رمضان يجمعنا (2)

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2022-04-01 - 1443/08/29 2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: رمضان الصوم
عناصر الخطبة
1/رسالة للعقلاء من الأحياء الأصحاء 2/شتان بين أُسَر وأُسَر في رمضان 3/اغتنام الأسر الموفقة لشهر رمضان 4/منهج الأسرة المسلمة في رمضان 5/ شهر رمضان مشروع العمر.

اقتباس

هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَدَأَتْ تَهُلُّ نَفَحَاتُهُ، وَصِرْنَا نَسْتَمِعُ صوت خُطُوَاتِهِ، وَهَا أَنْتَ تدركه حيًّا وَغَيْرُكَ فِي بُطُونِ القُبُورِ! وَمُعَافًى وَغَيْرُكَ من الآلام يَئِنُّ، وللصلاة والصيام يحنّ، تدركه آمنًا مطمئنًا وغيرك يدركه وقد تخطّفه قريب يتجهّمه وعدو يهاجمه؛ فَمَاذَا تَنْتَظِرُ؟

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله ذي المن والعطاء، المتفرد بالألوهية والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يسمع النداء ويجيب الدعاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صلى وصام ولبّى النداء؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة النجباء وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واحمدوا الله على دوام النعم واستمرار العطاء.

 

ألفان ومائة وسبعة وثلاثون خلال أحد عشر شهرًا، ليس رقمًا لمتخرجين ولا عددًا لمتزوجين، ولا أعدادًا لمواليد، لكنه رقم يحكي أنفاسًا كان أكثرها يتردّد في رمضان الذي مضى، وهي اليوم أنفاس توقفت تحت الثرى.

 

أرقام لمن رحلوا من دنيانا في هذه البلدة فقط، وقد شهد أكثرهم رمضان الذي فات، واليوم يأتي رمضان وهم في الألحاد صاروا رممًا، وربما كان في الأثر مَن لن يدرك هلال الشهر، والله المستعان.

 

هذا رقم للأموات وأضعافه لمبتلين ومهمومين، وأضعاف مضاعفة لمشردين وخائفين لا يجدون للشهر طعمًا، ولا يجدون لذة ولا نومًا.

 

إنها رسالة للعقلاء من الأحياء الأصحاء تقول لهم: ها أنتم هؤلاء تمتد أعماركم ويلذ عيشكم، ويعم أمنكم، وتدركون غنيمة ربكم، (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)[محمد:38].

 

ها أنتم في الساعات القادمة تترقبون الهلال المبارك الذي يدلفكم إلى جنة التقوى ونعيم العبادة ولذة الطاعة؛ حيث العمل اليسير والأجر الكبير.. إنه اليوم الذي تبدأ فيه رحلة من السباق إلى الطاعات والمنافسة على جائزة الرب -جل جلاله-، يوم تستقبله الأسر المسلمة لتبدأ فيه صراعًا مع النفس والهوى والشيطان.

 

أما إني لا أقصد بالأُسَر تلك التي أتبعتْ نفسها هواها، وتتمنى على الله الأماني، تخوض صراعها في ساحات الأسواق والمطاعم وسلاحها الطحين والعجين، وغنيمتها مأكولات وأفلام ومسلسلات وفي النهاية "رغم أنف امرئ أدركه رمضان فلم يغفر له".

 

إنما أعني بها تلك الأُسَر التي علت همتها، وأدركت سر وجودها، علمت أنها لم تُخلق عبثًا ولن تترك سدًى، أدركت أن رمضان منحة من الخالق ليستعتب المقصرون ويزداد العاملون، تدخل جنة رمضان بسلاح الإيمان والصبر والمجاهدة لتدرك الفضل العظيم فمن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه.

 

أُسَر مسلمة يبدأ استعدادها لرمضان من شعبان فتصومه اقتداءً بنبيّها لتعتاد الصيام وتسهل عليها العبادة.

 

أُسَر تظهر الفرح الحقيقي والاستبشار الصادق بطاعة الله؛ متذكرة (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58]، تعبّر عن فرحها برمضان بالتسابق للخيرات والمسارعة إلى الصالحات مدركة أنه شهر لرفع الرصيد الأخروي والتطهر من أدران وذنوب سلفت.

 

أُسَر مسلمة تخوض غمار المجاهدة في رمضان من المساجد والمعتكف، وبيد تمسك مصحفًا، وبأخرى تنفق على مسكين، أُسَر تتقلب ما بين صيام وصلاة وذكر وقراءة قرآن وتزاور وصلة للأرحام، وتتنقل من عبادة إلى أخرى؛ لأنها تؤمن بقول خالقها (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشرح:7-8]، وتحقق قول بارئها: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].

 

أُسَر تتسامى بأسماعها وأبصارها من أن تتلوث بسماع الغناء، وتتدنّس برؤية الأفلام والمسلسلات الخادشة للحياء الهادمة للفضيلة تعرضها قنوات مفسدة حوت منكرًا من القول وزورًا.. أخذت على عاتقها إفساد روحانية رمضان، وإشغال المسلمين عن القرآن وحرمانهم من أسباب التوبة والغفران.

 

فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويرجو لقاء ربه فليجنّب بيتَه وأهلَه تلك القنوات التي لا تنبت إلا تربية على التمرد والتخلي عن المبادئ الفاضلة والتجرد من كل عفة وحياء، قنوات تبدّل المفاهيم وتلبس الحق بالباطل، وتثير الشبهات وتزرع الشهوات فأيّ مسلم يرضى لنفسه وأهله هذا المصير؟!

 

أُسَر مسلمة في رمضان تخطّط لشهرها؛ لأنها تدرك قيمته ونفاسته؛ استثمارًا لأوقاته واستغلالاً للحظاته، ترسم برنامجًا يملأ شهرها بنتاج يورث سعادة الدنيا والفوز والعتق في الآخرة.

 

الأُسَر المسلمة تحذر من لصوص رمضان السارقين روحانيته وفضله الهادمين منافعه وآثاره من قنوات مفسدة وأسواق نصب الشيطان فيها رايته تُهدر فيها الأموال وتضيع فيها الساعات وتُعرض الفتن، وسهر يسرق الأوقات، ويحرم من التهجد والاستغفار والتنافس في القربات، وجوالات ووسائل تواصل تضيع في تتبعها أغلى الأوقات بتفاهات وغثاء وقيل وقال، وأخبار وتحليلات وأمور لا تعني المسلم بشيء، ومن حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

 

الأُسَر المسلمة في رمضان تدرك أن في الدين مهمًّا وأهمّ، وواجبًا وأوجب، وأن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى فريضة، وأن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، فمن الجهالة أن ترى صائمًا لا يصلّي، أو ترى ممتنعًا عن الأكل والشرب، منهمكًا في أكل لحوم بني آدم، وأن ترى صائمًا يخوض في اللغو والرفث فصيامَ شهرِ رمضانَ يَجِبُ أن يكون مُقْتَرنًا بالحفاظ على سائر الفرائض والواجبات، لا أن يكونَ سببًا لإضاعة الجُمعِ والجماعات، والتخلف عن الفرائض والصلوات.  

 

ولئن ثبتَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَة فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"، فما الظن إذًا بمن ضيَّع الصلواتِ؟!  وقد قال ربُّنا: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)[الماعون: 4-5].

 

أُسَر مسلمة تدرك أن هذا الشهر قصير لا يحتمل التقصير، فتقلل من الترويح لتتفرغ للقيام والتراويح، وتسارع لطول القيام ولو تعبت الأقدام تخففًا من طول القيام يوم يقوم الناس لرب العالمين.. أُسَر تعرض عن عروض التخفيضات في التراويح والتي رفعت شعار "أكثركم زحامًا أسرعكم خروجًا".

 

هكذا تكون الأسرة المسلمة في رمضان؛ لأنها تنظر بعيدًا إلى الحياة الآخرة، ولأنها تعلم أن أمنيات المقصرين يوم يحتضرون ويوم يبعثون ليست لأجل تفاهات وسفاهات وأفلام ومسلسلات وإنما أمنياتهم (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[المنافقون:10]؛ (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 100]، (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزمر:58]، أدركوا ذلك فعملوا لذلك، أولئك الذين هدى الله وأولئك هم المتقون.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

 أما بعد: أيها المسلم وأنت تترقب بزوغ شمس أجر جديد، وتتحيّن تلك الساعات الخالدة التي تشرق فيها شمس رمضان حيث المغفرة والرضوان والعتق ورضا الرحمن، فإني أذكّرك يا من ترجو الله وتخافه أنَّ لَدَيكَ طَاقَةً هَائِلَةً، وَإِرَادَةً قَوِيَّةً، وَرَمَضَانُ هُوَ الوَقْتُ المُنَاسِبُ لِتَفْجِيرِ هَذِهِ الطَّاقَاتِ، وإطلاق هَذِهِ القُدُرَاتِ.

 

هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَدَأَتْ تَهُلُّ نَفَحَاتُهُ، وَصِرْنَا نَسْتَمِعُ صوت خُطُوَاتِهِ، وَهَا أَنْتَ تدركه حيًّا وَغَيْرُكَ فِي بُطُونِ القُبُورِ! وَمُعَافًى وَغَيْرُكَ من الآلام يَئِنُّ، وللصلاة والصيام يحنّ، تدركه آمنًا مطمئنًا وغيرك يدركه وقد تخطّفه قريب يتجهّمه وعدو يهاجمه؛ فَمَاذَا تَنْتَظِرُ؟

 

اجعل من رمضان مشروعًا لتوبة خَالِصَةً للهِ -تَعَالَى-، تُقْبِلُ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى إعلان عِزِّكَ بِالهِدَايَةِ، وَتَمَيُّزِكَ بِالاِسْتِقَامَةِ، وَتُعْلِنَ فِيهَا رُجُوعَكَ إِلَى رَبِّكَ ومولاك، وَسُلُوكَكَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ الذِي أَوَّلُهُ سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَآخِرُهُ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضِ، وَيَكْفِيْكَ مَحَبَّةُ اللهِ لَكَ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[البقرة:222].

 

اجعل من رمضان فرصة للتقرب إلى الله بإِغَاثَةُ الفُقَرَاءِ وَالأَيْتَامِ وَالأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ، وَالقِيَامِ عَلَى رِعَايَتِهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَإِيصَالِ كُلِّ صَاحِبِ فَضْلٍ إِلَيْهِمْ، وَتَرْتِيبِ أَوْضَاعِهِمْ وَالقِيَامِ عَلَى خِدْمَتِهِمْ.

 

اجعل من رمضان مشروعًا للتخلص من العادات السيئة؛ كالتدخين والسهر والفوضوية في الأوقات والعلاقات.

 

زد رصيدك في رمضان بكل عمل صالح، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، واتق النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة.

 

يا أيها المسلم: ستمضي الأيام وستسمع تكبيرات المسلمين معلنةً رحيل الشهر وحلول العيد وحينها سيحمد القوم السرى، وسيحصد الزارعون ما زرعوا، وحينها كم من صحيفة عتق من النار سينالها العاملون! وكم من مفرّط ستناله دعوة المصطفى والممهورة بتأمين الروح الأمين "رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له"!!

 

ناشدتكم بالله يا طلاب جنة الله! لا تضيعوا مِنَح الله وعطاياه، لا تُفسدوا أجر الصيام بالنظر إلى الحرام ومتابعة المسلسلات والأفلام والخوض في سيئ الكلام.

 

رمضان أغلى من أن يتحوّل إلى موسم لهو ولعب، وتتحول فيها العبادة إلى عادة، وأسمى من أن يتحول إلى مظاهر هي إلى البدعة أقرب، كما هو سائد هذه الأيام من أردية وألبسة رمضانية تحيل روحانية رمضان مع مرور الأزمان إلى تراث وشكليات، فوالله إن وراء الأكمة ما وراءها.

 

لا تستسهلوا تلك التوافه كالسفرة الرمضانية والهلال والفوانيس والتراث، فتلك خطوات تسير بنا لغاية سيئة، وهي التمهيد لنزع عظمة التشريع، وقتل الغاية الحقيقية من تشريع العبادات، فأين من غايته اليوم شراء أوانٍ وملابس وأطعمة رمضانية من الغاية الربانية (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]؟

 

كلما ضعفت همتك فتذكر (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)[البقرة:184]. رمضان شهر بين أحد عشر شهرًا كيوسف بين أحد عشر كوكبًا، فلا تقتلوه بالغفلة، ولا تُلقوه في غيابة جب الشهوات والشبهات، ولا تبيعوه بثمن بخس، بل أكرموا مثواه فعسى أن ينفعنا أو نتخذه شفيعًا يوم الحساب.

 

رمضان يجمعنا، ولكن على ما يريد الله لا ما يريده الذين يتبعون الشهوات، يجمعنا على الإيمان والتقوى وتلاوة القرآن وتدارسه والتسابق إلى مغفرة من الله ورضوان.

 

ما أجمل الهتاف النبوي! "إن في أيام الدهر نفحات؛ فتعرّضوا لها، فلعل أحدكم أن تُصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدًا".

 

ربّاه بلّغنا الصيام بشهره  *** رمضان لا حرمان فيه ولا سقم

تالله يا رمضان عيشك طيب *** سيزول بأس الضر ينزاح الألم

ونقوم ليلك في المساجد خشعًا *** ونصوم قد غرب البلاء ونبتسم

 

اللهم صلِّ وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

رمضان يجمعنا (2).pdf

رمضان يجمعنا (2).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات