بعضُهم لبعضٍ: (أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ) [22]، أي: اخرجوا غدوةً إن كنتم صارمين للثمار.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) [23]، أي: ذهبوا إلى جنتهم وهو يسرون الكلام؛ لئلا يعلم أحد بهم، ولا يراهم الناس فيقصدونهم كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد، (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) [24]، أي: لا يدخل الجنة عليكم مسكين فيطلب منكم أن تعطوه منها كما كان يعطيه أبوكم، (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) [25]، الحرد: المنع، والمعنى: أي قادرين على منع المساكين من إعطائهم من جنتهم.

(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) [26]، أي: لما رأوا جنتهم وشاهدوا ما حل بها من الآفة التي أذهبت ما فيها، قال بعضهم لبعض: قد ضللنا طريق جنتنا، وليست هذه.

ثم تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزروع، قالوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [27]! أي: حُرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا على منع المساكين من خيرها.

(قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) [28]، أي: قال أمثلُهم وأعقلُهم وأخيرُهم: هلا تسبحون! يعني تستثنون، وسمي الاستثناء تسبيحاً لأنه تعظيم لله، وإقرار به، (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [29]، أي: تنزيها له من أن يكون ظالما لنا فيما صنع بجنتنا، فإن ذلك بسبب ذنبنا الذي فلعناه.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) [30]، أي: يلومون بعضهم بعضا في منع المساكين وعزمهم على ذلك، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) [31]! أي: عاصين متجاوزين حدود الله بترك الاستثناء.

ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوضهم بخير منها فقالوا: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا)، اعترفوا بالخطأ ورجوا من الله -عز وجل- أن يبدلهم جنة خيراً من جنتهم، (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) [32]، أي: طالبون منه الخير، راجون لعفوه، راجعون إليه.

(كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [33]، أي: مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به وبلونا أهل مكة به، عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرة أشدُّ وأعظم، لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك، ولكنهم لا يعلمون!.

عباد الله: هذه معانٍ إجمالية للنصف الأول من سورة القلم، أسأل الله أن ينفعنا بها، وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.

عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة القلم ذكر الله سبحانه حال المتقين، وما أعده لهم من الخير، فقال: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [34]، أي: النعيم الخالص في الآخرة الذي لا يشوبه كدر، ولا ينغصه خوف زوال، (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [35]؟! استفهام للإنكار.

وكان صناديد قريش يرون وُفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها، فلما سمعوا بذكر الآخرة وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا : إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا، فقال الله مكذبا لهم: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)؟! ثم وبخهم الله فقال: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [36] هذا الحكم الأعوج؟.

كأن أمر الجزاء مفوض إليكم تحكمون فيه بما شئتم! (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) [37]؟ أي تقرؤون فيه فتجدون المطيع كالعاصي، (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) [38]، أي: تختارون وتشتهون، ثم زاد الله سبحانه في التوبيخ لهم فقال: (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ) [39]، والمعنى: أم لكم أيمان وعهود متناهية في التوكيد على الله استوثقتم بها في أن يُدخلكم الجنة، فليس الأمر كذلك.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ) [40]، أي: سل يا محمد الكفار موبخاً لهم: أيهم بذلك الحكم الخارج من الصواب كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها؟ (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) [41]، أي: يشاركونهم ويوافقونهم في هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين، وهو أمر تعجيز.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)، أي: عند شدة الأمر، قيل أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمــَّر عن ساقه، (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [42]، قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم سجدة واحدة، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون؛ لأن أصلابهم تيبس فلا تلين للسجود. وفي الحديث الشريف: "يكشف ربنا عن ساق فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى مَن كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً".

(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)، أي: ذليلة خاشعة تغشاهم ذلة شديدة وحسرة وندامة، (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)، أي: يُدعون إلى السجود في الدنيا وهم معافون من العلل، متمكنون من الفعل، قيل: يُدعَون بالأذان والإقامة فيأبون. وقال سعيد بن جبير -رضي الله عنه-: يسمعون حي علي الفلاح فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: نزلت هذه الآية في الذين يتخلفون عن الجماعات.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ)، أي: خَلِّ بيني وبينه، وكل أمر إليّ فأنا أكفيكه، والمراد بالحديث: القرآن. وفي هذا تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [44]، أي سنأخذهم بالعذاب على غفلة، ونسوقهم إليه درجة، حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنهم يظنونه إنعاماً ولا يفكرون في عاقبته، وما سيلقونه في نهايته.

ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين فقال: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [45]، أي: أمهلهم ليزدادوا إثما، فكيدي قوي شديد، فلا يفوتني شيء، وسمي سبحانه إحسانه لهم بالإمهال كيدا كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته، ووصفه بالمتانة لقوة أثره في التسبب للهلاك.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [46]؟ أي أم تلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الإيمان فهم من غرامة ذلك الأجر مثقلون؟ أي يثقل عليهم حمله، لشُحّهم ببذل المال، فأعرضوا عن إجابتك لهذا السبب. والمعنى: أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) [47]، أي: اللوح المحفوظ أو كل ما غاب عنهم فهم من ذلك الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)، أي: لقضائه الذي قضاه في سابق علمه، (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [48]، يعني يونس -عليه السلام-، أي: لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) في بطن الحوت بقوله: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].

قيل إن المكظوم المأخوذ بكظمه، وهو مجرى النفَس، (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، أي: لولا أن الله تدارك صاحب الحوت بنعمته، وهي توفيقه للتوبة فتاب الله عليه، (لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ)، أي: لأُلقِي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات، (وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم:49]، أي: يُذم ويُلام بالذنب الذي أذنبه، ويطرد من رحمة الله.

(فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ)، أي: استخلصه واصطفاه، واختاره للنبوة، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [50]، أي: الكامِلين في الصلاح، وعصَمه من الذنب، (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ)، أزلقه: أي أزل رجله، وقيل يزلقونك بمعنى يغتالونك بعيونهم فيزلقونك عن مقامك التي أقامك الله فيه؛ عداوة له (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ)، أي: وقت سماعهم للقرآن، لكراهتهم لذلك أشد كراهية، (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [51]، أي: ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن.

فرد الله عليهم بقوله: (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) [52]، أي: إنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه، أو شرف لهم، وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإنس والجن.

عباد الله: سورة القلم عنيت بأصول العقيدة والإيمان، وتحدثت عن ثلاثة مواضيع أساسية هي:
رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أثاره حولها كفار مكة من شبه وأباطيل.
قصة أصحاب الجنة (البستان) لبيان نتيجة الكفر بنعم الله تعالى وعدم شكرها.
الآخرة وأهوالها وشدائدها وما أعده الله للفريقين : المسلمين والمجرمين

ومحورها الأساسي هو إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، وقد خُتِمَتْ بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على أذى المشركين، وعدم التبرم، والضجر، بما يلقاه في سبيل دعوة الله -عز وجل-، نسأل الله أن ينفعنا بما جاء فيها من مواعظَ وعِبَرٍ، وبما جاء في كتابه الكريم، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.

وصَلُّوا وسلِّمُوا -عبادَ الله- على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

القلم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات