عناصر الخطبة
1/ نفس الإنسان أحد أعدائه 2/ وجوب محاسبة النفس 3/ أقسام محاسبة النفس 4/ ثمرات محاسبة النفس 5/ بعض المسائل والأحكام المتعلقة بدخول عام وخروج عام 6/ التهنئة بالعام الجديد 7/ البدع والمحدثات في نهاية العام 8/ لم يرد في ختام العام أو بدايته شيء صحيحاقتباس
إن المسلم في خضم هذا الزمان المتلاطم بالفتن والمغريات، وتنوع الشهوات، وكثرة الشبهات، وتسلط الأعداء عبر القنوات، وكثرة الملهيات؛ عليه أن يحاسب نفسه أشد المحاسبة، ويتفقدها بالعناية التامة، فمن حاسب نفسه الآن خفَّ حسابه يوم قيام الأبدان. إن بعض الناس لا يرتاح في منام حتى يحاسب عماله وأعماله، وما آلت إليه أمواله وتجارته من الخسران والمرابحة. هكذا أهل الدنيا يتحاسبون، ولأعمالهم ينظمون، أفلا يليق بمن يريد التجارة الرابحة قطعًا والسعادة الأبدية صدقًا أن يحاسب نفسه، ويجاهد هواه، ويتغلب على شيطانه؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم الوهاب (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأرباب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وأناب، وخير من تزكى وتاب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير آل وأصحاب والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية، في الغيب والشهادة فهي السعادة المنشودة.
إخوة الإسلام والعقيدة: إن مما بُلي به الإنسان: نفسُه بين الجوارح والجنان، وهي أحد أعداء الإنسان تسول له الشر في كل آن.
إني بليت بأربع ما سُلطت *** إلا لأجل شقاوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف الخلاص وكلهم أعدائي؟
فمن أراد العافية، ورام حسن العاقبة، فليتق الله على الدوام، وليحاسب نفسه في جميع الشهور والأعوام، فليس للطاعة زمن معدود، وليس للمحاسبة موسم محدود، شعار المؤمن (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
النفس -أيها المسلمون- خُلقت أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، تحب وتميل إلى الشر، وتترك وتكسل عن الخير، فمن قوَّمها بالطاعة وفطمها عن المعصية والإضاعة.
فالنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فقد زكاها وأسعدها، ومن أهملها وتركها في لهوها؛ فقد أشقاها ودساها، وربنا يقول فيها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10].
المحاسبة -أيها الأخوة- تفقُّد النفس، والوقوف معها، ومحاسبتها على أقوالها وأعمالها، وما لها وما عليها، محاسبة النفس نوعان؛ نوع قبل العمل، ونوع بعده.
فالأول هو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه، وفي هذا يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
ومنه قبل العمل الإخلاص والمتابعة، والثاني محاسبة النفس بعد العمل، وهو على ثلاثة أنواع؛ أحدها محاسبتها على طاعة قصَّرت فيها من حق الله، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي؛ كالصلاة والبر والصدقة والصلة، كيف حالها عند أوامر الله، هل قامت بها على ما أُمرت به، وعند حقوق الناس لأدائها وردها ووفائها.
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لما فعله، وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا أو الدنيا والحرام فيكون خاسرًا.
والأصل في المحاسبة قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]، يقول ابن القيم: "لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال، أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟!".
وقال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد".
والنفوس ثلاثة -أيها الإخوة-، لكل امرئ نفوس ثلاثة يعارض بعضها بعضًا في المقاصد؛ فنفس تمنّيه، وأخرى تلومه، وثالثة تهديه نحو المراشد.
الناس -عباد الله- وأصحاب التجارات -إخوتي في الله- يقفون مع عمالهم وتجاراتهم وأعمالهم عند نهاية الأعوام بالمحاسبة والمقاصة، ولهذا تجد على طرة الأبواب "مغلق للجرد السنوي"؛ فينظرون أرباحهم وخسائرهم.
إن بعض الناس لا يرتاح في منام حتى يحاسب عماله وأعماله، وما آلت إليه أمواله وتجارته من الخسران والمرابحة.
هكذا أهل الدنيا يتحاسبون، ولأعمالهم ينظمون، أفلا يليق بمن يريد التجارة الرابحة قطعًا والسعادة الأبدية صدقًا أن يحاسب نفسه، ويجاهد هواه ويتغلب على شيطانه؟!
والله لو حاسبنا أنفسنا أمام واجباتنا وأوامر ربنا لصلحت الأحوال، واستقامت المجتمعات، وعمت الخيرات والبركات.
الإنسان -أيها الإنسان- يحاسب شريكه على الدقيق والجليل، أفلا يتذكر كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، أفلا يتذكر المحاسبة والمساءلة (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
اذكر ذنوبك وابكها يا مذنب***واخش مناقشة الحساب
لم ينسه الملكان حين نسيته *** بل أثبتاه وأنت ?ه تلعب
إن المسلم في خضم هذا الزمان المتلاطم بالفتن والمغريات، وتنوع الشهوات، وكثرة الشبهات، وتسلط الأعداء عبر القنوات، وكثرة الملهيات؛ عليه أن يحاسب نفسه أشد المحاسبة، ويتفقدها بالعناية التامة، فمن حاسب نفسه الآن خفَّ حسابه يوم قيام الأبدان.
يقول عمر -رضي الله عنه- فيما رواه ابن أبي الدنيا مقالته الشهيرة: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتأهبوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية".
والنفس -أيها الأخوة- إذا حاسبتها رقَّت ونمت، وإذا أهنتها ضعفت ودنت، وهانت وفترت وكسلت..
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى *** فإن تُوِّقَت تاقت وإلا تسلت
فاحمل نفسك على جميل الأخلاق، وابتعد بها عن الخلاف والشقاق..
أقبل على النفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وتعظم المحاسبة -أيها الإخوة- عند تصرُّم الأعوام وتتابع انقضاء الأيام، فيعلم المرء حينها أن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده إلى أجله، وأجله يقوده إلى مستقره، والمستقر حينئذ إما في جنان نضرة أو في نيران مستعرة.
يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما مضى يوم مضى بعضك".
وفي صحيح مسلم يقول سبحانه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
فهلم نتساءل عن عامنا كيف قضيناه، ولنفتش عن كتاب أعمالنا كيف أمليناه، فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرناه، يقول مالك بن دينار رحمه الله: "رحم الله عبدًا قال لنفسه ألست صاحبة كذا، ألست صاحبة كذا، ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائدًا".
قدم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها علق النفوس فإنها *** زخر وغنم للمنيب المحسن
كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك ينقص عمره، وأنها مراحل يقطعها من سفره وخطوات يمشيها إلى قبره.
نجد سرورا بالهلال إذا بدا *** وما هو إلا السيف للحتف ينتضى
إذا قيل تم الشهر فهو كناية *** وترجمة عن شطر عمر قد انقضى
فهل يفرح بذلك إلا من استعد للقاء مولاه واتبع رضاه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
والخلاصة في المحاسبة تلكم العبارة الجميلة من ابن قيم الجوزية: "إن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من جميع الخطايا ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ..
كان السلف لأنفسهم يحاسبون، ولأعمالهم يراقبون، ولهذا في دنياهم نجحوا، وفي آخرتهم سعدوا وفازوا.
يقول ميمون بن مهران -رحمه الله-: "لا يكون العبد تقيًا حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؛ أمن حلال ذلك أم حرام؟ فإن النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك".
وهذا الحسن البصري -رحمه الله- يقول: "المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على أقوام حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
وهذا عمر دخل على أبي بكر -رضي الله عنه- فوجده يحاسب نفسه، ويشير للسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد، هذا الذي أوردني الموارد".
وهذا أنس -رضي الله عنه- يقول: دخل عمر حائطًا فسمعته يقول -وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط-: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ، بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك".
وهذا إبراهيم التيمي يقول: "مثلت لنفس كأني في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأطوف في وديانها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت لنفسي وكأني في النار آكل من زقومها، وأشرب من حميمها، وأصيح بين أهلها، ثم قلت: يا نفس، أي: دار تريدين؟ فقالت: أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً كي أنال الجنة، فقلت: يا نفسي ها أنت في الدنيا فاعملي".
وكان الأحنف بن قيس -رحمه الله- يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه ثم يقول: "حس، ويتألم، ثم يقول: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟!".
وكان توبة بن الصمة من سادات التابعين -رحمه الله- قد حسب يومًا عمره، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي واحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ بأعلى صوته، وقال: يا ويلتى، يا ويلتى، ألقى المليك بواحد وعشرين ألف وخمسمائة ذنب، كيف وفي كل يوم أكثر من ذنب؟!
وقال الحسن -رحمه الله- في قوله: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة: 2]: "لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي، ماذا أردت بأكلتي".
إن محاسبة النفس تحقق السعادة، وتدعو إلى الأعمال الصالحة، وتنبو بالنفس عن الأعمال الفاسدة، وتبعد عن مزالق الشيطان، وترضي الرحمن، وهي دليل على المحبة والصدق والتزكية.
إن محاسبة النفس سبب لتهذيب النفوس، ونيل الفائدة والدروس، فيها صلاح الدارين، والصلاح والفلاح في الحالين.
هذا ولا يفوتني أن أنبّه على بعض المسائل عند دخول عام وخروج عام لاسيما ونحن في آخر ذي الحجة، نودع سنة نستقبل سنة، ففي هذه الأيام تكثر الرسائل والتبريكات والتهاني والتحيات، وتنتشر الرسائل المتنوعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فلابد من التنبيه والتنويه، فلا تشرع التهنئة بالعام الجديد؛ لعدم وروده عن السلف، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. فإن هنّأك أحد فأجبه وإلا فلا.
الثاني: لا يشرع التحسر على العام الماضي، وفتح ملفاته السوداء، بل ينبغي التفاؤل وحسن الأمل بالنصر وصلاح الحال.
الثالث: ما ينشر بأن صحائف الأعمال تطوى نهاية العام لا دليل عليه، وصحيفة الإنسان تطوى إذا مات، وتعرض يوم القيامة، قال سبحانه (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10].
الرابع: ومثله أن الأعمال تُرفع في نهاية العام، فهو مما لا دليل عليه عنه عليه الصلاة والسلام.
والخامس: الاحتفال بما يسمى رأس السنة الهجرية، أو ذكرى الهجرة النبوية بدعة محدثة.
والسادس: ما ينتشر في الواتس اب والرسائل من طلب العفو والمسامحة، فهذا مما لا دليل عليه، والعفو والمسامحة مطلوب في كل الأزمنة (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40].
والسابع مما لا دليل عليه أن صحائف الأعمال تُعرض في المحرم.
ومن البدع المحدثة فتح العام الجديد أو ختم العام المنصرم بعبادة كالدعاء والاستغفار، والصدقة والعمرة، والذكر والجلوس في المسجد، والصلة والصيام، وطلب العفو الصفح.
وخذ قاعدة: لم يرد في ختام العام شيء صحيح، ولم يرد في بداية العام شيء صريح، فاحذروا الرسائل النصية والرسائل الواتسية، فلا تقص ولا تلصق، ولا تنسخ ولا تنقل إلا ما فيه فائدة صحيحة.
وإذا جاءتك رسالة مجهولة أو أدعية ومعلومات مدخولة، فرد على صاحبك شعارنا "التثبت والروية"، أو اسأل عما ترسل قبل أن ترسل تكون على نور وفقه في دينك.
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8]، ربنا اغفر لنا ولوالدينا يوم يقوم الحساب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم