عناصر الخطبة
1/مراسلة النبي -صلى الله عليه وسلم- لملوك عصره واتخاذه للخاتم 2/بعض رسائل النبي -صلى الله عليه وسلم- للملوك وردودهم 3/بعض الفوائد والحِكَم المستفادة من رسائل النبي -صلى الله عليه وسلم- للملوكاقتباس
بعث عليه الصلاة والسلام بمكاتباته إلى الملوك والقادة في زمانه، كتب إلى هرقل قيصر الروم (ملك الروم)، وكتب إلى كسرى ملك فارس، وكتب إلى ملك الإسكندرية، وإلى النجاشي في الحبشة، وإلى ملك عمان، وإلى ملك البحرين، وإلى غيرهم. وقد تفاوَتت استقبالات هؤلاء الملوك لهذه الخطابات الشريفة والرسائل النبوية الكريمة؛ فمنهم من استقبلها معظمًا لها، ومنهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الإخوة الكرام: من المنهج الذي اتبعه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في بلاغ رسالته وأداء أمانته: أنه عليه الصلاة والسلام كاتَب الملوك والقادة في زمانه، بعد أن استقر الأمر في عدد من الجهات من الجزيرة العربية، بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى المدينة، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها مع قريش، بعد أن تم الصلح، وبعد أن استقر الأمر له عليه الصلاة والسلام في عدد من الجهات.
بدأ بمكاتبة هؤلاء الملوك، وذلك في السنة السابعة من الهجرة، يدعوهم إلى الإسلام، ويبلغ أمانة ورسالة ربه -جل وعلا-.
ولما أراد مكاتبتهم عليه الصلاة والسلام استطلع آراء الخبراء وأهل الاختصاص؛ ممن لهم صلة في التواصل مع الملوك؛ عملاً منه صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159]، فلما كتب كتابته إليهم، قال له الخبراء: إن العرف وإن الملوك لا يَقبلون كتابًا إلا إذا كان بختم، فاتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من فضة، وجعل نقشه "محمد رسول الله"، لفظ الجلالة: الله سطر، ورسول سطر، ومحمد سطر، هكذا جاء على التدرج "الله، رسول، محمد"، قال العلماء: إن ما جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الصفة لفظ الجلالة، هو الأعلى تقديسًا وتعظيمًا لاسم الله -جل وعلا-.
وبعث عليه الصلاة والسلام بمكاتباته إلى الملوك والقادة في زمانه، كتب إلى هرقل قيصر الروم (ملك الروم) وكتب إلى كسرى ملك فارس، وكتب إلى ملك الإسكندرية، وإلى النجاشي في الحبشة، وإلى ملك عمان، وإلى ملك البحرين، وإلى غيرهم.
وقد تفاوَتت استقبالات هؤلاء الملوك لهذه الخطابات الشريفة والرسائل النبوية الكريمة، فمنهم من استقبلها معظمًا لها، ومنهم من استهان بها واستهزأ، فمِن صورِ استقبالها على وجه الاستكبار والاستهزاء: ما كان من كسرى ملك فارس، فإنه لما بلغه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، خالف الأعراف الدبلوماسية والبروتوكولات الدولية المعروفة في ذلك الزمان، والتي لا زالت مُقَررةً إلى زماننا اليوم؛ من احترام المذكرات الدبلوماسية، ومن احترام من يحملها، وتعظيم وإجلال سُفرائها، وعدم التعرض لهم ولو كان ثمة عداوة بين الدولتين.
فما كان من كسرى من حمقه إلا أن مزق كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونزل الوحي في لحظتها على نبينا -عليه الصلاة والسلام- بما صنع كسرى قبل أن يبلغه الأمر من البشر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم مزِّق مُلكه"، فما قامت له قائمة؛ إذ تهدمت ولايته، وانتقضت حكومته ودولته، وكان أول المنتفضين ضده أهل بيته من بنته وغيرهم، فما قامت لكسرى بعد ذلك قائمة.
وفي جهة أخرى هنالك في الروم استقبل هرقل الملك الروماني هذا الكتاب النبوي، وكان نصه كما ثبت في الصحيحين: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أسلم تَسْلَم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن أبيت وإن تولَّيت، فإن عليك إثم الأريسيين: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64]"، ثم الختم النبوي محمد رسول الله، فما كان من هرقل (وكان إذ ذاك بعض من سادة قريش في رومية) إلا أن استدعاهم، وكان بحضور بطارقته ووزرائه، واستدعى هؤلاء العرب (وكانوا ثلاثين في مقدمتهم سيد قريش وصنديدها أبو سفيان قبل إسلامه رضي الله عنه) فتباحث هرقل مع هؤلاء القوم من العرب، وسألهم أسئلة الناقد الخبير، أسئلة الفاهم الذي يدرك ما يسأل، ويريد أن يصل إلى هدفه، فسأل عن هذا النبي الكريم: إلامَ يدعو؟ وكيف هو حاله وشأنه في أخلاقه وتعامله؟ وهل كان ثمة ملك لآبائه من قبل؟ وسأل عن أتباعه: مَن يكونون؟ وهل إذا دخل أحدٌ في دينه، يكون منه رِدة عن هذا الدين؟ وسأل عن أخلاق هذا النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ وسأله: هل يغدر؟ فلما استتم هرقل هذه الأسئلة، قال لأبي سفيان مقولة ما كانت تخطر في باله، فقد قال: "إني كنت أعلم أن ثمة نبيًّا خارجًا (أن ثمة نبيًّا سيبعث) لكني ما كنت أظن أنه سيكون منكم أيها العرب، وإني لو أستطيع أن أصل إلى محمد، لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه مقامي هذا"، فعَظُمَ الأمر على أبي سفيان، وتعجَّب لهذا الكلام، ثم ما كان من هرقل عظيم الروم إلا أن أمر بهذا الكتاب، وأوصى بأن يُحفظ وأن يُجعل معه بروتوكول خاص به، بخلاف أي كتابٍ وأي رسالة يبعث بها أي ملك في زمانه، لقد أمر أن تُحضر له علبة (قصبة) من ذهب، فطُوِيَ هذا الكتاب الكريم وحُفظ في هذه العلبة المذهبة، وقال لبني قومه ولأهله وعشيرته: احفظوا هذا الكتاب وعظِّموه، فسوف يبقى الملك فيكم ما بَقِي هذا الكتاب، وقد عمِلوا بوصيته، فتوارثوه حتى حدود سنة تسعمائة للهجرة، وقد رآه بعض قادة المسلمين في طليطلة، واطَّلعوا عليه هنالك في هذه المدينة، وكان عليه أثر الزمان (أثر هذه المدة وتواليها)، وقد ذكر أن بعض الباحثين اطلع عليه منذ زمن قريب، واختَبر مادته، وإلى أي عام ترجع من خلال عنصر الكربون، وأن هذا الكتاب يرجع إلى زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأيًّا ما كان الأمر، فإن أبا سفيان رأى من هرقل هذا التعظيم لكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل إن هرقل لما قرأ هذا الكلام العظيم: "إلى هرقل عظيم الروم، أسلم تَسْلَمْ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن أبيت وإن تولَّيت، فإن عليك إثم الأريسيين: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64]، لقد همَّ بالدخول في الإسلام فجمع بطارقته ووزراءَه، وأمر بالأبواب أن تُغلق، وقال لهم: هل لكم فيما دعاكم إليه هذا النبي العربي؟ فليبلغنَّ ملككم ما شئتم إن أنتم اتَّبعتموه، فما كان من الرهبان إلا أن حاصوا حيصة الحمر، فتوجهوا إلى الأبواب مستنكرين، فوجدوها قد أغلقت، فعادوا إلى هرقل، فقال لهم: إنما أردت أن أختبر ثباتكم على دينكم.
قال العلماء: إن هرقل علِم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، وهم باتباعه، لكنه ضنَّ بملكه، وتمسَّك بدنياه، وآثرها على أن يتبع هذا النبي الكريم، وإلا فقد نطق بالحق، وصدَّق هذا النبي الكريم.
وهنالك في غرب الجزيرة العربية وصل الكتاب النبوي إلى ملك الحبشة النجاشي، فلما وصله هذا الكتاب، إذا به وقد قرأ ما فيه (وكان نصرانيًّا) فعظَّم هذا الكتاب، فجعله على عينيه، ثم نزل عن سرير الملك وجلس على الأرض؛ تعظيمًا لهذا الكتاب، وإجلالاً لمرسله، ثم ما كان منه إلا أن دخل في الإسلام، وآمَن بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وكان من شأنه أن أكرمه الله -تعالى- بأن ثبَّته على هذا الدين، وأُرِيَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام عليه ثياب خضر في الجنة، ولما مات النجاشي بالحبشة، دعا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصحابة، فقال: "قوموا فصلوا على أخيكم، فإنه مات" يعني: ولا له أحد يصلى عليه هنالك، فصلى عليه صلاة الغائب، فكانت أول صلاة على ميِّت غائب في الإسلام على النجاشي -رضي الله عنه وأرضاه-، ولذلك عدَّهُ العلماء في طبقة الصحابة، ولو لم يَر النبي -صلى الله عليه وسلم- لإيمانه به.
والمقصود -أيها الإخوة الكرام- أن هذه الرسائل النبوية قد تفاوت الناس في استقبالها من ملوك ذلك الزمان، فهذا حال كسرى وحال هرقل وحال النجاشي، منهم من آمن وعظَّم الكتاب، ومنهم من عظَّمه ولم يؤمن، ومنهم من أعرض وأهان الكتاب النبوي الشريف، ومنهم كما فعل ملك الإسكندرية من عظَّم هذا الكتاب وعظَّم النبي الكريم، وإن لم يؤمن، بل أرسل الهدايا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث أرسل ملك الإسكندرية مارية -رضي الله عنها وأرضاها- هديةً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت ملك يمين له، وهي والدة سيدنا إبراهيم بن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك أوصى بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إبان فتح مصر، وقال: "إنكم تفتحون أرض يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها، فإن لهم ذمةً ورحمًا".
وهنالك في عمان، وكذلك في اليمن، وكذلك في البحرين، تفاوتت استقبالات الملوك لهذه الرسائل النبوية الشريفة.
والمقصود أن ما تضمنه هذا الكتاب النبوي (وكانت صياغته متقاربة على هذا النحو المتقدم) أثرت في أنفس هؤلاء، فقد استبان معها الحق، واستبان معها ما ينبغي أن يكون من توحيد الله -جل وعلا-، ولذلك قال العلماء: "إنها تضمَّنت من حسن الملاطفة وطيب الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى هرقل عظيم الروم"، فلم يقل: إلى كلب الروم، ولم يقل: إلى فلان وفلان، بل خاطبه بالعرف الدبلوماسي: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم".
وهذا على نحو ما أمر الله -جل وعلا-: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه: 44]، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل: 125].
"أَسْلِمْ تَسْلَمْ" وهذه العبارة الموجزة فيها من دلائل الخير وعموم المعاني ما فهِمه هرقل، أسلم تسلم في دينك، تسلم في دنياك، تسلم في ملكك، تسلم في حاضر أمرك وعقباه، ولذلك كان منه هذا التعامل الكريم، وإن أبيت فإن عليك إثم الأريسيين (الطوائف التي تتبعك من عامة الشعب) فإنك إن آمنت آمنوا، وإن أعرضت وكفرت، أعرضوا وكفروا، والناس على دين ملوكهم، فكان إبراءً للذمة، وتحميلاً للمسؤولية.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام في مخاطبته لهؤلاء، وفي استقبال وفودهم، فعظَّم سفراءهم، حتى وإن أخطؤوا كما كان من استقباله لسفيرَي مسيلمة من أنه كان كذابًا، ومع إساءة الأدب من هذين السفيرين لَمَّا قالا: إنا نكفر بك يا محمد، ونؤمن بمسيلمة، قال لهم مقدرًا عرفًا دبلوماسيًّا دوليًّا إلى اليوم: "لولا أن الرسل لا تقتل، لقتلتكما"، لكنه صلى الله عليه وسلم التزم هذا العرف، فحمى هذين السفيرين مع إساءتهما الأدب معه عليه الصلاة والسلام.
وهكذا ما كان من استقبال وفد نجران وإجلال وفدهم، ومعاملتهم التعامل الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي سياق الحديث عن هذه الرسائل والمكاتبات النبوية وقد عُني بها العلماء (علماء الشرع، وعلماء الاختصاص في جوانب القانون الدولي والتعامل الدبلوماسي) واستنبطوا منها الحِكَم، واستبانوا منها الدلائل العظيمة، فإنها تصدر عمن لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 4].
في هذا السياق يظهر بين الفينة والأخرى من المنتكسين ممن يُنسبون إلى الإسلام، وهم من بني جلدتنا (مَن يريد أن يستنكف ويتحدث بالسوء عن هذه الرسائل، وقد وقع من أحد المتحدثين ممن ينسب إلى الثقافة في بلاد المغرب، من يصف هذه الرسائل النبوية بأوصاف لم يصفها الذين أرسلت إليهم، ولم يصف بها المشركون؛ حيث تحدث أحد من ينسب إلى الثقافة بأن هذه الرسائل فيها تهديد وإرهاب، وأنها ليست مشرفة في هذا القرن الحادي والعشرين، وأنها إنما كانت تناسب زمنًا كان ينشر فيه الفكر بالعنف والسيف، هذه الهرطقات التي تصدر عن هذا الرجل، إنما تَنِمُّ عن سوء طوية وعن سوء في فَهْم العربية، فإن هرقل بعد أن تُرجِم له هذا الكتاب، أدرك ما فيه من العظمة، فأجَلَّه وقدَّره، ولم يُمزقه كما فعل السفيه كسرى، ولم يقل فيه مثل هذا القول؛ كما قاله هذا السفيه في المغرب، ولكن عظَّمه وأجلَّه، وتعامل معه مع أنه داهية من دُهاة زمانه، وملك أعظم دولة في ذاك الزمان، الملك الروماني، ومع ذلك تعامل معه هذا التعامل الكريم، وتعامل مع السفير تعامل الطيب الذي يليق به، بل إنه قال مقولة ينبغي تأمُّلها: "لو أني أصل إليه، لو أني أبلغ إليه، لغسلت عن قدميه"، ملك لأعظم دولة في ذلك الزمان، يُسمع وزراءه وبطارقته عن هذا الذي يبعث إليه بهذا الرسالة، يقول: لو أستطيع لغسلت عن قدميه، فأي عُرف دبلوماسي يُمكن أن يرتقي إلى مثل هذا التعامل في زماننا أو في قبله) أن الملك بنفسه لأعظم دولة وقائدها يقول: إن التعامل ليس فقط بتكريم هذه الرسالة بأن أتعامل تعاملاً طيبًا، بمصافحة أو تقبيل جبين هذا الملك، بل إني أغسل قدميه تعظيمًا وتشريفًا.
فهل بعد ذلك من إقرار بعظمة هذا الكتاب، وبعظمة من أرسله، وأيضًا بالرقي في الفهم لهذا الملك الروماني في التعامل مع هذا الكتاب.
وهكذا صنع النجاشي يضعه على عينيه، ثم إنه لا يستقبله وهو على كرسي العرش على كرسي ملكه، ولكنه ينزل إلى الأرض، ويجلس تعظيمًا لهذا الكتاب، وأنتم تشاهدون كيف أن الملوك والقادة والوزراء إذا استقبلوا الكتاب من قائد أو ملك أو أمير، أو وزير آخر، فغاية ما هنالك أن يقوم تكريمًا وتقديرًا، ثم يجلس، لكن هذا الملك الحبشي ما كان منه إلا أن جلس على الأرض؛ لأن هذا الكتاب حقه التعظيم والإجلال والتكريم.
هكذا فهموا مع أنهم غير مسلمين، مع أنه متضمن دعوتهم إلى الإسلام وتغيير مِلَّتهم، فما بال هؤلاء الذين يستنكفون ممن ينتسبون للإسلام عن أن يُقروا بذلك، وأن ينسبوا التهديد والإرهاب إلى خطابات أرسلها من وصفه ربه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]؟!
كيف يستنكفون ويصفون هذه الأوصاف المسيئة، والله -جل وعلا- قد زكَّى هذا النبي الكريم تزكية تقصر عنها أفهام وعقول جميع البشر: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]؟! فكيف يقول: إنه غير مشرف، لا شك أن هذا نوع من الانتكاس، وأن هذا نوعٌ من طمس البصيرة، فلا لغة عربية يَفهم، ولا تعاملَ أدبيًّا يتعامل به، وإنما هو سوء الطوية والطمس على القلب: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) [المائدة: 41].
ولا شك أنه ينبغي على أهل الإسلام أن ينتصفوا لنبيهم بالدفاع عنه، وأن يكون ذلك بمحاكمة ومقاضاة كل من يسيء؛ فإن الحرية إن كانوا يفهمونها على أنها مطلقة، فإن جميع دساتير العالم تجعل للحرية حدًّا تصل إليه ولا تجاوزه، فإذا صار من هذه الحرية إساءة مع آخرين، حُوسِب مَن يدَّعيها، فكيف إذا كانت الإساءة لأعظم الخلق وخاتم الرسل محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-؟
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم اهدنا إليك سوء السبيل.
اللهم أصلحنا وعموم المسلمين، وارزقنا الفقه في دينك والعمل بكتابك يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمة المسلمين، اللهم اهدِ قلوبهم للإيمان.
اللهم وفِّقهم لتحكيم شرعك، واتِّباع سنة نبيك محمد -عليه الصلاة والسلام-.
اللهم وفِّق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، واجعلهم رحمة على العباد والبلاد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
اللهم انصر من نصر دينك، وأذل واخذل من ذل وخذل دينك.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.
ربنا هَبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا.
اللهم الطف بإخواننا المستضعفين في سوريا وفي فلسطين وفي بورما، وفي غيرها من البلاد.
اللهم احقن دماءهم، اللهم احمِ أعراضهم، اللهم عجِّل بنصرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بأعدائك وأعدائهم، فإنهم لا يُعجزونك.
اللهم أَرِنا فيهم من الذل والصغار ما تَشفي به قلوبَ عبادك المؤمنين يا قوي يا عزيز.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 181 - 182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم