سورة الفاتحة

مراد كرامة سعيد باخريصة

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ منزلة سورة الفاتحة 2/ فضلها 3/ أسماؤها 4/ تفسيرها

اقتباس

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحمد لله رب العالمين أُمُّ القرآن، وأُمُّ الكتاب، والسبع المثاني" صحيح أبو داود. فَحَرِيٌّ بنا أن نتأملها، وأن نستحضر معانيها، وأن ندقِّق في أسرارها.

 

 

 

 

نقف اليوم مع سورة قصيرة تسكب في النفس السكينة، وتفيض على القلب الطمأنينة، سورةٌ عظيمة المعنى، جليلة المبنى.

هي الواقية؛ لأنها تقي قارئها من السوء، وهي الشفاء؛ يستشفي بها المريض، وهي الصلاة؛ فلا تصح الصلاة بدونها، وهي السبع المثاني؛ لأنها تثنى وتكرر في كل صلاة.

هي سورةٌ عجيبة؛ لأنها أصل لكل خير وأساس لكل معروف وكنزٌ لكل شيء شافيةٌ من كل داء كافيةٌ من كل هم وافيةٌ بكل مرام واقيةٌ من كل سوء.

سورةٌ افتتح الله -جل وعلا- بها كتابه، وفرض قراءتها سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، ويكفي في ذلك دلالة على أهميتها وعظم معانيها!.

هي أم الكتاب، هي الشافية، هي الكافية، هي النور، هي الفاتحة؛ لأن القرآن افتتح بها، وهي الحمد، لأنها بدأت بالحمد: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة:1-3].

يقول الله -جل وعلا- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر:87]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني" صحيح أبو داود. فَحَرِيٌّ بنا أن نتأملها، وأن نستحضر معانيها، وأن ندقق في أسرارها.

أخرج الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده! ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان -أي: القرآن- مثلها، إنها السبع المثاني".

يقول ابن القيم -رحمه الله-: أنزل الله مائة كتاب، وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [5].

و عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر به وهو يصلي فدعاه، قال: فصليت ثم أتيته، قال: فقال: "ما منعك أن تجيبني؟"، قال: كنت أصلي، قال: "ألم يقل الله -عز وجل-: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ لأعلمنك أعظم سورة من القرآن [أو في القرآن، شك خالد] قبل أن أخرج من المسجد"، قال: فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخرج، فَذَكَّرْتُهُ، فقال: "الحمد لله رب العالمين، وهي السبع المثاني التي أوتيت والقرآن العظيم".

واسمعوا إلى هذا الحديث العجيب المهيب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: قال الله -عز وجل-: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله مجّدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".

فما أجملها من مناداة! وما أعظمها من مناجاة بين الخالق والمخلوق، وبين الحبيب والمحبوب! حمدٌ وثناء، وتمجيد ومسألةٌ، ودعاءٌ وتوحيد.

روى مسلم عن عبد الله بن عبّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: بينَما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سمِع نقيضًا من فوقِه، فرفع رأسه فقال: "هذا بابٌ من السماءِ فُتِح اليومَ، لم يُفتَح قطّ إلا اليوم، فنزل منه ملَك فقال: هذا مَلكٌ نزل إلى الأرضِ لم ينزِل قطّ إلاّ اليوم، فسلَّم وقال: أبشِر بنورَين أوتيتَهما لم يؤتاهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب، وخواتيمُ سورة البقرة؛ لن تَقرَأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه".

(الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [2]: الحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال، ونعوت الجلال والجمال، فهو -سبحانه- أهلٌ للثناء والمجد، له الملك وله الحمد، أنعم علينا بالنعم العظيمة، والآلاء الجسيمة، فاستحق الحمد.

ذكر ابن حجر -رحمه الله- أن عمران بن الحصين الصحابي المشهور مكث 30 سنة لا يرتفع عن فراشه، وكان يردد ويقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين.

الحمد لله في السراء والضراء، الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظمته وسلطانه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والحمد لله تملأ الميزان".

كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى حمد الله ثلاثا وثلاثين مرة، وإذ أراد أن ينام حمد الله ثلاثا وثلاثين مرة، وإذا أكل أو شرب حمد الله، وإذا عطس حمد الله، وإذا رأى رؤيا يحبها حمد الله، وإذ أصابته مصيبة حمد الله، وإذا رأى مبتلى ابتلاه الله حمد الله، وأخبر أنّ "أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

(رَبِّ الْعَالَمِينَ): الرب هو المالك المتصرِّف، والعالَمين جمع عالَم، وهو كل موجود سوى الله، كعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الطير، وعالم الحيوان، وعالم النبات؛ فإن الله -جل جلاله- رب العالمين، هو -سبحانه وتعالى- رب الجميع، رب السماوات ومَن فيهنّ، ورب الأرضين ومن فيهن، ورب ما بينهن.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [3]: اسمان من أسماء الله -سبحانه وتعالى- يدلان على أن رحمته وسعت كل شيء، وَعَمَّتْ كل حي.

والرحمن تدل على السعة والشمول، فهو رحمن بكل الخلق، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم؛ والرحيم ذو الرحمة ا لخاصة بالمؤمنين، كما قال الله -تعالى-: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمَاً) [الأحزاب:43].

وأبْشِروا يا عباد الله! فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الله كتب كتابا فهو مكتوبٌ عنده فوق عرشه: "إن رحمتي سبقت غضبي". وفي رواية: "غلبت غضبي".

(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [4]: يوم الدين هو يوم القيامة، والله -جل وعلا- يملك يوم القيامة، ويملك غيره من الأيام؛ وإنما خصه هنا لأنه يظهر للخلق في يوم القيامة أن كل شيء ينقطع وينفصل ويبقى الرجاء والأمل في الله وحده لا شريك له، فحتى الأنبياء كل منهم يقول: نفسي نفسي! (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) [الشعراء:88]، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) [عبس:34]، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) [النبأ:38].

فما دام أن الله -سبحانه وتعالى- هو المالك ليوم الدين وحده؛ فلا بد أن نتضرع إليه، ونبتهل إليه أن ينجينا من أهوال يوم الدين .

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [5]: كتب الإمام ابن القيم -رحمه الله- كتاباً في ثلاثة مجلدات يشرح فيه هذه الآية: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) سمَّاه: [مدارج السالكين، بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين].

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): أي: نخصُّك يارب بالعبادة، ونخصّك بالاستعانة، فلا نعبد غيرَك، ولا نطلُبُ إلاّ عونَك، ولا نستَغني عن فضلِك، ولا نستعِين بسواك.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): إقرارٌ منا بعجزنا وضعفنا عن عبادة ربنا؛ فإننا لن نستطيع أن نعبد الله حق عبادته إذا لم يُعِنَّا على طاعته، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) [الأعراف:43].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فلْيلزم عتبة العبودية، فمَن أراد السعادة فليلزم طريق العبادة.

وقال -رحمه الله-: تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العبد ربَّه العونَ على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ فإن فيها إظهار الحاجة والفقر لرب العالمين.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): تُشْعِر المسلم أنه قوي بالله، فما استعان عبدٌ بالله إلا أعانه الله، ومَن توكَّل على مولاه كفاه؛ فاسْتَعِنْ بالله، ولا تتعلق بأحد سواه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله مُنزل القرآن رحمة للعالمين، ومناراً للسالكين، وحجة على العباد أجمعين.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) [الكهف:1-2].

والصلاة والسلام على خير خلق الله، مَن اصطفاه ربه واجتباه، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: عباد الله: يقول الله بعد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ): (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) [6]، دعاءٌ صريحٌ من العبد لربه يتضرع إليه ويلح عليه أن يرزقه الهداية إلى الطريق الصحيح، وأن يوفقه إلى الاهتداء للصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، وعصمهم من الضلال والزلل؛ فلم يكونوا كاليهود الذين ضلوا عن سواء السبيل، ولم يكونوا كالنصارى الذين عبدوا الله بغير دليل.

(صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [7]. (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ): وهم اليهود الذين غضب الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعَبَدَ الطاغوت، يقول الله عنهم: (وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ) [آل عمران:112]، ويقول عنهم: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) [المائدة:60]؛ لأنهم عرفوا الحق وعلموه لكنهم عاندوه وتبرأو منه ولم يعملوا به، فكل من عرف الحق ولم يعمل به ففيه شبه منهم.

(وَلَا الضَّالِّينَ) هم النصارى الذين قال الله عنهم: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة:77]؛ لأنهم لم يتعبدوا الله بما أنزله الله وشرعه وإنما تعبدوه بالبدع والمحدثات، (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) [الحديد:27]، فكُلُّ مَن عبد الله بالبدع والمحدثات ففيه شبه منهم، أعاذنا الله وإياكم!.

ولهذا أمرنا الله أن نسأله في كل يوم وليلة أن يهدينا إلى الصراط المستقيم؛ لأن الهداية هي السعادة الحقيقة، واللذة الأبدية، والحياة الطيبة.

في الهداية تجد النفوس حلاوتها وسعادتها، وتجد القلوب قوتها وحريتها، ويوم ابتعدنا عن الهداية كثرت البدع والخرافات، وانتشر السحر والشعوذات، وزاد الزنا والكذب والمنكرات.

(اهدنا الصراط المستقيم) إذا ضلت العقول والأفهام، وشطَّت الآراء والأقلام، واشتد الضلال والظلام.

اهدنا الصراط المستقيم إذا ضاقت الأنفاس، واشتد القنوط واليأس، وحل الضر و البأس.

يقول الله -جل جلاله- في الحديث القدسي: "يا عبادي، كُلُّكُمْ ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني اهدكم".

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن حاجة الناس إلى هذا الدعاء، يعني: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)، أشَدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ ولهذا أمرنا الله أن نكرره في كل ركعة من ركعات الصلاة.

ثم شرع لنا بعد هذا الدعاء أن نقول: (آمين)، ومعنى (آمين): اللهم استجب. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنه مَن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.

هذه كلمات يسيرات في معاني هذه الآيات العظيمات، اسأل الله أن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن العظيم، وأن يرزقنا تلاوته وتدبره آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضى به عنا.

 

 

 

 

 

المرفقات

الفاتحة1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات