رسالة إلى قاطع

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ مكانة الرحم 2/ عقوبة القاطع في الدنيا والآخرة 3/ ثواب الواصل 4/ الوصل الحقيقي ومعية الله 5/ السعي في إصلاح ذات البين وإزالة الخصومات

اقتباس

احذروا من ظاهرةِ قطيعةِ الأهلِ والأرحامِ .. واحرصوا على إصلاحِ ذاتِ البينِ وإزالةِ الخصامِ .. فالمجتمعاتِ التي تنتشرُ فيها قطيعةُ الأرحامِ .. يضعفُ فيها الوُدُّ والاجتماعُ والوئامِ .. ولذلكَ بدأَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بعدَ هجرتِه بترسيَّةِ أصولِ الإسلامِ .. فكانَ من أولِ ما أوصى به أهلَ المدينةِ بعدَ الهجرةِ صلةَ الأرحامِ .. ليكونَ المجتمعُ الإسلاميُّ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: اسمع معي إلى صلةِ الرَّحمِ عندَ الأنبياءِ، قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا"؛ فهذا رسولُ اللهِ -صلى اللهِ عليه وسلمِ- يأمرُنا أن نَستَوصِيَ بِأَهلِ مِصْرَ خَيرًا؛ صِلةً للرَّحمِ القائمةِ بينَهُ وبينَهم من جِهةِ أمِّه هاجرَ رحمِها اللهِ مع تَبَاعُدِ الزَّمانِ والمكان؛ فَكَيفَ هي صِلتُنا نحنُ لِرَحمِنا القَريبِ كالآباءِ والإخوةِ والأعمَامِ؟

 

عبادَ اللهِ: لقد كانَ للَّرحمِ مَقاماً عندَ ربِّها، ورجاءً خاصاً له عندما خلقَ الخلقَ، وأحسَّتْ بأنَّ هناكَ من سيقطعُها من البشرِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مُقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعةِ، قَالَ: نَعَمْ، أمَا تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ"، ثُمَّ قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْرَؤُوا إنْ شِئْتمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23].. نعوذُ باللهِ تعالى .. كيفَ شُعورُكَ -أيُّها القاطعُ- وأنتَ تعلمُ أنكَ مطرودٌ من رحمةِ اللهِ التي وَسِعتْ كلَّ شيءٍ؟! .. كيفَ شعورُكَ وقد قطعَكَ اللهُ تعالى من كلِّ خيرٍ؟!

 

ولذلكَ أوصى عليُ بنُ الحسينِ -رضيَ اللهُ عنها- ولدَه، فقالَ: "يا بُنيَّ لا تَصحبَنَّ قَاطعَ رَحِمٍ، فإنِّي وَجدتُه مَلعوناً في كِتابِ اللهِ في ثَلاثةِ مَواضعَ".

 

والعجيبُ أنَّه مع هذا الوعيدِ الشَّديدِ، من ربِّ العبيدِ، لا نزالُ نسمعُ عن قطيعةٍ تستمرُ الشُّهورَ والسِّنينَ، بينَ الإخوانِ والأخواتِ، وقطيعةٍ للخالاتِ والعمَّاتِ، وبينَ الأقاربِ وأبناءِ العمِّ، بل قطيعةٌ عُظمى للأبِّ والأمِّ.

 

يا قاطعَ الرَّحمِ: كيفَ تَهنأُ في دُنياكَ، وأنتَ تَنتظرُ عقوبةً في الدُّنيا بما قدَّمتْ يَداكَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ"؛ فلا إلهَ إلا اللهُ .. عقوبةٌ لكَ بالمرصادِ، قبلَ يومِ المَعادِ.

 

وأما في الآخرةِ، فتَسوقُكَ الرَّحمُ خَلفَها، لتشهدُ شهادةَ حقٍّ عندَ ربِّها، أوَصلتَها أم قطعتَها، قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "وَكُلُّ رَحِمٍ آتِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ صَاحِبِهَا، تَشْهَدُ لَهُ بِصِلَةٍ إِنْ كَانَ وَصَلَهَا، وَعَلَيْهِ بِقَطِيعَةٍ إِنْ كَانَ قَطَعَهَا"؛ فإن كانَ -والعياذُ باللهِ- قاطعٌ .. فاسمعْ لهذا الحديثِ الرَّادعِ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ".

 

وحَـسـْبـُكَ مـن ذلٍّ وسـوءِ صَنـيـعةٍ *** مناواةُ ذي القُربى، وإنْ قِيلَ: قَاطعُ

ولا يَستوي في الحكِم عَبدانِ: واصلٌ *** وعـبـدٌ لأرحـامِ الـقرابـةِ قاطعُ

 

ولذلكَ فصِلةُ الرَّحمِ مِمَّا يُقرِّبُ من الجنَّةِ ويُباعدُ من النَّارِ، بل وهي في منزلةِ أركانِ الإسلامِ الكِبارِ .. عَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: عَرَضَ أَعْرَابِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ؟، فَكَفَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ وُفِّقَ هَذَا أَوْ لَقَدْ هُدِيَ، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟"، فَأَعَادَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاة،َ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعْ النَّاقَةَ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أَمَرْته بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ".

 

يا قاطعَ الرَّحمِ: أخبرني كيفَ تستطيعُ أن تنامَ ليلةَ الجُمعةِ؟ .. وأعمالُ العبادِ تُعرضُ على الرَّؤوفِ الرَّحيمِ .. وتُوَّزعُ عليهم الحسناتُ والخيرُ العظيمُ .. ولكنَّ، لا يُقبلُ عملُ صِنفٌ من النَّاسِ أثيمٌ .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ" .. فيا حسرتا على صلاتِكَ وصدقاتِكَ وأذكاركَ وعباداتكَ.

 

فأينَ الإيمانُ باللهِ تعالى واليومِ الآخرِ أيُّها القاطعُ؟! وأنتَ تسمعُ نبيَّكَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"؛ فأيُّ إيمانٍ هذا الذي قلبُكَ يحملُ، وأنتَ قد قطعتَ ما أمرَ اللهُ به أن يُوصلَ؟! وأيُّ فوزٍ تنتظرُ أو إكرامٍ، وأنتَ قد أفسدتَ في الأرضِ بقطعِكَ للأرحامِ؟! (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة:27].

 

اسمعوا إلى المُقَنَّعِ الكِنْدِيِّ وهو يصفُ علاقتَه مع إخوانِه وبني عمِّه، ولو كانوا قاطعينَ:

وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي *** وبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا

أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُمُ *** دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا

فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ *** وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا

وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبِي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ *** وإنْ هُمْ هَوُوا غَيِّي هَوِيتُ لَهُمْ رَشْدًا

وَلاَ أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ *** وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدَا

 

هل تعلمُ ما هيَ أبغضُ الأعمالِ إلى اللهِ؟ .. عنْ رجلٍ من خَثْعَمَ قَالَ: أَتيتُ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وهو في نَفَرٍ من أصحابِه، فقلتُ: أَنتَ الذي تَزعُمُ أنكَ رسولُ اللهِ؟، قَالَ: "نعم"، قَالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعمالِ أبغَضُ إلى اللهِ؟، قَالَ: "الإشراكُ باللهِ"، قَالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ثُمَّ مَهْ؟، قَالَ: "ثُمَّ قطيعةُ الرَّحِمِ"، قَالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ثُمَّ مَهْ؟، قَالَ: "ثُمَّ الأمرُ بالمنكَرِ والنَّهيُ عن المعروفِ".

 

يا قاطعَ الرَّحمِ: ألا تُريدُ بركةَ الرِّزقِ وطولَ العُمرِ؟ .. فكلُّنا يخافُ الموتَ ويخشى الفقرَ .. قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ".

 

أيُّها الأحبةُ: ليسَ الوصلُ فقطْ لمنْ يَصِلُني من الأرحامِ .. ومن قطعني قطعتُه؛ كما قالَ القائلُ:

ولَستُ بهيَّابٍ لِمَنْ لا يَهابُني *** ولستُ أَرى للمَرءِ مَا لا يَرى لِيَا

فإنْ تَدْنُ مِني تَدنُ مِنكَ مَودَتي *** وإنْ تَنأَ عني تَلقَني عَنكَ نائِيَا

كِلاَنا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَاتَه *** وَنَحْنُ إذَا مِتْنَا أشَدُّ تَغَانِيَا

 

لا .. بل الوصلُ الحقيقيُّ .. هو وصلُ من قطعَكَ من الأقاربِ .. كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا"، فهذا الذي يصلُ رحمَه طاعةً للهِ تعالى واستجابةً لنبيهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وليسَ ردَّاً لجميلِ أقاربِه أو مجاملةً لهم على زيارتِهم، يَقُولُ أبو ذَرٍ -رضي الله عنه-: "أَوْصَاني خَلِيلِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي، وَإِنْ أَدْبَرَتْ"؛ أيْ: وإن قطعوكَ، فكنْ أنتَ صاحبَ الوصلِ الجميلِ، وصيةً لكَ من الخليلِ، -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- ما تعاقبَ النَّهارُ والليلُ.

 

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أَشرفَ المرسلينَ، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أَجمعينَ.

 

أما بعدُ: فاسمعْ إلى قصةِ هذا الرَّجلِ، وما هي وصيةُ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- له، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟، وكأني بالكثيرِ يقولُ: هذا واللهِ مثلُ حالي مع أقاربي، فَقَالَ له رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ –وهو الرَّمادُ الحارُّ، أيْ: يصيبُهم من الإثمِ والألمِ بوصلِكَ كما يُصيبُ من يأكلُ الرَّمادَ الحارَّ-، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ"، فاللهُ معكَ وناصرُكَ ولا يضُرُكَ أذاهم".

 

عبادَ اللهِ: احذروا من ظاهرةِ قطيعةِ الأهلِ والأرحامِ .. واحرصوا على إصلاحِ ذاتِ البينِ وإزالةِ الخصامِ .. فالمجتمعاتِ التي تنتشرُ فيها قطيعةُ الأرحامِ .. يضعفُ فيها الوُدُّ والاجتماعُ والوئامِ .. ولذلكَ بدأَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بعدَ هجرتِه بترسيَّةِ أصولِ الإسلامِ .. فكانَ من أولِ ما أوصى به أهلَ المدينةِ بعدَ الهجرةِ صلةَ الأرحامِ .. ليكونَ المجتمعُ الإسلاميُّ متآلفاً مُتعاوناً قويَّاً في وجهِ أعداءِ الإسلامِ .. عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلِيهِ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ أَنْظُرُ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، قَالَ: فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ" .. جعلني اللهُ تعالى وإياكم ممن يدخلُ الجنةَ بسلامٍ.

 

وأما أنتَ -يا من أصلحتْ بينَ المُتقاطعينَ- فاسمعْ لآيةٍ وحديثٍ، يقولُ تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، وأما الحديثُ فقد قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟"، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".

 

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا يَا رَبَّ العَالَمِينَ.

 

اللهمَّ أصلحْ حالَنا وأحسنْ مآلَنا، اللهمَّ ارزقنا قلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحا خالصاً، اللهم إنا نعوذُ بك من الرياءِ والنفاقِ والشقاقِ وسوءِ الأخلاقِ، اللهم طهّرْ ألسنتَنا من الكذبِ، وأعينَنا من الخيانةِ، ونفوسَنا من العُجْبِ، وقلوبَنا من الرياءِ يا سميعَ الدُّعاءِ.

المرفقات

رسالة إلى قاطع

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات