رمضان بين مائدتين

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2022-04-08 - 1443/09/07 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: رمضان الصوم
عناصر الخطبة
1/حلول شهر رمضان 2/أصناف الناس في استقبال شهر رمضان 3/معالم مائدة الرحمن في رمضان 4/مائدة الشيطان في رمضان 5/أهمية الإنفاق والجود وعون المحتاجين 6/تعلم أحكام الزكاة وآداب الصدقات.

اقتباس

ولا شيء بعد الإيمان ألذّ من إسداء الخير للناس وعون المحتاجين وإطعام الجائعين والتنفيس عن المكروبين والمعسرين، والزكاة شعيرة وشريعة وركن من أركان الإسلام لا يجوز أن تُتَّخذ مغرمًا، وإنما هي زكاة وتطهير للمال والنفس والبدن فأخرجوها طيبةً بها نفوسكم مدركين أنها عبادة وقربة إلى الله موقنين أن ما تنفقون سيُخلفه الله...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله نوراً وهدياً ورشداً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فيا أمة الإسلام ويا أتباع خير الأنام: اتقوا الملك القدوس السلام، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام؛ إن الله كان عليكم رقيباً.

 

وهكذا النور هلَّ، والشهر بالبركات أطلَّ، وينبثق الوليد، وتشرق الأرض بنور من ربها من جديد، وبعد رحلة مع العناء، وغرق في وحل المادية، وخوض في مستنقع الذنوب الآسن يأتي الخير والحبور، بَعْد بُعْدٍ عن الله وجَرْي وراء الشهوات يقبل النور ليجلو ظلمة المعاصي ويغسل أدران الذنوب، وينفجر فجر الأجر ويبدأ السباق إلى الخيرات والتنافس على الجنات.

 

جاء رمضان، واستقبلته في الأمة فئتان، ففئة أرادت الآخرة وسعت لها سعيها وهي مؤمنة؛ فأولئك كان سعيهم مشكوراً، وفئة يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً.

 

جاء رمضان وقد نصبت للأمة مائدتان؛ فمائدة من الرحمن الذي سبقت رحمته غضبه والذي كان بالمؤمنين رحيمًا، والذي قال عن نفسه: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، وهو القائل: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتك بقرابها مغفرة".

 

مائدة نُصِبَ عليها "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، و"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".. مائدة تضمنت في مكوناتها أن من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وأن من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة بنى الله له بيتًا في الجنة، مائدة هنيئة مريئة يسير هضمها، عظيم أثرها، سهل تناولها فمن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة، ومن قال في يوم: سبحان الله وبحمده مئة مرة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر.

 

مائدة على أبوابها ملائكة تنادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، وتردد: سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض، وقدموا لأنفسكم، واعملوا صالحاً، واستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، وتبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، وأن الله أعد للمحسنين والمحسنات أجراً عظيماً.

 

مائدة الرحمن في رمضان زادُها إسلام وإيمان وقنوت وصدق وصبر وخشوع وصدقات وصوم وحفظ للفروج وذكر لله كثيرًا ونفع للغير وبذل للخير.. تنوع في الأصناف واختلاف في المذاق وتوحد في النهاية والمآل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97]، ورواد هذه المائدة أعد الله لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا.

 

مائدة قوامها عبادات يسيرة بأجور كبيرة محفوفة بعون من الله وسعادة قلبية وطمأنينة نفسية (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].

 

قاصدو مائدة الرحمن مجازون على تناولها، وإن كانت مجرد همًّا فـ"مَن همَّ بالحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة.."، ومثابون عليه وإن لم يعملوه لعذر فـ"إذا مرض الإنسان أو سافر؛ كُتِبَ له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا".

 

مائدة الرحمن في رمضان يظهر غبها وثمارها حينما يرتهنون في القبور، وحينما يأتي يوم النشور، ويحصل ما في الصدور، وتُجزى كل نفس بما كسبت؛ حيث السرور وألوان اللذة مما لا يخطر على بال؛ حيث لا أذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، وأعظم ذلك النظر إلى وجه الله -عز وجل-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة:22-23].

 

هذه مائدة الرحمن في رمضان وقاصدوها قوم علموا أن سلعة الله غالية، وأن الجنة لا تُنَال بالتمني ولا بالتشهي، ولكنها سلعة ثمنها (مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)[مريم:60].

 

إنهم يدركون أن الجنة حُفَّت بالمكاره، وأن صبر ساعة ثمنه فوز عند قيام الساعة، وأن "مَن صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا"؛ فكيف بالفرض "ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه".

 

أيها المسلمون: وأما المائدة الأخرى فقد نصبها حزب الشيطان ممن يريدون أن تميلوا ميلاً عظيمًا، فمع كل رمضان يستقبلون الصائمين بمائدتهم المنتنة، والتي تهدف إلى صدّكم عن ذِكْر الله وعن الصلاة؛ فهل أنتم منتهون؟!

 

مائدة تنوعت أصنافها لكنها اتفقت في سوئها وعفنها؛ مائدة تضمنت لهوًا ولعبًا وغفلة وشهوات ليتحول الشهر من موسم عبادة إلى موسم غفلة وبلادة.

 

مائدة تضمنت أفلامًا ومسلسلات تهدم الأخلاق وتقوّض جدار الفضيلة، تسخر من الخير وحَمَلته وتستهزئ بالحجاب والعفة وتثير الغرائز وتشعل نار الشهوات.

 

ما كان لهذه البرامج أن تجد نجاحاً واستمراراً لولا أنها وَجدت من بعضنا تشجيعاً ودعماً، ولست أدري ما الذي يُبيح للبعض مشاهدة هذه المسلسلات ذات الأفكار الرديئة والمعاني المبتذلة والصياغة الساقطة. والله يقول: (إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء:36]، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)[النور:31].

 

هذه هي مائدة مردة الإنس الذين عز عليهم أن تُصفّد مردة شياطين الجن؛ فقاموا بدورهم وأنجزوا مهمتهم.

 

هذه مائدة شياطين الإنس غايتها تكثير للذنوب ومزيد من الإثم (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)[التوبة:55]، (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[آل عمران:178].

 

هذه مائدة شياطين الإنس في رمضان عسيرة الهضم، عظيمة الإثم يعقبها الضيق والضنك (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه:124]، شعور بتأنيب الضمير، شعور بالقلق من آثار الذنب، شعور بالخوف من مصيبة وعقاب على النفس والمال والأهل والولد. شعور بالذل والانهزامية، ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

 

هاتان مائدتان تنتظران الصائمين والصائمات، فبالله عليكم أيهما أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[يونس: 35].

 

أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

يا معشر الصائمين: ومن مائدة الرحمن ينبع الإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وفي رمضان يقبل طلاب الجنة إلى مرضاة ربهم، ويأتي البذل والجود والإنفاق على رأس أماني الراحلين (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[المنافقون:10].

 

 ولا شيء بعد الإيمان ألذّ من إسداء الخير للناس وعون المحتاجين وإطعام الجائعين والتنفيس عن المكروبين والمعسرين، والزكاة شعيرة وشريعة وركن من أركان الإسلام لا يجوز أن تُتَّخذ مغرمًا، وإنما هي زكاة وتطهير للمال والنفس والبدن فأخرجوها طيبةً بها نفوسكم مدركين أنها عبادة وقربة إلى الله موقنين أن ما تنفقون سيُخلفه الله، والصدقة دليل صدق الإيمان والعبودية لله واليقين بوعده، والصدقة برهان على إيمان معطيها (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[المزمل:20].

 

وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصَّر غنيّ، "وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء"؛ فتعلموا أحكام زكاتكم وآداب صدقاتكم  وأدوا حقها، واحذروا من التهرب من دفعها بالحيل؛ فالله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واجتهدوا في البحث عن مستحقها من أفراد وجمعيات موثوقة، ولا تكونوا ضحية للكاذبين المخادعين من أفراد أو جهات خارجية يأكلون أموال الناس بالباطل ويستجدون الزكاة تكثرًا وتفاخرًا.

 

ستجدون المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافًا، فآتوهم من مال الله الذي آتاكم، وربنا يقول: (مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[البقرة: 215]، و(وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)[محمد:38].

 

اللهم صل وسلم....

المرفقات

رمضان بين مائدتين.doc

رمضان بين مائدتين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات