رمضان والمجاهدة

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/حقيقة حب الله تعالى 2/ أعظم أنواع الجهاد 3/ خطوات لمجاهدة النفس 4/ ثمرة المجاهدة 5/ رمضان مدرسة للمجاهدة
اهداف الخطبة
تنبيه الناس إلى أهمية جهاد النفس / ترغيب الناس على مجاهدة النفس
عنوان فرعي أول
المعركة الحقيقية
عنوان فرعي ثاني
الناس على فريقين
عنوان فرعي ثالث
وسائل الإعلام الهابطة

اقتباس

تتجلى المجاهدة في الصيام أكثر من غيره من العبادات؛ فالعبد في رمضان يجاهد نفسه، ويكبح شهوته؛ إرضاءً لله تعالى يشتهي الطعام فلا يأكله، ويظمى فيرى الماء ولا يشربه، ويجاهد نفسه عن سائر المفطرات ابتغاء رضوان الله تعالى؛ فالصيام يدرب الصائم على المجاهدة؛ حتى ترتاض نفسه عليها ..

 

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: جعل الله الدنيا دار بلاء وامتحان، وجهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة، فمن اجتاز البلاء، وصبر في ذات الله تعالى، وجاهد في سبيله كان حقاً على الله تعالى أن يرضى عنه، ويدخله الجنة.

والعبد منذ تكليفه إلى أن يرفع عنه التكليف يخوض معركة مع نفسه وشيطانه؛ فنفسه تدعوه إلى هواها، وشيطانه يؤزه إلى ما يرديه ويهلكه.

والناس على فريقين: من يغلبه شيطانه، ويركن إلى دنياه فيعب من شهواته، وينسى حقوق ربه، فمصيره ما ذكر الله تعالى بقوله: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى) [النَّازعات].

وعكسه من غلب شيطانه، وقهر نفسه، ولم يركن إلى الدنيا، وتمتع بما أحل الله له من الشهوات، ولم يجاوز ذلك إلى ما حرَّم الله عليه، وقام بحق الله تعالى خير قيام؛ فهو السعيد المذكور في قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى) [النَّازعات].

من أحب الله تعالى وعظم شعائره؛ خالف هواه إلى ما يحب الله تعالى، وقصر نفسه على ما أحلَّ الله له، ومن أتبع نفسه هواها وأرخى لها زمامها؛ ففي محبته لله تعالى نقص بقدر اتباعه لهواه، وعصيانه لربه.

قال أبو عمرو بن بُجيد رحمه الله تعالى: " من كرم عليه دينه، هانت عليه نفسه ".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعاً؛ فإن من أحب الله، وأحبه الله، أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله، ووالى من يواليه الله، وعادى من يعاديه الله، لا تكون محبة قط إلا وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها؛ فإن المحبة توجب الدنو من المحبوب، والبعد عن مكروهاته، ومتى كان مع المحبة نبذ ما يبغضه المحبوب فإنها تكون تامة ".

إن معالجة النفس ومجاهدتها من أعظم أنواع الجهاد؛ لأنه جهاد يستغرق العمر كله، وإذا طال الأمد ضعفت النفس، فاحتاجت إلى مجاهدة أكثر.

يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: " ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة علي ".

وكان عمر رضي الله عنه يخاطب نفسه، ويقهرها حتى لا تجمح به فتخرجه عن الجادة دخل رضي الله عنه حائطاً فبدأ يخاطب نفسه ويحاسبها، قال أنس رضي الله عنه: فسمعته يقول: " عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله يا ابن الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك ".

إن الإنسان قد يجاهد غيره لكنه ينسى نفسه التي تحتاج إلى جهاده، فيذرها تركب هواها، وتنال مطلوبها، ولا يحسب أنها تحتاج إلى مجاهدة، بل قد ينكر ذلك ويرى أنه على أحسن حال، أو على الأقل ليس أسوأ الناس، وهذا يقعده عن المجاهدة، فيسير في الردى، ويوشك أن يهلك وفي هذا المعنى قال علي رضي الله عنه: "أول ما تنكرون من جهادكم أنفسكم "، ولما سأل رجل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الجهاد قال رضي الله عنه: " ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها ".

إن الخطوة الأولى لمجاهدة النفس الاعتراف بأنها تحتاج إلى مجاهدة، والنظر إلى نقصها وعيبها وخطئها، ومقارنة ذلك بالنفوس التي تفضلها وتتفوق عليها ومن لم يعترف بتقصيره وخطئه فكيف يجاهد نفسه؟! ومن ثم الاستمرار على المجاهدة العمر كله.

قال أبو يزيد البسطامي: " عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئاً أشد علي من العلم ومتابعته..." ، ويقول أيضاً: " عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي، وما شيء أهون عليَّ منها ".

وما دامت النفس ضعيفة، والشيطان موجوداً فإن العبد يحتاج إلى مجاهدة دائمة، ولا سيما أن الشيطان لا يكل ولا يملَّ من قذف وساوسه وخطراته في قلوب العباد، وعلاج ذلك دوام المجاهدة.

عن سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان يقعد لابن آدم بأطرقه، قعد في طريق الإسلام، فقال: تسلمُ وتذرُ دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعده له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجركمثل الفرس في الطِوَل، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد؟ فهو جَهْدُ النفس والمال، فتقاتل فتقتل؛ فتنكح المرأة، ويقسم المال! فعصاه فجاهد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة "رواه النسائي وصححه ابن حبان.

وكما أن اجتناب المعاصي يحتاج إلى مجاهدة للشيطان، ومقاومة للنفس الأمَّارة بالسوء، فإن التزام الطاعة والمحافظة عليها، وأداء الفرائض والمندوبات يحتاج إلى مجاهدة النفس الميالة بطبعها إلى الراحة والكسل، وإلى مجاهدة الشيطان الذي يثبط العزائم، ويضعف الهمم، ويزين للعبد ترك اكتساب الحسنات، وهذا هو دأب الصالحين من عباد الله تعالى من النبيين والصحابة، والتابعين لهم بإحسان دوام المجاهدة في سبيل الله تعالى، وقهر النفس على اكتساب الحسنات، وترك السيئات.

ومن صدق مع الله تعالى، واجتهد في هذا الباب وفقه الله للهدى، وبلغه ما تمنى، وضعف تسلط الشيطان عليه، كما قال الله سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، فالهداية من الله تعالى، ويستحقها المحسنون من عباده، الذي جاهدوا في الله تعالى حتى بلغهم الله ما أرادوا من الهداية.

وواقع المجاهدين يدل على ذلك: فهذا نبي الله يوسف عليه السلام دعاه الشيطان إلى مقارفة الحرام مع امرأة العزيز التي زينت لها نفسها الأمَّارة بالسوء عملها فراودته عن نفسه، لكنه عليه السلام جاهد نفسه، ولم يستسلم للشيطان ولهواه، فقال: (مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف:23]، واعترف بعجزه وضعفه رغم مجاهدته، وسأل الله تعالى العافية من هذا الابتلاء، ودعا فقال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [يوسف].

وهذه الاستجابة من الله تعالى ليوسف عليه السلام كانت بعد مجاهدة منه، وصدق في التوجه إلى الله تعالى.

ولما سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة قال له: " أعني على نفسك بكثرة السجود "، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا حققها العبد بلغ ما تمنى، وأعطاه الله ما سأل؛ إذ نيل المطالب يحتاج إلى عمل، ولا تنال بالتمني فقط، فإذا اجتمع العمل مع صدق التوجه إلى الله عزَّ وجلَّ نال العبد ما أراد.

قال أبي بن كعب رضي الله عنه: " كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد جمع الله لك ذلك كلَّه " رواه مسلم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:78].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،،،

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه.

أيها المسلمون: تتجلى المجاهدة في الصيام أكثر من غيره من العبادات؛ فالعبد في رمضان يجاهد نفسه، ويكبح شهوته؛ إرضاءً لله تعالى يشتهي الطعام فلا يأكله، ويظمى فيرى الماء ولا يشربه، ويجاهد نفسه عن سائر المفطرات ابتغاء رضوان الله تعالى.

 

فالصيام يدرب الصائم على المجاهدة؛ حتى ترتاض نفسه عليها، ومن قدر على الصيام عن المفطرات طوال النهار فهو قادر على الصيام عن المحرمات طوال الليل، ومن صام عن المحرمات في رمضان فقد أثبت أنه قادر على تركها في غير رمضان، وهذه هي المجاهدة.

إننا -معشر الصائمين- قد استطعنا كبح شهواتنا المباح منها والمحرم في نهار رمضان، فلماذا لا نكبح نفوسنا عن الحرام في ليالي رمضان؟!

إننا جاهدنا نفوسنا في النهار، فقضينا أوقاتنا فيما يرضي الله تعالى من قراءة قرآن، وذكر، ودعاء، فلماذا لا نفعل ذلك في الليل؟ ولماذا لا نفعل ذلك في غير رمضان؟!

إن مجاهدتنا لأنفسنا وشياطيننا في نهار رمضان تدل على قدرتنا على المجاهدة، وبراعتنا في قهر نفوسنا، ودحر شياطيننا، فلماذا لا نستمر على تلك المجاهدة حتى تكتب لنا الهداية، وننال درجة الإحسان التي هي ثمن المجاهدة الصادقة؟!

إن كثيراً من البرامج السمعية والمرئية في الإذاعات والفضائيات العربية هي ميدان لإبليس وجنده من شياطين الجن والإنس، وتحتاج منا إلى مجاهدة قوية لدفع شرها عن أنفسنا؛ وذلك بإنكارها وعدم قبولها، وحفظ أنفسنا وبيوتنا وأولادنا منها•

وإذا ضعفنا أمامها وما فيها من زخرف ومؤثرات ومشوقات؛ فإننا بذلك نثبت انهزامنا مع أنفسنا، وانتصار الشيطان والهوى علينا، وهذا هو السبب الرئيس لضعفنا وذلتنا؛ لأن مجموع هزائم كل واحد منا شكلت كماً كبيراً من الهزائم والانتكاسات، حتى صارت أمتنا أعداداً لا قيمة لها، وصدق فينا وصف الغثائية الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، إلا من رحم الله وقليل ما هم.

ألا فاتقوا الله ربكم، وجاهدوا أنفسكم، وجاهدوا الشيطان وجنده في هذا الشهر العظيم، واحفظوا أنفسكم وبيوتكم مما حرم الله عليكم.

وصلوا وسلموا على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم ...

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

والمجاهدة

والمجاهدة - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات