عناصر الخطبة
1/شدة مواقف يوم القيامة 2/حديث جليل طويل 3/هول العرض على الله 4/رهبة الوقوف بين يدي الجبار 5/مراسم العرض العام على الله 6/أحوال الناس في مواقف العرض يوم القيامة.اقتباس
فحُقُّ لكل مؤمنٍ يرجو الله واليوم الآخر، أن يتساءل، كيف سيكون العرضُ على الله؟، وكيف سيحاسب الناس يوم القيامة؟ من الذي سينجو في ذلك الموقف الرهيب العصيب؟ وما هي أسباب النجاة؟ ومن الذي سيهلك عياذاً بالله؟.. هذا هو أهم وأوجب ما ينبغي معرفته والعمل من أجله..
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ دبَّرَ بحكمته شؤونَ العبادِ، وأوضحَ برحمته سبيلَ الرشادِ، وقهرَ بحُجّته أهلَ الزيغِ والعنادِ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الرعد : 33].
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، تنزَّهَ عن الأشباهِ والأضداد والأندادِ، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].
وأشهدُ أن محمداً عبد اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ؛ من إذا ذُكرَ العُبّادُ، فهو أعبَدُهم، وإذا أُشِيدَ بالعلماء، فهو أعلَمُهم، وإذا أُثنيَ على الفرسان، فهو أشجَعُهم، وإذا عُظِمَ الرؤساءُ فهو أعظَمُهم، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابهِ وتابعيهِ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، فلا عزَّ أرفعُ من التقوى، ولا زينَة أجملُ من العقل، ولا كنزَ أنفعُ من العلم، ولا قرِينَ شرُّ من الجهلِ، ولا عيبَ أسوأ منَ الكَذِب، ولا غائبَ أقربَ من الموت، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 282].
معاشر المؤمنين الكرام: نستأنفُ بإذن الله سلسلةَ دروسِ الدارِ الآخرة، وهذه هيَ الحلقةُ الخامسةَ عشرةَ، وكان آخر ما ذكرناه, أنَّ الأمرَ يطولُ على الناس يومَ القيامة، ويصلُ بهم الكربُ إلى ما لا يطيقون، فالشمسُ حارقةٌ، والحرُّ والزحامُ شديد، والناسُ في عرقهم على قدر أعمالهم، حتى أنَّ منهم من يُلجمهُ العرقُ إلجاماً، ويشتدُّ بهم العطش، فيُكرمُ اللهُ أوليائهُ المؤمنينَ بأحواض ماءٍ يشربونَ منها.
ويكرم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأمتهُ المرحومةَ بحوضٍ عظيم خاصٍ بهم، كما ذكرنا خبر شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، الشفاعة العظمى، ليأذن اللهُ في بدء فصل القضاء بين العباد، وليُخلِصهم مما هم فيه من الكرب الطويل والمعاناة الشديدة...
ومن حديثٍ جليلٍ طويل، وإن كان في إسناده نظر؛ "تُوقفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا يَوْمَ الْقِيامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عام، لا يُنْظُر إلَيْكُمْ وَلا يُقْضَى بَيْنَكُمْ، قَدْ حُصِرَ عَلَيْكُمْ، فَتَبْكُونَ حتى يَنْقطِعَ الدَّمْعُ، ثُمَّ تَدْمعُون دما وَتَبْكُون حتى يَبْلُغَ ذلكَ مِنْكُمْ الأذْقَانَ، أوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَضُجُّونَ، ثُمَّ تَقُولُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَنا إلى رَبِّنا، فَيَقْضِي بَيْنَنا، فَيَقُولُونَ مَنْ أحَقُّ بِذلكَ مِنْ أبِيكُمْ، جَعَلَ اللهُ تُرْبَتَهُ وَخَلْقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وكَلَّمَهُ قُبُلا فَيُؤْتَى آدَمُ -صلى الله عليه وسلم- فَيُطْلَبُ ذلكَ إلَيْهِ فَيأْبَى، ثُمَّ يَسْتَقْرُونَ الأنبِياءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّما جاءُوا نَبِيًّا أبَى".
قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "حتى يَأْتونِي، فإذَا جاءُونِي خَرَجْتُ حتى آتِي الفَحْص"، قال أبو هريرة: يا رسول الله، ما الفحصُ؟ قال: "قُدَّامَ العَرْشِ، فأخِرُّ ساجِدًا، فَلا أزَالُ ساجِدًا حتى يَبْعَثَ اللهُ إليَّ مَلَكًا، فَيأخُذَ بعَضُدِي، فَيرْفَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ اللهُ لِي: مُحَمَّدٌ، وَهُوَ أعْلَمُ، فأقُولُ: نَعْم، فَيَقُولُ: ما شأنُكَ؟ فأقول: يا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفاعَةَ، شَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ فاقْضِ بَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، أنا آتِيكُمْ فأقْضِي بَيْنَكُمْ".
قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأنصَرِفُ حتى أقِفَ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنا نَحْنُ وَقُوفٌ، سَمِعْنا حِسًّا مِنَ السَّماءِ شَدِيدًا، فَهالَنا، فَنزلَ أهْلُ السَّماءِ الدُّنْيا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الجِنّ والإنسِ، حتى إذَا دنوْا مِنَ الأرْضِ، أشْرَقَتِ الأرْضُ، بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أفِيكُمْ رَبُّنا؟ قالوا: لا وَهُوَ آتٍ، ثُمَّ يَنزلُ أهْلُ السَّماءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نزلَ مِنَ المَلائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيها مِنَ الجِنّ وَالإنْسِ، حتى إذَا دَنَوْا مِنَ الأرْضِ أشْرَقَتِ الأرضُ بِنُورِهِمْ، وأخَذُوا مَصَافَّهُمْ، وَقُلْنَا لَهُمْ: أفِيكُمْ رَبُّنا؟ قالوا: لا وَهُوَ آتٍ.
ثُمَّ نزلَ أهْلُ السَّمَوَاتِ عَلى قَدْرِ ذلكَ مِنَ الضِّعْفِ حتى نزلَ الجَبَّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ وَالمَلائِكَةِ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ، يَقُولُونَ: سُبْحانَ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ، سُبْحانَ رَبِّ العَرْشِ ذِي الجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ سُبْحانَ الَّذِي يُميت الخلائق ولا يَمُوتُ، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلائِكَةِ والرُّوحِ، قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، سُبْحانَ رَبِّنا الأعْلَى سُبْحان ذِي الجَبرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِياءِ والسُّلْطانِ والعَظَمَةِ سُبْحانَهُ أبَدًا أبَدًا.
يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثمَانِيَةٌ، وَهمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ، أقْدَامُهُم على تُخُومِ الأرْضِ السُّفْلَى، والسَّمَوَاتُ إلى حُجَزِهِمْ، وَالعَرْشُ عَلى مَناكِبِهمْ، فَوَضَعَ الله عَرْشَهُ حَيْثُ شَاء مِنَ الأرْض، ثُمَّ يُنادِي بِنِدَاءٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ فَيَقُولُ: يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ، إنِّي قَدْ أنْصَتُّ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُكُمْ إلى يَوْمِكُمْ هَذَا، أسمَعُ كَلامَكُمْ، وأُبْصِرُ أعمالَكمْ، فَأنْصِتُوا إليَّ، فإنَّمَا هِيَ صُحُفُكُمْ وأعمالكُمْ تُقْرأُ علَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيرَ ذلكَ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ.
ثُمَّ يأْمُرُ اللهُ جَهَنَّمَ فَتُخْرِجُ مِنْها عُنُقاً ساطِعا مُظْلِما، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)[يس: 59-61]؛ فيتميز الناس ويَجْثُونَ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللهُ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجاثية: 28].
فَيَقْضِي اللهُ بَينَ خَلْقِهِ الجِنِّ والإنْسِ وَالْبَهائمِ، فإنَّهُ لَيَقِيدُ يَوْمَئِذٍ لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ القُرُونِ، حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبِعَةٌ عِنْدَ وَاحِدةٍ لأخْرَى قال اللهُ: كُونُوا تُرَابًا، فَعِنْدَ ذلكَ يَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا، ثُمَّ يَقْضِي اللهُ سُبْحانَهُ بَينَ الجِنِّ والإنْسِ" انتهى الحديث..
إذن فبعد أن يأذن الله -جلَّ جلاله- ويقبل شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ببدء العرض والحساب وفصل القضاء، يأمرُ الله -تعالى- الملائكة بالنزول من أرجاء السموات وأقطارها إلى أرض المحشر، ويبدأ النزول بملائكة السماء الدنيا، فيحيطون بأهل المحشر مُشكلين دائرةً هائلة، ثم تنزل ملائكة السماء الثانية فيحيطون بمن قبلهم دائرةً كاملة، ثم ملائكة السماء الثالثة، فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة..
كل ملائكة سماءٍ يُحيطون بمن قبلهم في دوائر وصفوفٍ متكاملةٍ لا يعلم مداها وسعتها إلا الله -جلَّ في علاه-.. ثم ينزل الملائكة الكروبيون، وحملة العرش، والمقربون.. ولهم زجلٌ عظيمٌ بالتسبيح والتقديس والتعظيم.. ويَجيءُ الله -جلَّ جلاله- في ظُللٍ من الغمام والملائكة.
كما قال -تعالى-: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)[البقرة: 210]، وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[الفرقان: 25]، وقال -تعالى-: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)[الفجر: 23]؛ فتشرق الأرض بنوره جلَّ وعلا، ويُصعقُ أهل الموقف لجلاله وهيبته..
وفِي الحديث الصَّحِيحِ أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَة الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي: أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِي بِصَعْقَة يَوْمِ الطُّورِ". يقول الشيخ ابن باز -رحمه الله-: وَهَذَا صَعْقٌ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَة، إِذَا جَاءَ اللَّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِه، قال -تعالى-: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الزمر: 69].
وحين يأذن الله -تعالى- بفصل القضاء والعرض عليه، تأتي جميع الأمم تِباعاً، حتى تأخذَ كل أمةٍ موضعها الذي حُدِّدَ لها، الكل سواسيةٌ لا تمايز بينهم، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)[الأنعام: 94].
وقال -تعالى-: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الكهف: 48]، وقال -جلَّ جلاله-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18]، وقال -جل وعلا-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18].
هذا هو العرض العام على الله -تعالى-، فالكل يُعرض، والكل يجثو على ركبتيه بين يدي الجبار -جلَّ جلاله-، ينتظرُ كلمة الحكم وفصل القضاء، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجاثية: 27-29]..
وفي حديثٍ صححه الإمام الألباني، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة ينزلُ إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمةٍ جاثية"..
وبالرغم من شدة ما يعانيه الكفار والعصاة من أنواع العذاب وألوان النكال في ذلك اليوم الطويل؛ إلا أن ذلك كله لا يشكلُ شيئاً أمام هول العرض على الله، فمن رهبة الوقوف بين يدي الجبار -جلَّ جلاله-، يتمنى الكفار والعصاة أن تسوى بهم الأرض ولا أن يقفوا هذا الموقف المخزي، تأمل: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)[النساء: 42].
فيا له من موقفٍ رهيبٍ عصيب، آلاف البلايين من البشر والجن والحيوانات، أممٌ مختلفة، وكلها على ركبها جاثية، في صفوفٍ منتظمة، كلٌّ قد وقف في مكانه المحدد، في منظرٍ مهيبٍ عجيب، أجسادٌ عارية، وأعناقٌ مُشرئبة، وعيونٌ شاخصة، وقلوبٌ واجفة.
والملائكة الكرام تتحلق حولهم صفوف طويلةٌ هائلة، بعضها خلف بعض.. والكل صامتٌ لا يتكلم.. (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طه: 108]، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)[النبأ: 38]..
وإذا كان الجبار جلَّ جلاله سيغضب في ذلك اليوم العصيب غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، حتى إن الخليل إبراهيم ليقول: "نفسي نفسي، اللهم لا أسألك اليوم إلا نفسي".. فحُقُّ يا عباد لله لكل مؤمنٍ يرجو الله واليوم الآخر، أن يتساءل، كيف سيكون العرضُ على الله؟، وكيف سيحاسب الناس يوم القيامة؟ من الذي سينجو في ذلك الموقف الرهيب العصيب؟ وما هي أسباب النجاة؟ ومن الذي سيهلك عياذاً بالله؟.. هذا هو أهم وأوجب ما ينبغي معرفته والعمل من أجله..
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء: 101-102].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا من الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18].
معاشر المؤمنين الكرام: لا نزال مع مراسم العرض العام على الله، فخلال هذا العرض المهيب, يأمرُ اللهُ -جلَّ جلاله- فتسعَّرُ النار، وتُبرز وتُقرب من الكفار.. ويأمرُ الله بالجنة فتقرَّبُ لأهلها، قال -تعالى-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)[الشعراء: 88-91].
وقال -تعالى-: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)[الفجر: 22-23]، وفي صحيح مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤْتَى بجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها"..
وقال -تعالى-: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)[الفرقان: 12]، فالنارُ تزفُرُ وتَشهَقُ على الكفار بأصواتٍ مٌرعبةٍ، ومنظرٍ مُفزع، فيدخلُ عليهم من الرُّعب والهلعِ ما لا يوصف.. ويخرجُ عنقٌ طويلٌ هائلٌ من النار، كما جاء في حديثٍ صحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "يَخرجُ عُنقٌ من النَّارِ يومَ القِيامةِ له عينانِ تُبصِرانِ، وأُذُنانِ تَسْمَعانِ، ولِسانٌ يَنطِقُ، يقولُ: إنِّي وُكِلْتُ بثلاثةٍ: بِمن جعل مع اللهِ إلهًا آخرَ، وبكلِّ جَبَّارٍ عنِيدٍ، وبِالمُصوِّرِينَ".. وفي روايةٍ صحيحة: "فتنطلقُ بهم قبل سائرِ الناسِ بخمسمائةِ عامٍ"..
أيها الكرام: العرض على الله -تعالى- يشملُ العرضَ العامَّ للأمم والأفرادِ على الله -تعالى-، كما يشملُ العرضَ الخاصَّ للأعمال والكتب على العباد، قَالَ -تعالى-: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 6-8].
وفي الصحيحين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
وقَالَ أمير المؤمنين الفاروق –رضي الله عنه-: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا, وَزِنَوْا أَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وتهيئوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ على الله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18].. فما هي تفاصيلُ هذا العرضِ الخاص، هذا ما سنتكلم عنه في الحلقة القادمة بإذن الله..
فيا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين...
.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم