عناصر الخطبة
1/كمال الدين وتجدد مواسم الطاعات واستغلالها 2/تغييرات كونية تحفز المسلم وتعينه على التوبة 3/الحذر من تضيع الوقت في مشاهدة المسلسلات الماجنةاقتباس
أيها الإخوة المؤمنون: شهر رمضان شهر تغيير، تغييرٌ مِن كل شر إلى كل خير، ومِن كل إثم إلى كل بِرٍّ، ومِن كل قبيح إلى كل حميد، شهرٌ يتهيأ فيه للمؤمن أن يكون منتقلًا مِن مرحلة إلى أخرى، فيتهيأ فيه للمؤمن أن ينكفَّ عن كثيرٍ من الآثام والشرور التي ربما تَلَطَّخَ بها في أيام العام، فيأتي...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فالحمد لله على عظيم نعمه، والشكر له على سوابغ فضله، الحمد لله على الإسلام، والحمد لله على نعمة القرآن، والحمد لله على نعمة محمدٍ خير الأنام، والحمد لله على كل نعمةٍ أنعم بها علينا ربنا -جل وعلا- في قديمٍ أو حديث، في سرٍّ أو علانية، الحمد لله على نعمة شرائع الإسلام، الحمد لله على نعمة رمضان، الحمد لله على كل نعمِهِ التي إن عُدَّت لا تُحصى.
أيها الإخوة المؤمنون: طيبوا نفسًا بهذه الشريعة الغراء التي تَتابَع خيرُها، وتكامَل فضلُها، وقد قال ربنا -جل جلاله-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].
وإنَّ مِن أعظم النعم: هذا التجددَ في دين الإسلام وشرائعه تجدُّدها في إقبال النفوس عليها، فتجد المؤمن لا يزال محبًّا لهذه الشرائع، مقبلًا عليها، مهما تطاول به العمر، فهو محبٌّ للقرآن، محبٌّ للصلاة والصيام، محبٌّ للأعمال الصالحات، وهذا ميدانٌ للتنافس بين المؤمنين، ومن رحمة الله وإنعامه أن هيَّأ هذه المواسم العظيمة التي تتجدد بتجدُّد الساعات، وتوالي الأيام، وتعاقب الشهور والأعوام؛ كما قال ربنا -جل وعلا-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان: 62].
فأنتَ -يا عبد الله- في ميدانٍ فسيح يمكنك أن تنافس فيه على أعظم مطلوب؛ وهو رضى ربك -جل وعلا-، ثم دخول جنته، ومِن نعمة الله -جل وعلا-: أنَّ هذه الطاعات التي تتوالى مواسمها، وتتجدد أوقاتها أنها متاحةٌ لكل مَن أراد أن يتنافس: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين: 26].
وها نحن اليوم نترقَّب موسمًا كريمًا حيث تتابعتِ الأيام، وتوالتِ الشهور، وصرنا قاب قوسين أو أدنى من شامة الزمان، وغُرَّة الأيام، وسيد الشهور والأيام، شهر رمضان، شهر الخيرات، شهر البركات، شهر الرحمات: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة: 185].
سويعات قليلة ثم يهلُّ هلال هذا الشهر العظيم، فنسأل الله أن يُبقيَ في أعمارنا ما ندرك معه هذا الشهر، وندرك صيامه وقيامه، وندرك السباق للأعمال الصالحات فيه، وفيما بعده لنكون كما قال: "خيركم مَن طال عمرُه، وحسُن عملُه".
فإدراكك للساعة -يا عبد الله- في الحياة نعمة عظمَى؛ لأنها تَزيدك قربةً من الله، وتَزيدك ثباتًا على الإسلام، فلن يَزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا وقُربًا من الله، ولو قيل لأهل القبور: أيُّ شيء تشتهون لو عُدتم إلى الدنيا؟ لقالوا: تسبيحة، أو سجدة لله -جل وعلا- لا مال، ولا تكاثر منه، ولا مسابقة عليه.
سويعات قليلة ويهلَّ هلال شهر رمضان، شهر الإيمان والتوحيد والقرآن، هلال الصيام والقيام، هلال التوبة والمغفرة، هلال الجود والكرم، هلال الدعاء والرجاء، هلال السعي إلى الجنان، والعتقِ من النيران، هلال رمضان الذي ما أن يهل حتى تحصل تغييرات كونية عظيمة، ما كان لنا أن ندركها لولا الخبر من الصادق المصدوق محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد أخبرنا أنَّ هذا الكون يشهد تغييرات عظيمة، ومِن أعظمها ما يتعلق بالجنة؛ فإن الجنة -وهي مخلوقة الآن؛ كما جاء في الخبر الصحيح- تزيَّنتْ وتهيَّأتْ لعباد الله الصالحين، ومِن كرامتها وشرفها أنها مغلقة الأبواب ليست كالدور الخربة التي مَن شاء دخلها، ومَن شاء حلَّ بها، ولكنها حصينة منيعة شريفة، فإذا حلَّ هذا الشهر الكريم مِن أول ليلة فيه فُتحت أبواب الجنة، هكذا جاء الخبر: "فتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب"، وهذا إشعار بأنها مهيأة للسباق إليها، وقد نطقتْ حينما أنطقها اللهُ وخيَّرها، فقال لها: تحدثي! فقالت: أفلح عبادك الصالحون! ولما تحدثت قالت: يُوشك عباد الله الصالحون أن يتحوَّلوا إليَّ، ويضعوا عنهم مؤنة الدنيا.
ومن التغييرات الكونية: أن هذا الكون بما فيه من المخلوقات مِن عالم الجن، ومنهم المردة الشياطين، أنَّ الله -سبحانه- يمنعهم مما أمرهم به كبيرهم إبليس -أعاذنا الله منه- فإنهم ساعون ليلَ نهار في إضلال عباد الله، فإذا جاء هذا الشهر الفضيل، وهلَّ هلاله مُنعوا مما كانوا يَصلون إليه من تدبيرهم مكرَ الليلِ والنهارِ ليضلوا عباد الله، فيُمنعون من ذلك، ويُصفَّدون حتى يتهيَّأ المسلمون؛ لأن يُبادروا للخير دون عقبات شيطانية تُوسوس في نفوسهم بالشر والآثام.
ومن التغييرات الكونية: أن النار تُغلق أبوابها فلا يبقَى منها باب مفتوح، وهذا يُشير إلى أن مُسبِّبات وُصول العباد إلى النار قد قُلِّلت وأُضعف ما يَحمِل عليها، فهذه تغييرات كونية عظيمة لأجل أن يبادر المؤمنون إلى رحمة ربهم -جل وعلا-.
فاللهمَّ أهلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبُّه وترضاه يا رحمن. اللهمَّ بلِّغنا إيَّاه، ووفِّقنا لحُسْن صيامه وقيامه، ولا تحرمنا خيرَ ما فيه لشرِّ ما عندنا.
إنَّ أيام الله -جل وعلا- شريفة عظيمة، وجَعَل فيها هذه المواسمَ الخيِّرة حتى يُبادر إليها العباد الخيِّرون، ومنها هذا الموسم العظيمُ؛ شهر رمضان المبارك، شهر التجارة الرابحة، والفرص السانحة حيث تتكاثر فيه مسبِّبات الخير، ومضاعفة الأجور؛ ما بين صلاة وصيام، وما بين ذكر وتلاوة للقرآن، وما بين بذل للمعروف، ومبادرة للإحسان، شهرٌ التجارة فيه مضاعفٌ ربحُها مع الرحمن الرحيم:
أتى رمضانُ مزرعةُ العِبادِ *** لتطهير النفوسِ مِن الفسادِ
فأدِّ حقوقه قولًا وفعلًا *** وزادُك فاتخذه لِلْمَعادِ
ومَن زَرَعَ الحبوب وما سَقاها *** تَأوَّهَ نادمًا يوم الحصادِ
ها هو رمضان قد دنَا، ها هو رمضان يحل في ساحتنا بعد أن اشتاقت له القلوب، وتهيأتْ له النفوس؛ فأهلًا به ومرحبًا، أهلًا بشهر الإنابة والدعوة المستجابة، أهلًا بخير طبيب يشفي القلوب المصابة، تجري إلى الخير عَدْوًا، والشرُّ تُغلق بابَه، أهلًا بأكرم ضيفٍ قد استطلْنا غيابه، قد أنزل الله فيه على العباد كتابه.
ولشرف هذا الشهر العظيم كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبشِّر المسلمين بدنوه، ويخبرهم بما فيه مِن الشرف العظيم والفضائل الكبيرة، كان عليه الصلاة والسلام يبشِّر عِباده إذا أزِف وقتُ رمضان، ويقول: "قد أظلَّكم شهرٌ مبارك" حتى تتهيَّأ النفوس؛ لأن الإنسان ما لم يستعد فإنه لن يبادر ولن يسارع؛ لكنه إذا علم أن الموسم قد حَلَّ ودنا وقد تهيأ الحصاد فيه فإنه يتهيأ للمسارعة إلى ذلك، فقد جاء هذا الشهر؛ جاء الصيام فجاء الخير أجمعه، ترتيلٌ، ذكرٌ وتحميد وتسبيح، فالنفْس تدأب في قول وفي عمل؛ صوم بالنهار، وبالليل التراويح.
هذا هو الشهر الكريم، شهر مبارك، فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله تطوُّعًا، مَن تقرَّب إلى الله فيه بخصلة من الخير كان له من الأجر أضعاف ما تقرَّب به في سواه، هو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، مَن فطَّر فيه صائمًا فكان له من الأجر مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئًا، هو شهر كلُّه رحمة، وكله مغفرة، وكله عتق مِن النار مِن أوله إلى آخره.
في كل ليلة قائمة تزف بالخير والبشر إلى الرب الكريم حكَم الله فيها بأنها بريئة من النار، وأنها مُبعدة عنها، فيا بشراهم بهذا الفوز العظيم، فاحجز مقعدك ومكانك -يا عبد الله- في هذه القوائم الشريفة، قوائم عُتقاء الله من النار كل ليلة، كل ليلة لله فيه عتقاء من النار.
هذا الشهر الكريم شهر التجارة الرابحة، ومعه الخير الكثير؛ كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي وغيره من أهل العلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صُفِّدَتِ الشياطين ومَرَدَةُ الجانِّ، وغُلِّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ونادى مُنادٍ: يا باغيَ الخير أقْبل، ويا باغيَ الشر أقْصِر، ولله عُتقاء مِن النار وذلك كل ليلة".
أيها الإخوة المؤمنون: إن بلوغ شهر رمضان نعمةٌ كبرى، ومنحةٌ عظمى، وكيف لا يكون كذلك وقد أكد هذا نبيُّنا -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد جاء في الحديث أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- أُخبر بخبر رجُلين كانا على الخير مُجتمعيْن، فقدَّر الله أنَّ أحدهما استُشهد مُقاتلًا في سبيل الله، وبقيَ الآخر بعده عامًا كاملًا، ثم مات في غير قتال، في غير شهادة في سبيل الله، فرُؤي الاثنان في المنام، ورُؤي الثاني أنه أرفع منزلةً مِن أخيه الذي استُشهد في سبيل الله، فعجِب الصحابة مِن ذلك؛ لأنهم يدركون أن الموت في سبيل الله شهادةً لله -جل وعلا- وفي سبيله؛ أن ذلك ذروة سنام الأعمال وأفْضلها وأحَبُّها عند الله، فكيف كان الثاني أسبق منه؟ فلما ذُكرت هذه الرؤيا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو خير مَن يُعبِّر الرؤيا ويُؤوِّلها فأقرَّ ما فيها ثم قال: "وكيف تَعجبون وقد بقيَ بعده عامًا كاملًا فصام رمضان، وصلى كذا وكذا صلاة؟"، فانظروا -أيها الإخوة-: كيف أن بلوغ شهر رمضان وصيامه، وأن الصلوات تبلِّغ المؤمن هذه المنزلة العالية التي يسبق فيها مَن كان على عمل صالح، ولو كان عظيمًا كالجهاد في سبيل الله، والمعنى في هذا أنه لن يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا وبرًا، فكان حَرِيًّا بالمؤمن أن يقدر نعمة بلوغ شهر رمضان، فإذا كان الله قد مَنَّ عليك يا عبد الله، وكَتبك في مَن يبلغ هذا الشهر فمَدَّ في عمرك للوصول إليه فالواجب عليك استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة؛ فإنها إن فاتت كانت حسرةً ما بعدها حسرة، وخسارة ما بعدها خسارة، وهل ثمَّ خسارة أكبر من أن يدخل الإنسان رمضان ثم يخرج منه وذنوبه ما زالت ينوء بها عاتقُه، وخطاياه ما زالت قابعة في ديوان عمله؟ وأيُّ حسرة وأيُّ مصيبة أن يدخل شهر رمضان على المسلم ثم يخرج منه وهو محمَّل بدعوة الأمينين: محمد -صلى الله عليه وسلم- وجبريل -عليه السلام-؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "أتاني جبريل فقال: يا محمد، مَن أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله! قلتُ: آمين"(رواه ابن حبان).
فتأمَّل إن هذه الدعوة التي دعا بها جبريل، وأمَّن عليها محمد -صلى الله عليه وسلم- على مَن كانت هذه حاله: أن يدرك رمضان ثم لم يغفر له، إنها حَرِيَّةٌ أن تجاب على هذا الإنسان؛ لأنه فرَّط تفريطًا عظيمًا، ولأن هذه الحال تدل على أن هذا الإنسان قد تأصَّل الشر في نفسه فلم يكن أهلًا للخير، ولا للمبادرة إليه؛ لأنه كيف لا يتهيأ للمغفرة وكل شيء في رمضان يهيِّئه للتوبة والأوبة، وتسهيل عبوديته وعودته إلى الله، وليس موسمٌ أجدرَ بالتوبة منه، كما جاء في الحديث الصحيح.
وتأملوا -أيها الإخوة- هذا الخبر الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم مِن ذنبه، ومَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم مِن ذنبه، ومَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم مِن ذنبه".
يا سبحان الله! هذه النصوص كأنما تُشعرك أن هذا الإنسان يكاد أن يُجَرَّ بالحبال جرًّا إلى الجنة والمغفرة، فما حال مَن يتأبَّى بعد ذلك ومن يتمنَّع، "غُفر له ما تقدَّم مِن ذنبه" حسناته تكون هي الظاهرة في ديوانه، وكل ما مضى مِن السيئات يُغفر، وفوق ذلك مُبشِّرات أٌخَر تتتابع في هذا الشهر الكريم: "ولله عُتقاء مِن النار وذلك في كل ليلة"، ثم إذا كان آخر ليلة مِن رمضان أعتق اللهُ بعدد مَن أعتق في رمضان كله، فإذا حُرِمَ العبدُ المغفرةَ بعد كل هذا فمتى يُرتجى حصولها؟ وفي أي وقت يصبح مِن أهلها؟
إذا الروض أمسَى مُجدبًا في ربيعه *** ففي أي وقتٍ يَستنير ويُزْهِرُ
إذا كان هذا الموسم بكل هذه المحفزات لا يُهيِّئ العبدَ لهذا الخير العظيم فأنَّى ومتى يكون مِن أهل هذا الخير؟
وتأملوا إن الأمر يَسيرٌ؛ ما هي إلا أوقات يسيره يشارك فيها المؤمن إخوانه حتى يتقوَّى فينال هذا الخير العظيم، ولذلك كان مِن أسرار العبادة في هذا الشهر أن المسلمين يؤدُّونها مع بعضهم، فيتقوَّون فتجد المسلم حينما يحل رمضان هو صائم والمسلمون في أرجاء الدنيا صائمون، ولذلك تجده يستحيي مِن الله، ثم مِن خَلْقه أن يكون مُنفردًا بينهم لا يصوم، ولذلك تجد بعض الناس لا يُصلِّي أبدًا ومع ذلك يصوم، والسبب في هذا هو بقية الإيمان، وبقية الحياء من الرحمن، ثم مِن الناس أنه يبقَى شاذًّا مِن بينهم، ليس صائمًا كما يصومون، بل إنَّك واجدٌ أن عددًا مِن غير المسلمين الذين يعيشون في بلادنا يشاركوننا الصيام، وهذا راجع إلى الطبيعة النفسية عند الإنسان أنه يأنس بوجود مَن يشاركه في الأمر الذي يتصدى له، ولذلك سلَّى اللهُ عبادَه بأن فريضة الصيام، وإن شَقَّت عليهم في بعض الأزمان؛ لكن هذه الفريضة سُنَّةٌ ماضية مِن الله في العباد الأولين إلى هذه الأمة المحمدية؛ فناداهم الله بأشرف صِفة، وأعظم نداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[البقرة: 183]، فلا تظنوا أنفسكم بِدْعًا مِن الأمم فهي فريضةٌ كُتبت على مَن كان قبلكم، وكُتبت عليكم، ففاز المسلمون بأن كانوا مُستجِيبِين لأمر الله -نسأل الله أن يجعلنا جميعًا كذلك-.
وهكذا أيضًا في قيام الليل في رمضان تجد صلاة التراويح مأمورًا أن تكون جماعةً، كما هي سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- مأمورٌ بذلك على وجه النافلة والترغيب، وليس على فرض الإيجاب، فإذا صلى المسلمون جماعةً سهُل عليهم أن يقوموا الشهر كله، ولذلك ليس عليك -يا عبد الله- إلا أن تصلي مع الإمام حتى ينصرف، فيكتب لك قيام ليلة كما قال عليه الصلاة والسلام: "مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، وفضلٌ آخر: أنَّ "مَن صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومَن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله" فضل عظيم فلا تفوت -يا عبد الله- هذه الأبواب المفتحة التي تُدعى إليها بكل أسلوب، وكل ترغيب، فلا تنكص ولا تتأخر عن ذلك.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه؛ يَسْتَبِقُون فيه لطاعته، فسبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا".
إن رمضان لم يكن أبدًا شهر نوم وكسل، ولا شهر ضعف ووخم، ولا شهر أكل وشرب، وإنما هو شهر جد وعمل وعبادة ومنافسة في الطاعات، ومسابقة في الخير بكل صوره وأنواعه، ف(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)[الحديد: 21]، والله يقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)[آل عمران: 133]، والله يقول: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين: 26]، وأما مَن كَسلَتْ نفسُه، وتأخَّرَت عن هذا الخير برغم كثرة طُرُقه، وشدةِ الترغيب فيه، فيُغشى عليه مِن العقوبة المتوَعَّدِ بها فيما رواه مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله"، وهذا الحديث كما قرر المحققون مِن أهل العلم؛ كالعلامة الشوكاني، والعلامة ابن عثيمين -رحمهم الله- أن الصحيح عمومه، وأنه ينطبق على كل مَن يتعمَّد التأخُّر عن الخير؛ فإن الله يؤخره؛ لأن الطاعات والعبادات شريفة كريمة، فمَن لم يُقبل عليها، واستقصَر شأنها، ورغِب عنها فإن الله بعد ذلك يصْرفه عنها، والله يقول: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[الحجرات: 7]، فهو فضلٌ مِن الله، فمَن نكص وتأخر ولم يعبأ بهذا الخير فإن هذا الخير أشرف منه، وأشرف مِن أن يُقبل عليه هذا الذي رغب عنه، وأنتم واجدون هذا مُطَّردًا في كثير مِن الطاعات، فالقرآن شريف كريم، والعبادات شريفة كريمة مَن أعرض عنها أعرض الله عنه، وفي الحديث الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن ترك ثلاث جُمَعٍ تهاونًا طَبَعَ اللهُ على قلبه فكان مِن الغافلين"، فأعمال الخير والبر وإن كان الترغيب فيها عظيمًا، لكن مَن أعرض عنها فإنه يُعاقب بأن يُطمس على قلبه فلا يجد رغبةً فيها بعد ذلك، ولذلك تجد بعض الناس يسمع الصلوات تقام ويُنادَى لها بالأذان وهو جوار المسجد أو يمر بجانبه أو يقف حتى عند باب المسجد، لكنه لا تأمره نفسه بأن يبادر للصلاة، والسبب طَبْعٌ على قلبه -عياذًا بالله من ذلك-، وهذا عقوبة لكل مَن تهيأ له الخير ثم رغب عنه ولم يقبل عليه.
والمقصود -أيها الإخوة المؤمنون-: أن الواجب على المؤمن أن يُبادر إلى الخير كلما تهيأت فرصته، وكلما فتحت أبوابه؛ فهي فرص لا ينبغي التخلف عنها، والله -جل وعلا- قد أمر بالمسابقة إلى الخيرات.
بارك لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: شهر رمضان شهر تغيير، تغييرٌ مِن كل شر إلى كل خير، ومِن كل إثم إلى كل بِرٍّ، ومِن كل قبيح إلى كل حميد، شهرٌ يتهيأ فيه للمؤمن أن يكون منتقلًا مِن مرحلة إلى أخرى، فيتهيأ فيه للمؤمن أن ينكفَّ عن كثيرٍ من الآثام والشرور، التي ربما تَلَطَّخَ بها في أيام العام، فيأتي هذا الشهر الكريم ليتوضأ فيه مِن كل الآثام فيَخرج طاهرًا مطهَّرًا، وهذا يستلزم مِن المؤمن أن يكون متهيئًا لذلك، وأن يكون مبادرًا إلى هذه الخيرات، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مؤكِّدًا الجوانب المعنوية في هذا الشهر الكريم، وأنها ليست قاصرةً على ترك الطعام والشراب والمفطرات؛ بل الأمر أعمُّ مِن ذلك، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "مَن لم يَدَعْ قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامَه وشرابه"، والمعنى في هذا الحديث أنَّ الله -سبحانه- غنيٌ عن عِباده، غنيٌ عن كل الطاعات فلا تزيده شيئًا، وهو سبحانه عزيز عن كل الآثام فلا تضره معصية عاص وإن أطبق على ذلك الخَلْقُ جميعًا، كما جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني"، وهذا الحديث يؤكِّد أن المكلَّف إذا كان ليس منكفًّا عن الآثام التي نهى الله عنها فإن طعامه وشرابه إذا تركه ليس هو المقصود؛ كما يدل عليه قول الله -جل وعلا- في كتابه الكريم: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج: 37]، فكل هذه القربات لن تنفع الله بشيء (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى)[الحج: 37]، وإنما يكون الثمرة أنكم أنتم أيها الخلق تحصِّلون تقوى الله -جل وعلا-، فَحَرِيٌّ بالمؤمن أن يكون متهيأ لهذا الخير.
وأمْر ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام، وقد نبَّه إليه العلماء وأعادوا فيه وأبْدَوا، وهو ما يتعلق بأولئك الذين صُفِّدَتْ شياطينهم لكنهم لم يُصَفَّدوا مِن بني الإنسان، أولئك السَّرَقة للأوقات الذين يمكرون بالناس، وذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة، فنحن نقرأ كثيرًا أن أصحاب الأعمال التي تُسمَّى الفنِّيَّة وغيرها مِن التمثيليات والمسلسلات أنه يعدُّ لها قبل رمضان، ويجعل رمضان موسم لتسويق هذه الأفلام، تسوَّق لِمَن؟ لكم أنتم -أيها الإخوة المسلمون-، فهل رمضان هو وقت هذه الأعمال؟
إن المتوقع لو أن الإنسان ضَعُفَت نفسُه، وتوجَّه لشيء مِن الآثام أن يكون متباعدًا عن رمضان، ومتباعدًا عن المواسم والمواضع التي كرَّمها الله وشرفها، ولذلك مِن المستبعد مِن أحد مِن المسلمين أن يتوجَّه مثلًا إلى السرقة في المطاف حول الكعبة؛ لأنه مقام شريف، ومِن المستبعد أيضًا أن يُبادر إنسان إلى فاحشة في نهار رمضان؛ لأنه يعلم أنه وقت شريف، وهكذا في كل الأمور، المستبعد من أي مسلم أن يباشر أمرًا منكرًا في وقت أو مكان شريف، هذا هو الأصل في أهل الإسلام، لكن في هذه القضية نجد أن رمضان بات موسمًا لتضييع الأوقات، ليس بأمور مباحة، ولكن بأمور واضح تحريمُها، ولذلك كان واجبًا على المسلم أن يحافظ على وقته في رمضان أشد مِن محافظة التاجر على ماله، فإن المال يعوَّض ولكنّ هذه المواسم بما فيها من مغفرة الله لا يكاد للإنسان أن يدرك تعويضها. هذا جانب.
وجانب آخر وهو ما يتعلَّق بصرْف الأوقات في شاشات الأجهزة المحمولة الجوال وغيره، فإن المشاهد كما تفصح عنه الإحصاءات أن كثير من الناس يمضون عبر وسائل التواصل الاجتماعي والانشغال بها أوقات متطاولة، فإذا كان ذلك منك -يا عبد الله- في غير رمضان وهو أمر يفوِّت على كثير من الناس أعمالهم ومصالحهم وكثيرًا مِن الخير الذي أنيط بهم، وهذا أمر قبيح فهو أقبح في شهر رمضان، وذلك لشرف الزمان الذي ينبغي أن تحفظ لحظاته ودقائقه فلا تضيَّع إلا بالخير.
فخذ على نفسك -أيها المؤمن- عهدًا بتنظيم وقتك في هذا الأمر، لا تضيِّع وقتك هذا الشريف النفيس في أمور التواصل الاجتماعي التي لو تأملت أنك في نهاية اليوم ما هي محصلتك؟ وما الذي استفدت؟
إنما هو قيل وقال، وربما أضر بنفسيتك، أو بتفكريك وتوجهاتك أو بغير ذلك، وهذا يدخل في عموم ما نهى عنه نبيُّنا -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في الحديث الصحيح أنه نهى عن قيل وقال، فهذا هو واقع هذه الوسائل؛ وسائل التواصل الاجتماعي، إنما هي قيل وقال وإعادة إرسال وتضييع للأوقات.
ولو تأملت في حال كثير من الناس أن مشاهدتهم ونظرهم في الشاشات أكثر من نظرهم ومشاهدتهم وقراءتهم للمصحف الشريف، سواء في الورق والمصاحف أو عبر الجوال المحمَّل فيه المصاحف المقصود أنه تَضِيع الأوقات في أمور غير كريمة، فكان حَرِيًّا بالمؤمن أن يحافظ على وقته، وأن يبادر بالخير كلما لاحت فرصته، وأن يتباعد عن الآثام مهما تهيأت فيها الفرص.
وبعد -أيها الإخوة المؤمنون- هذا هو شهر رمضان يوشك أن يحل بساحتنا، فنسأل الله الكريم أن يهل هلاله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، فربنا وربه الله، وهو المعبود حقًّا ليس سواه.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلْق الله نبيِّنا محمد؛ فقد أمرنا ربُّنا بذلك فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم، وارضَ عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
وفي ذكر هذه الآية (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا)[الحشر: 10] تنبيهٌ -أيها الإخوة المؤمنون- ألَّا يدخل عليك شهر رمضان وفي قلبك قطيعةٌ أو حقدٌ على أحد مِن الناس، فإن القطيعة تمنع المغفرة والرحمة، وحلول شهر رمضان فرصة لإعادة التواصل، فإذا أهلَّ الهلال هذه الليلة فلتتخيَّر ولتُعِدَّ قبْل ذلك قائمةً بمن بينك وبينهم قطيعة لتبارك لهم بشهر رمضان، والدعاء لهم فيه بالخير؛ لتقطع هذه القطيعة، وتصِل ما أمرك ربك أن تصِله كما نبَّه جل وعلا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم أدِم علينا في بلادنا الأمن والاستقرار، وأصلح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، ودلَّهم على كل خير وبر يا رحمن، اللهم وفِّق أمامنا خادم الحرمين الشريفين لما فيه عز الإسلام والمسلمين، ولما فيه خير البلاد والعباد يا رب العالمين، اللهم وأصلح أركان حكومته وأعوانه ووزراءه ووفقهم للخيرات يا رب العالمين، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ وثبِّت جنودنا المرابطين على الحدود وفي الثغور، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم سدد رميهم واحفظهم بحفظك في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربَّونا صغارًا.
اللهم أصلح لنا نيَّاتنا وذريَّاتنا وأزواجنا يا رب العالمين.
اللهم آتنا في الدينا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وقنا عذاب النار.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم