رسالة العلماء

هشام عبد القادر آل عقدة

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ الثناء على العلماء في الشرع للمسؤولية الكبيرة التي يتحملونها 2/ بيان الدين كاملاً لا تأخذهم فيه لومة لائم 3/ محاربة مختلف صور الشركيات والبدع والانحرافات في المجتمع 4/ ليس للعلماء أن يأخذوا بالتقية في مواقف الحق 5/ دفع الظلم عن الرعية 6/ قيادة الأمة في وقت الأزمات والشدائد 7/ أن يكونوا قدوة فتوافق أعمالهم أقوالهم 8/ جنائز العلماء دالة على ربانيتهم 9/ صفات علماء السوء

اقتباس

فتأملوا مدى فتنة الناس بالعلماء وأقوالهم وأفعالهم، وقد كان الإمام أحمد يدرك ذلك جيدًا، لذا كان لا يرى للعلماء أن يأخذوا بالتقية في مواقف الحق، وأقل ما يجب عليهم -إن لم يقولوا الحق - أن لا يقولوا الباطل؛ إذ لو أخذوا بالتقية واستساغوا الرخصة، لَضَلَّ الناس من ورائهم، فيقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية.

 

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن ما ورد من الثناء على العلماء إنما هو لدورهم العظيم ونفعهم الجليل، فالله تعالى امتدحهم في كتابه فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9]، وقال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، وقال -عز من قائل-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]. والرسول -صلى الله وعليه وسلم- جعل فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وفي رواية: "كفضلي على أدناكم"، وقال بعض السلف: لولا العلماء لصار الناس كالبهائم.

أفيظن مغرور أن كل هذا الثناء والامتداح على بلوغ هذه المنزلة بلا مقابل يقدمه العلماء ولا مشقة يجدونها في مكابدة الحياة الدنيا وتبليغ الحق؟! كلا، فإن عليهم في مقابل هذا الثناء العظيم والأجر الكبير رسالة تتضمن مهامًا عظيمة من الدين؛ ولعلنا نتحدث في الدقائق المقبلة -إن شاء الله تعالى- عن المهام الجسام التي أنيطت بهم.

ومن أول هذه المهام -معاشر المسلمين-: بيان الدين للناس كاملاً، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم؛ يقول تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب: 39]، ويقول: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). [آل عمران: 187]، ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) [البقرة: 159]، ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ). [البقرة: 174, 175].

ومن مهام العلماء الكبيرة، التي ألقاها الله -عز وجل- على عاتقهم، محاربة وإنكار مختلف صور الشركيات والبدع والانحرافات الموجودة في المجتمع, وإزالة اللافتات الزائفة؛ سواء أكانت الانحرافات متعلقة بالولاة أم الرؤساء أم عامة الناس؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة. قال: فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم, فخرجت مخاصرًا مروان -أي مماشيًا له يده في يدي- حتى أتينا المصلى، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه، قلت: أين الابتداء بالصلاة؟! فقال: لا -يا أبا سعيد- قد ترك ما تعلم، قلت: كلا والذي نفسي بيده، لا تأتون بخير مما أعلم. قالها ثلاث مرات. وذلك لأن الذي يعلم طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف يكون غيره خيرًا منه. والحديث في صحيح مسلم.

وفيه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن, وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان". ولا شك أن أولى الناس بجهاد الباطل وإنكار المنكر علماء الأمة. وإذا كان عامة الناس يقعون في الإثم بترك إنكار المنكرات ومحاربة المعاصي والفساد فإن إثم العلماء أعظم, وسكوتهم أشد فتنة وخطرًا، وإذا كان يسوغ للفرد العادي إذا خاف على نفسه أن يقتصر على الإنكار بالقلب فإن ذلك لا يليق بالعلماء؛ لأن الناس ينظرون إليهم ويعرفون الدين منهم، وإذا كان الرجل من عموم الناس يجوز له إذا أُكرِه بتعذيب أو تهديد بالقتل أن يقول قولاً باطلاً مع اطمئنان قلبه بالحق, فإن ذلك لا يجوز للعلماء الذين يطلب منهم ذلك لإعلانه للناس، فإن ثباتهم على الحق في ذلك الموقف من جنس ثباتهم في صفوف القتال حماية ونصرة للدين.

وها هو الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- قد خلّف لنا نموذجًا عظيمًا لثبات العالم وصبره على الأذى وإدراكه لدوره, وذلك في الفتنة التي أوقع الخليفة المأمون فيها العلماء؛ حيث أرادهم على قول الباطل والإقرار بأن القرآن مخلوق، ولولا أن ثبّت الله الإمام أحمد في ذلك اليوم لاندثر الحق وضاع الدين؛ لأن الإمام أحمد بقي وحده أمام الفتنة بعد أن ضعف أكثر العلماء ومات بعضهم وتعرض لتعذيب شديد، ولما أشار المروزي عليه بالتقية، وأن يقول الباطل افتداءً لنفسه قاله له: اخرج فانظر. قال: فخرجت فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا الله تعالى والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر, فقال لهم: أي شيء تعملون؟! قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتب.

فتأملوا -إخوة الإسلام- مدى فتنة الناس بالعلماء وأقوالهم وأفعالهم، وقد كان الإمام أحمد يدرك ذلك جيدًا، لذا كان لا يرى للعلماء أن يأخذوا بالتقية في مواقف الحق، وأقل ما يجب عليهم -إن لم يقولوا الحق ـ أن لا يقولوا الباطل؛ إذ لو أخذوا بالتقية واستساغوا الرخصة، لَضَلَّ الناس من ورائهم، فيقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية.

ومن النماذج الطيبة في عصرنا في إنكار علماء الأمة للمنكر وتحذريهم من القوانين الوضعية فتوى الشيخ علي محفوظ -رحمه الله- عضو جماعة كبار العلماء في الأزهر قبل خمسين عامًا في أوراق اليانصيب؛ حيث قال: خلاصة القول أن عمل اليانصيب هو من عمل الميسر الذي حرمه الله ورسوله، فلا يجوز شراء هذه الأوراق ولا بيعها، والربح الناشئ عنها ربح خبيث لا يحل لصاحبه الانتفاع به, وإن ترخيص وزارة الداخلية به لا ينقله من الحرمة إلى الحل في نظر الشريعة, ولا ينجي المتعاملين به من العقوبة يوم لا ينفع مال ولا بنون, وحسب الجمعيات الخيرية أن تقوم بما تستطيع من أعمال البر من غير أن يتعرض أعضاؤها لغضب الله في سبيل جمع الأموال من هذا الوجه المحرم شرعًا؛ إذ إنه نصب واحتيال مقرر بالقوانين الوضعية، وليس من البر في شيء، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وقال أيضًا: وهي -أي أوراق اليانصيب- مهما نظمت ومهما كان القصد منها نوع من أنواع الميسر (القمار), وهو حرام.

هكذا ينبغي أن يكون كلام كبار العلماء وموقفهم من الانحراف، فأنت تجد في ذلك الكلام عدة أشياء؛ منها الحسم والوضوح الكامل المجرد من تمييع القضية أو اللف والدوران كما يقال، وتجد فيه جرأة وقوة تحمل المسلم على الامتثال، وتخوِّفه من العصيان، وفيه احتقار للقوانين الوضعية والهيئات والمؤسسات المخالفة لشرع الله -عز وجل-، دون خوف على منصبه أو جاهه، وفيه تقرير أمر عظيم عند الناس؛ وهو أن إباحة الحكومة لشيء لا ينقله في الشرع من الحل إلى الحرمة، ولا ينجي المرتكبين له من عقاب الله -عز وجل-، ولا يسوغ لأحد فعله اعتمادًا على إباحة الدولة له، وأن المسلم مرجعه وامتثاله للشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية الوضعية.

ومن مهام العلماء كذلك: دفع الظلم عن الرعية، وحمايتهم من نهب الحكام لهم، أو أكل أموالهم بالباطل، وقد حفظ لنا التاريخ مثلاً ونموذجًا عظيمًا في هذا الشأن, ألا وهو موقف الإمام النووي -رحمه الله- لما أراد الظاهر بيبرس أن يجمع المال من الناس لصد خطر التتار الزاحف على بلاد الشام, وكان يحتاج إلى المال والعتاد لمقابلة الغزاة وصدهم، وأخذ السلطان فتوى العلماء بتأييد عمله, فكتبوا له وأفتوه بما أراد, ما عدا الإمام النووي بقي متمسكًا برأيه ممتنعًا عن فتواه بهذا الأمر، وقد كان كثير النصح للسلطان، ولكن السلطان رد النصيحة في هذا الموضوع أي بجمع المال، فالخطر الداهم شديد, وفساد التتار وتخريبهم لبغداد وغيرها لم يكن خافيًا على أحد، وعندما وجده مصرًّا على عدم فتواه استدعاه، وهنا كان جواب النووي ورده على السلطان عنيفًا وقال له: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار, وليس لك مال, ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكًا, وسمعت أن عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائة جارية, لكل جارية حق من الحلي, فإن أنفقت ذلك كله وبقيت المماليك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية. فغضب الظاهر من جواب النووي وقال له: اخرج من بلدي -أي دمشق- فخرج إلى بلده نوى بحوران التي هي مسقط رأسه, فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يقتدى به، فأعده إلى دمشق، فرسم برجوعه، ولكن الشيخ امتنع، وقال: والله لا أدخلها والظاهر بها. فمات الظاهر بعد شهر.

وهي حادثة فيها عزّة العالم، وقوة الموقف والإنكار رغم أن الظاهر كان يريد بالمال عزة الدين ودفع العدو.

ومن مهامهم كذلك: قيادة الأمة في وقت الأزمات والشدائد والاضطراب، وقد خلّف لنا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- النموذج الكامل في هذا الشأن؛ حيث زاول -رحمه الله- بنفسه القيادة الحقيقية للأمة في السلم والحرب, وكان جديرًا بها لمواهبه النادرة العظيمة، واستجماعه لخصائص القائد الفذ, فكان يدافع عن مصالحها ضد المستغلين, ويحفظ حقوقها ضد المنتهبين، ويدفع عنها كيد عدوها ما استطاع.

ولعل من أعظم المواقف موقفه مع التتر؛ حيث كان يحرّض الناس على قتالهم ومنازلتهم، ويباشر القتال بنفسه، ويصدر الفتاوى التي تطمئن صدور الناس، بل ذهب بنفسه إلى قاذان التتري وابنه وقال: إن أجدادك الوثنيين لم يجرؤوا على ما جرؤت عليه! فيعجب به قازان ويطلب منه الدعاء. ويركب الشيخ إلى مصر لمقابلة السلطان الناصر ويكلمه كلامًا شديدًا حتى يقول: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن. وهدده بقوله: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم فإن الله –تعالى- يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وفي داخل البلاد كان ابن تيمية في جماعة من أصحابه الغيورين يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن مهام العلماء -إخوة الإسلام- أن يكونوا قدوة للأمة: وذلك بأن توافق أعمالهم أقوالهم, وأن يتحلوا بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة, وأن يعتزوا بالدين ويزهدوا في الدنيا، فقد جاء في وصف الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: كان حسن السيرة، وكان يحب العباد، ويغدق عليهم، ويصلهم ببره وإحسانه، ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة، قلما يفتر لسانه عن ذكر الله، وكان يعطي عطاء الواثق بربه، ولم يكن غنيًّا, بل كانت تمر عليه أوقات وهو متحمل للدين الكثير، وكان عليه أبهة ويجله الناس مع كونه متصفًا بالتواضع واللين مع الغني والفقير والشريف والوضيع، وكان يخص طلبة العلم بمحبة شديدة، وينفق عليهم من ماله، ويرشدهم حسب استعدادهم، وكان صبورًا عاقلاً حليمًا.

أما عن اعتزاز علماء سلفنا الصالح بدينهم وعلمهم أمام السلاطين والحكام وحطام الدنيا؛ فقد ضرب لنا العلماء السالفون أروع الأمثلة في ذلك: فهذا الإمام البخاري -رحمه الله- وهو في بلده بخارى، يطلب منه أمير خراسان أن يحضر إليه في خراسان ليسمع أولاده منه، فأبى الإمام البخاري أن يذهب إليه، وقال: في بيتي يؤتى العلم. فغضب الأمير وأراد أن ينفّر الناس عن السماع منه، فلم يستجيبوا لذلك، فأمر بنفيه خارج بلده، ومرض في منفاه -رحمه الله- ومات على إثر ذلك في ليلة عيد الفطر.

وهذا الإمام أحمد -رحمه الله- بعد أن زالت عنه المحنة في عهد المتوكل اعتبر ذلك محنة جديدة, فكان شديد الحذر من الدنيا, وكان يرفض أموال السلاطين وعطاياهم وهداياهم خشية أن يميل قلبه إليهم، فيترك شيئًا من الحق أو يجاملهم على باطلهم، وكان ينهى أولاده وذوي قرباه عن أخذ شيء من ذلك، ويهجر من يفعل ذلك ولا يؤاكله.

وبمثل هذا الورع والخلق والزهد في الدنيا أدى هؤلاء العلماء رسالتهم, وعظمت مكانتهم في قلوب الناس, فاقتدوا بهم, وسمعوا وأطاعوا لهم، وكان الواحد من هؤلاء العلماء إذا مات اهتزت لموته بلاد الإسلام، بتأثر صادق من أعماق القلوب, يدل عليه الأعداد العظيمة الضخمة التي كانت تشيع جنائزهم في وقت كان الناس فيه قِلّة.

فهذا الإمام أحمد -رحمه الله- لما مات -وذلك في سنة مائتين وواحد وأربعين من الهجرة- خرج في جنازته أعداد عظيمة جدًّا، أقل ما حرزت به سبعمائة ألف إنسان، بل قال الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي -رحمه الله-: ومن الجنائز العظيمة في الإسلام جنازة الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ فإن الذين حضروها وصلّوا عليه كانوا أكثر من ألف ألف إنسان.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما مات بسجن قلعة دمشق -وذلك في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من الهجرة- خرج جميع الناس من بيوتهم وحوانيتهم إلا من أعجزه الزحام، وامتلأت القلعة وجامع دمشق الكبير وجميع الطرق الموصلة إليه بمئات الألوف، والناس يتوافدون للصلاة عليه حتى صُلِّي عليه عدة مرات.

أما علماء السوء المبتدعة والمتملقون للسلاطين فكان الواحد منهم إذا مات لم يحفل أحد لموته، ولم يشيعه إلا مأجورون من حاشية السلطان، فهذا قاضي القضاة كما لقبوه أحمد بن أبي دؤاد، من أكبر مخالفي الإمام أحمد، ومن أذناب السلطان, لما مات لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه أحد، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان، ومثله بشر بن غياث المريسي المبتدع القائل بخلق القرآن والمنكر لصفات الله, لم يصلِّ عليه إلا طائفة يسيرة جدًّا، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي، ذكر العلماء أنه مع زهده كان من المبتدعة, ولما مات لم يصلّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة. ولذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول للمبتدعة: بيننا وبينكم الجنائز.

ومما يدل على مكانة علماء السلف عند الناس أن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- لما نزل البصرة اجتمع حوله الناس حتى كانت لهم صخبة, فاطلعت امرأة لهارون الرشيد من شرفة القصر فعجبت وسألت: من هذا؟! فقالوا: عالم من أهل خراسان، قالت: هذا هو المُلك لا مُلك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرطة وأعوان.

أما عن أحوال من يسمون بالعلماء اليوم في بلدنا، فلا شك أنه لا يخلو الزمان من العلماء العاملين الصالحين, ولكنهم قلة قليلة, ولكن الأكثرية الذين ابتليت بهم الأمة ليسوا كذلك, لاسيما أهل المناصب والألقاب منهم.

فقد ابتليت الأمة بصنفين ممن يسمون اليوم بالعلماء: صنف لا يتوفر فيه ابتداءً كثير من البدهيات التي ينبغي أن تتوافر قبل التعمق في أي علم، فعلى سبيل المثال قد تجد من يقال عنه: عالم, ولا يعلم معنى كلمة "لا إله إلا الله"، نعم، لا يزيد معناها عنده عن الإيمان بوجود الله, ولا يعلم أن المشركين كانوا يؤمنون بوجوده تعالى. ومنهم من لا يعلم الفرق بين السنة والبدعة, وأن الأصل في العبادات المنع. ومنهم من لم يسمع قط بحديث في تحريم المعازف أو في الأمر بإعفاء اللحية أو في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور... وهكذا.

وفي أمثال هؤلاء حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

والصنف الآخر: يعلمون الحق ويكتمونه، يعملون بضده، ويروجون خلافه. وفي أمثال هؤلاء يرد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 34]، وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة: 5]، وقوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف: 175].

وهؤلاء الصنف في أيامنا انقلبت رسالة العلماء عندهم إلى رسالة خبيثة نستطيع تلخيصها في النقاط التالية:

أولاً: تملّق الحكام، وتبرير الباطل والفساد بكل سبيل، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال.

ثانيًا: محاربة الصحوة الإسلامية, والشباب المتدين, والاستهزاء بهم, ووصفهم بأقبح الألقاب, وتخويف الناس منهم, والإفتاء بجواز إعدام الدعاة إلى الله -عز وجل- الصادقين.

ثالثًا: الانحسار في الجوانب السلبية التي لا تمس الواقع، والتغافل عن القضايا الإيجابية التي تحتاج الأمة إلى فهمها لتغير من واقعها، والسكوت عن الانحرافات العظيمة.

رابعًا: تضليل الرأي العام عن حقيقة الانحراف العظيم عن شرع الله -عز وجل- الذي تعيشه الأمة, وتحذير الشعوب المسلمة الساذجة بإحياء بعض المواسم الدينية المبتدعة, وإشغالها بالطقوس الفارغة.

خامسًا: تشويه صورة الدين والعلماء عند الناس؛ عن طريق ابتعادهم عن مواطن القدوة, وتلبسهم بما يخالف العقيدة السليمة والسنة الصحيحة والشرع الحنيف, وإهانتهم العلم, وإذلالهم لأنفسهم على أبواب الكبراء والفجار.

وهذا كلامهم في برامجهم وندواتهم، وفي صحفهم ومجلاتهم يشهد عليهم بذلك وأكثر منه.

إن هذه الأمور حقائق واقعة في صنف عريض ممن يصنفون في قائمة العلماء، وهذه الحقائق لابد من فهمها حتى نعيد نظرتنا إلى الواقع، ولا نغتر بدعايات الإعلام الزائف, وحتى نصحح موقفنا من الشباب المسلم المتمسك بدينه, الداعي إلى الله -جل وعلا- بكل سبيل, وندرك أنفسنا فننتشلها من الغفلة, فنضع أيدينا في أيديه لنصرة دين الله -عز وجل- والتمسك به، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2], (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 51].

ندعو الله -عز وجل- أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

 

 

 

 

المرفقات

العلماء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات