سلطان القرآن

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/إعجاز القرآن في لفظه ومعناه 2/أثر القرآن على الإنس والجن وبعض القصص في ذلك 3/حال العرب قبل نزول القرآن وبعده 4/الفوز والسعادة في القرآن

اقتباس

إنَّهُ الكتابُ الكريمُ العَزِيْزُ حَارَتْ لجاذِبِيَّتِهِ العقولُ، وَخَضَعَتْ لِسُلْطَانِهِ القلوب. آياتُه تَهُزُّ الوِجْدَانَ هَزَّاً، وكلماتُهُ فَاقَتْ فَصِيْحَ اللسَان بلاغة ونظماً. أَنْزلَهُ اللهُ كالغيثِ للقلوبِ العَطْشَى، مَنْ اتَّبع هُداهُ فلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، تَنْزِيلاً ممن...

الخطبة الأولى:

 

إخوة الإيمان: البَلاَغَةُ والبيانُ تَأْسرُ النُّفوسَ، وتَهْفُوا لها القلوبُ، وَتُصْغِي إليها الأَسْمَاُع، وفي الحديثِ: "إنَّ مِنَ البيانِ لسحراً"، فكيفَ إذا كانَ هذا البيانُ مُعْجِزٌ في لَفْظِهِ وِمَعْنَاهُ؟

 

إِلَيْكُم هذا الخبرُ الذي قَصَّتْهُ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها- فقالت: "لَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، فلَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي؟ فقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، فردَّه إلى مكة، ثم قابلَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِى الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".

 

ثم صَدَعَ أمامَ قريشٍ بأنَّ أبا بكرٍ في جواره ـيعني حمايتهـ ، فقالت قريش:  مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.

 

فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ، وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ رَجُلاً أَسِيْفَاً بكَّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذا قرأَ القرآن.

 

واسْتِمِرَّ أبو بكرٍ على هذهِ الحالِ، وإذا بِنِسَاءِ المشركينَ وأَبْنَائِهم يلْتَفُّونَ حولَهُ ويَكْتَظُّونَ، قدْ أَسَرَتْهُم سَطْوَةُ القرآنِ، وَرَوْعَةُ كلامِ الرحمن.

 

إنَّهُ الكتابُ الكريمُ العَزِيْزُ حَارَتْ لجاذِبِيَّتِهِ العقولُ، وَخَضَعَتْ لِسُلْطَانِهِ القلوب.

 

آياتُه تَهُزُّ الوِجْدَانَ هَزَّاً، وكلماتُهُ فَاقَتْ فَصِيْحَ اللسَان بلاغة ونظماً.

 

أَنْزلَهُ اللهُ كالغيثِ للقلوبِ العَطْشَى، مَنْ اتَّبع هُداهُ فلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، تَنْزِيلاً ممن خَلَقَ الأرضَ والسمواتِ العلى.

 

هو مُعْجِزٌ، وإِعْجَازُه خَالدٌ، وَمِنْ أَعْظَمِ صُورِ هذا الإعجازِ تأثيرُه في نفوسِ سَامِعِيْه.

 

خَضَعَ لِتَأْثِيْرِهِ الإنسُ والجنُ، والكافرُ والمؤمنُ، والعاقلُ والجامد.

 

سَمِعَ هذا القرآنَ مشركونَ تَصَخَّرت قلوبُهم من الجهلِ والإعراضِ وعبادة الأوثانِ، فانْبَهَروا وَذُهِلُوا من عجائب القرآنِ.

 

هذه السَّطْوةُ القرآنيةُ لمجامعِ القلوبِ أَدْرَكَها عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، الذي مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجادلاً ومعارِضَاً، فقرأ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- قول الحق: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)[فصلت: 1-4] الآيات.

 

فلفَّهُ الانْدِهَاشُ والإعجابُ والإِكْبَارُ مما سَمِعَ، فَعَادَ إلى قومِهِ بِوَجْهٍ غيرَ الذي ذَهَبَ به، فقال لهم نَاصِحَاً: "لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ وَاللَّـهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا السِّحْرِ وَلَا الْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعلُوهَا بِي خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ".

 

وهذا جُبَيْرُ بنُ مُطْعِم يَمْشي مِنْ مكةَ إلى المدينة، ليفاوضَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في أَسْرَى بدر، فوصلَ المدينةَ صلاةَ المغرب، فسمعَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقرأُ بِسُورةِ الطُّور، فأَخَذَتْ شعورَه وأحاسِيْسَه آياتُ الوعدِ والوعيد، وحُجَجُ الحميدِ المجيد، فلما بلغ قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)[الطور: 35-37] قال: "كاد قلبي أن يطير".

 

هذا ابن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- كان في الجاهلية خصماً عنيداً، وعدواً لدوداً، حتى قيل لو سلم حمار الخطاب لما أسلم عمر، فما لذي غيره؟ ومن الذي حوله من النقيض إلى النقيض؟

إنه القرآن الذي قرأ منه عمر بضع آيات من سورة طه.

 

وهذا سَعْدُ بنُ معاذٍ -رضي الله عنه- سيِّدُ الأَوْسِ عاش مُشْرِكاً، فسمع بقدومِ مصعبِ بنِ عُمير -رضي الله عنه- إلى المدينة، وبلغهُ تأثرُ الناسِ به، وتحولهم إلى الإسلام، فذهب إليه حاملاً سلاحَه، فاستأذنه مصعبُ أن يقرأَ عليه شيئاً من الوحي، فاستنصت له سعد، فإذا هو يسمع آيات لم يسمع بها: (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الزخرف: 1-3]، فانْسَلَّتْ تلك الآياتُ القليلاتُ إلى قلبِ سعد، وإذا بالقرآنِ يصنعُ سعداً آخراً.

 

سطوةُ القرآنِ عرفَهَا العربُ الجاهليون، فقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26].

 

قوارعُ القرآن وتأثيرُه ونفوذُه خافَهُ المنافقونَ السابقون، فكانوا يتوجَّسون ويحذرون: (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)[التوبة: 64].

 

سكينة هذا القرآن غشيت النصراني النجاشي فلم يمتلك مشاعره، فإذا دموعه تتهطل من خشية الله، حين أسمعه جعفرُ بنُ أبي طالب آيات من سورة مريم.

 

جاذبيةُ القرآنِ أوقفتْ الجنَّ، فجعلوا يَسْتَنْصِتُونَ لتلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأذهلتْهُم عجائبُ القرآنِ وهداياتُه، فقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الجن: 1-2].

 

بسكينةِ القرآن انبهرتْ ملائكةُ الرحمن، حين سَمِعَتْ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ يتغنَّى بالقرآن، فصارت تتهادى من السماء، وتقترب من الأرض لسماع القرآن،  قال أسيد: "فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا، فقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟" قَالَ: لَا، قَالَ: "تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ"(رواه البخاري).

 

سكينة القرآن تخشَّعُ لها الجبالُ الراسياتُ، والصخورُ القاسيات: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21].

 

تلك -عباد الله- نماذج لبعض ما تركه القرآن في نفوس سامعيه، يشعر به من يعي اللسان العربي ومن لا يعيه، وهذا لون من ألوان الإعجاز في القرآن الكريم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23].

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا أهل القرآن: ما أعظمَ هذا الكتابِ الذي يَصْنعُ المعجزات، ويُغيِّرُ القناعات، ويُصْلِحُ شأنَ الأفرادِ والمجتمعات.

 

ما أعظمَ النورَ المبينَ الذي نَزَلَ على أقوامٍ متنازعين، وقبائلَ متناحرين، فقادهم القرآن إلى أن كانوا إخواناً متوادين.

 

ما أعظم هذا الهدى والشفاء الذي نزل في وقت كان الناس يتقاتلون على البعير والشاء، فكانوا بعد أخلاق القرآن  يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

 

نزل حينها في بيئة لا صوت يعلو إلا صوت القبيلة، حتى قال مفاخرهم:

لا يسألونَ أخاهم حينَ يندُبهم *** في النائباتِ على ما قالَ بُرْهَانَا

 

فما الذي غير هؤلاء؟ ما الذي أثر فيهم؟

إنه الكلام المعجز الخالد الذي أَسَرَ أرواحَهُم، ورقَّت له قلوبُهم، واقشعرَّت من وعده ووعيده جلودُهم.

 

قرؤوا حروفَه، وأقاموا حدودَهُ، وتدبروا معانِيَهُ، وتفكروا في عجائِبِهِ، وعملوا بمحكمه، وآمنو بمتشابهه، فأصبحوا خير أمة أخرجت للناس.

 

كان الواحد منهم يسير في أرض الله، وهو يحمل أخلاق القران، وآدابَ القران، ومبادئَ القران، فانتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً ببركة هذا القران، الذي هذَّب أهلَه، وزكى نفوسَهُم، وقوَّم سلُوكَهُم، فجعلهم أسوة ومثلاً باقياً.

 

فيا من خصكم الله بالقرآن: كتاب هذا شأنه، وتلك منزلته، وذاك إعجازه، لا يليق بنا أن نهمله أو نتهاجره.

 

حِرْمَانٌ وأيُّ حرْمان أن يَتَسَمَّرَ الواحدُ منَّا على الجهاز أو الشاشة الساعات ذوات العدد، ثم يفتر عن ورْدٍ يوميٍّ مع القرآن يتعاهد؟

 

فصالحنا وفلاحنا وسعادتنا وعزنا في هذا القرآن، كم في النفوس من شهوات تَتَشَوَّفُ؟ وكم في القلوبِ من شُبُهاتٍ تَنْبُضُ؟ وكم هي طبقاتُ الرَّانِ قدْ علت على قلوبِ أصحابها وهم لا يشعرون؟ وعلاج ذلك كله هو في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57].

 

هذه الصدور إذا اسْتَشْفَتْ بالقرآن تَعَافَت وصَلُحَتْ، فَسَهُلَتْ عليها الطاعاتُ واستجابَتْ، وعظَّمَتْ مِنْ شأنِ النُّصوصِ وانْقَادت، وأنكرت كل انحراف وتبرَّأت، وانشرحت لكل تقى، واستبشرت بكل هدى.

 

يا أمة القران: هذا شهر القرآن فاستنهضوا الهمم للقرآن، وحركوا القلوب للقرآن، فذاك كسب عظيم، ونفحة مباركة، من رب كريم، ومن تزكى فإنما  يتزكى لنفسه، ومن عمي فعليها: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].

 

اللهم صل على محمد...

 

المرفقات

سلطان القرآن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات