عناصر الخطبة
1/ أهمية مواسم الخيرات 2/ فضائل التوبة إلى الله تعالى 3/ حاجة الصالحين وغيرهم إلى التوبة وتكرارها 4/ شروط صحة التوبة 5/ علامات التوبة النصوح.اقتباس
وإذا كان العبد مطلوباً منه أن يتوبَ في كل وقت وحين، فالتوبة في رمضان تتأكد؛ لأنه شهرٌ عظيم، تتنزل فيه رحماتُ رب العالمين، ويحتاج العباد فيه إلى الإقبال على الله -تعالى-، فأين هم الذين أسرفوا على أنفسهم؟ وقضوا الأيام والليالي في العصيان؟ وقابلوا نعم المولى بالكفران؟ وحاربوا الله في أرضه؟ ونابذوه في ملكه؟ أين هم فليتوبوا؟ وهل منا من يسلم من الخطأ؟ ويبرأ من المعصية؟! كلا؛ بل نحن الخطَّاؤون العاصون، لكن نرجو أن نكون من التوابين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أما بعد:
فإن من نعمة الله -تعالى- على عباده أن كرّر لهم مواسمَ الخيرات، ونوّع فيها الطاعات.
مواسمُ تعود عليهم كلَ عام، حينما يستغرق العبد في اللهو بالولد والمال، وينسى ربَه، ويُخلّ بشعائر دينه، ويجتره الشيطان إليه، فيمارس أنواعاً من المعاصي في غفلته وسكره؛ يأتي رمضانُ فينبهه من غفلته، ويقودُه إلى ربه، ويدعوه إلى تجديد توبته.
فرمضانُ جديرٌ بأن تجدد التوبة فيه؛ إذ فيه تكثر الحسنات، وتمحى السيئات، وتقالُ العثرات، وتُرفعُ الدرجات، لمن كان أهلاً لذلك، يعرف رمضان حق المعرفة، ويؤدي فيه حق الله بإخلاص واجتهاد.
وإذا كان العبد مطلوباً منه أن يتوبَ في كل وقت وحين، فالتوبة في رمضان تتأكد؛ لأنه شهرٌ عظيم، تتنزل فيه رحماتُ رب العالمين، ويحتاج العباد فيه إلى الإقبال على الله -تعالى-، فأين هم الذين أسرفوا على أنفسهم؟ وقضوا الأيام والليالي في العصيان؟ وقابلوا نعم المولى بالكفران؟ وحاربوا الله في أرضه؟ ونابذوه في ملكه؟ أين هم فليتوبوا؟ وهل منا من يسلم من الخطأ؟ ويبرأ من المعصية؟! كلا؛ بل نحن الخطَّاؤون العاصون، لكن نرجو أن نكون من التوابين، «فخير الخطائين التوابون» كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (أخرجه الترمذي 2501، وابن ماجه: 4251).
إن باب التوبة مفتوح فأين التوابون؟ وإن دين الإسلام ليس فيه واسطة بين العبد وربه، كما هو الحالُ في دياناتٍ أخرى، يقرر فيها الحبر أو الراهب أن توبة العبدِ لا تقبل حتى يدفع إليه مالاً.
يحكم بقبولِ التوبة عندهم عبيد مثلُهم لا يملكون ضرّاً ولا نفعاً، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويقودونهم إلى دار السعير.
أما التوبة في الإسلام فهي بالمجان، لا يمنّ عليك راهب أو حبر أن هداك، فالفضل للهادي -سبحانه وتعالى-.
في الإسلام كل عبد يجد ما عمل، ولا يحمل أحد إلا وزره، ولا يتحمل العباد خطيئة أبيهم آدم ولا غيره كما هو الحال في دياناتٍ أخرى، لفت انتباهَ أفرادها قولُ الله -تعالى- (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر:18]، فقادت هذه الآية بعضهم إلى الإسلام؛ لأنه كان ثابتاً في دينهم أنهم مهما عملوا صالحاً فعليهم وزر الخطيئة الأولى؛ لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألغى تلك الخرافات، وجاء بالدين الصحيح من عند الله -تعالى-.
ليس في الإسلام يأسٌ من رحمة الله -تعالى- مهما عمل العبد من المعاصي والفجور؛ بل مهما اقترف من الشرك والكفر، إذا تاب وآمن نال رحمة الله –تعالى-، فالتوبة تهدم ما قبلها، والإسلام يجب ما قبله.
واليأس والقنوط سلاحٌ لإبليس يُمضيه في العاصي حتى يستمر على عصيانه؛ لكن الله -تعالى- رحيم بعباده، رءوف بهم يناديهم دائماً مهما أسرفوا على أنفسهم (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزُّمر:53]، واليأسُ من صفات الكافرين (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف:87].
ومن عظيم رحمة الله -تعالى- بعباده، وتفضله عليهم أنه يفرح فرحاً شديداً بتوبة أحدهم مع أنهم إن أطاعوه لم ينفعوه شيئاً، وإن عصوه لم يضروه شيئاً، عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته تجرُّ زمامها بأرض قَفْر ليس بها طعامٌ ولا شراب، وعليها له طعامٌ وشراب، فطلبها حتى شقّ عليه، ثم مرّت بجذلِ شجرةٍ فتعلّق زمامها، فوجدها معلقةً به؟» قلنا: شديداً يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما والله، لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته» (أخرجه مسلم: 2746).
سبحان الله!! يفرحُ اللهُ بتوبة عباده، وهو غنيٌ عنهم وهم فقراءُ إليه، وهو قادرٌ فوقهم وهم عاجزون تحته، يناديهم بالتوبة ويُعلِّق فلاحهم عليها، فهل يأبى ذلك إلا الخاسرون (وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
ومهما كرّر العبدُ الذنوب، فإن عليه أن يتوب، ويَصدُقَ في توبته مع الله -تعالى- حتى لا يكون كذاباً.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: «أذنب عبدٌ ذنباً، قال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، علم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك». (أخرجه البخاري: 7507، ومسلم: 2758).
قال المنذري: «معناه والله أعلم: أنه مادام كلما أذنب ذنباً استغفر وتاب منه ولم يعد إليه؛ بدليل قوله: ثم أصاب ذنباً آخر، فليفعل إذا كان هذا دأبُه ما شاء؛ لأنه كلما أذنب كانت توبته واستغفاره كفارة لذنبه فلا يضره، لا أنه يذنبُ الذنب فيستغفره منه بلسانه من غير إقلاعٍ ثم يعاوده فإن هذه توبةُ الكذابين»اهـ. (الترغيب والترهيب (4/91) وعنه السفاريني في غذاء الألباب (2/591).
ومن تاب إلى الله -تعالى- فإن الله -تعالى- يحبُه ويقرِّبه، فيكون من أوليائه، قال بعض العلماء: «دعوتُ الله سبحانه وتعالى ثلاثين سنة أن يرزقني توبةً نصوحاً ثم تعجبتُ في نفسي وقلت: سبحان الله، حاجةٌ دعوتُ اللهَ فيها ثلاثين سنة فما قُضيت إلى الآن، فرأيت فيما يرى النائم قائلاً يقول لي: أتعجبُ من ذلك؟ أتدري ماذا تسألُ الله تعالى؟ إنما تسأله سبحانه أن يحبك، أما سمعت قول الله -تعالى- (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222]. (غذاء الألباب للسفاريني: 2/590).
والتوبة سبب لتبديل السيئات إلى حسنات، تنقلب صحائف العاصي التي سودها بالسيئات إلى بيضاء من تبديل الله لها بالحسنات (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70].
هذا هو فضل التوبة، وهذا شهر التقوى، وإنما تنال التقوى بالتوبة، فتوبوا إلى الله في هذا الشهر العظيم؛ فربكم يناديكم بها ويخبركم أنه يغفر الذنوب مهما عظمت، وشهركم شهرُ الرحمة والمغفرة والعتق من النار، يناديكم ربكم فأجيبوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82] اللهم تب علينا، وارزقنا التوبة النصوح، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- فأنتم في شهر التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
أيها الإخوة المؤمنون:
لا تتحقق توبةُ العبدِ حتى يُقلع عن الذنب، ويعزم عزماً صادقاً على أنه لا يعود إليه أبداً. أما إن كان يستغفر بلسانه، وقلبُه يتحرك لفعل المعصية، ونفسُه تراوده إليها، فتلك توبة من فسد قلبُه، ويخشى عليه أن لا تقبل توبته.
وعلامةُ العزم على عدم مقارفةِ الذنوب: الندمُ على ما سلف منها، يبكي على ذنوبه، ويندمُ على ما اقترفت يداه. يندم على مسارعته في المعصية، وتقصيره في الطاعة. قال عمر بن ذر: «كلُ حزنٍ يبلى إلا حزن التائب على ذنوبه» (سير أعلام النبلاء: 6/388) ونحوه في الحلية عن الفضيل (8/101).
وما ذاك إلا لأنه يتخيلُ قبح ذنوبه، ويتأملُ عظمة الله -تعالى- في خلقه، فيطير قلبه من هول ذلك، كيف ارتكب القبائح في حق من اتصف بهذه العظمة والجبروت؛ فيقطعه الندم على ما سلف، ويقودُه ذلك إلى المسارعة في الخيرات، واكتساب الحسنات.
ومن كان محسناً فإنه يتوب ويندمُ على أنه لم يزدد إلى إحسانه إحساناً، فهذا هو دأب السلفِ الصالح، هذا أنس بن النضر -رضي الله عنه- يفوته القتال في بدر مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج لقتال؛ ولكن القتال حدث بعد ذلك إرادةً من الله تعالى، كما قال تعالى: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) [الأنفال:42].
وبعض الصحابةِ كانوا في المدينة لا يعلمون أن ثمة قتال، ومنهم أنسُ بن النضر، فيظهر عليه التأثر والندم على عدم حضوره بدراً، فيقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا رسول الله، غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني قتالهم ليرين ما أفعل» هكذا قال، وسجل ندمه على ما فات، فكانت نتيجةُ هذا الندم عزمٌ على قتال المشركين بشدة، وتأتي أحدٌ فتُصَدِقُ ندمه حيث كانت النتيجةُ أن وجد في جسمه بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، وما عرفته أخته إلا ببنانه؛ وذلك بسبب إقدامه وتفانيه في حرب المشركين، وفيه وفي أمثاله نزل قول الله -تعالى- (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23] (قصة أنس بن النضر أخرجها البخاري: 4048، ومسلم: 1903).
نعم، صدقوا والله في توبتهم وفي ندمهم، لم يتكلموا كثيراً؛ لكنهم صدّقوا مقالهم بأفعالهم. ونحن قد نتكلم ونعزم على التوبة، ويظهر منّا ندم ما على الذنوب؛ لكننا قد نضعف أمام إغراءات الشيطان في هذا الشهر المعظم، وربما أعجبنا السهر إلى السحر في مجالس اللهو والغفلة والحرام، ونقول: إننا نتوب، فهل هذه توبة؟
قال شقيقٌ البلخي: «علامةُ التوبة: البكاءُ على ما سلف، والخوفُ من الوقوع في الذنب، وهجرانُ إخوان السوء، وملازمة الأخيار».(سير أعلام النبلاء: 9/315).
فهل توجد هذه العلاماتُ في توبتنا؟ أم ما زلنا لا نخاف من الذنب، ولا نهجر إخوان السوء؛ بل نهجر الأخيار، ثم نقول بعد ذلك: إننا نتوب!! أيُّ كذب هذا؟ أنكذب على الله -تعالى- وهو يرانا؟ سبحان الله ما أعظم ذنبنا! وما أقل شكرنا!
فنسألك اللهم أن تعفو عنا، وأن تردنا إليك رداً جميلاً، وأن تصلح ما فسد من قلوبنا إنك سميع مجيب، (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم