عناصر الخطبة
1/ سرعة مرور الأيام وخطر الاغترار بها 2/ أهمية محاسبة النفس بعد رحيل رمضان 3/ الاستمرار على الأعمال الصالحة 4/ من وسائل الثبات بعد رمضاناقتباس
إذا رأيت في عيشك تكديراً، وفي أمورك عنتاً، بعد مواسم الخيرات والبركات، فاعلم أن التقصير قد سرى في أعمالك، والغفلة قد لبست أحوالك، فكم من نعمة غفلت عن شكرها، وكم من زلات تراكمت آثارها، حتى صارت حوبا كبيرا، لا يحتمل تأخير التوبة عنه، ولا التسويف في الإنابة إلى من يقبل التوبة ويمحو السيئات، فاستقم تستقم حياتك، وتنل بركة ربك في ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنّور، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، يجدد الأيّام والشهور، ويصرف الأعمار والدهور. وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، يحيي ويميت وإليه المصير. وأشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّداً عبده ورسوله، الشافع المشفع يوم النّشور، صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيّها النّاس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حيثما كنتم، وقوموا بالأمر الذي من أجله خلقتم: " (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الجن) [الجن:56] وقال -سبحانه-: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون) [المؤمنون:115].
أيها الأحبة في الله: ها قد رحل عنّا شهر رمضان، حاملا معه ما قدمناه، وشاهدا على ما كسبناه؛ لذلك لابد لنا من وقفة صادقة، ومحاسبة دقيقة، ومساءلة مستمرة، بعد انقضاء أيّامه المباركة، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ثم تجزون بما كنتم تعملون.
عباد الله: لقد انقضت أيام رمضان سريعا، كأنها ساعة من نهار، وتلك سنّة الله تعالى في الشهور والدهور، وهكذا تنقضي الأعمار، وهل الأعمار إلّا أيام؟ فإن كان هذا هو حال الأعمار أفلا نعتبر بما طوت الأيام من سجلات الماضين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آلعمران:30].
إخواني: ألسنا في كل يوم نشيّع غاديا؟ فمنهم من تخطته المنايا وهو نائم، ومنهم من توفته الملائكة وهو في الطريق سائر، ومنهم من تخطفه الموت وهو مكب على عمله، تخطفهم الموت دون أن يشعرهم، وعاجلهم قبل أن ينذرهم، وحق فيهم قول الحق: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].
كم من صديق حميم، وكم من حبيب كريم، وكم من قريب عزيز أصبح سليما في بدنه، معافا في صحته، ثم أمسى مجندلا بين أطباق الثرى، قد حيل بينه وبين ما يشتهى من لقيا الأصحاب والأحباب والأولاد والأعمال، " (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيب) [سبأ:54]
" فإلى متى الاغترار بالدنيا وقصورها، والدور ومفاتنها، والأموال وسحرها، والمناصب وزخرفها؟ (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5]، وويل لمن وثق بالدنيا، وأمن جانبها، فذلك الاغترار، وطريق البوار، فهي الغرارة، وهي المكّارة، فلم الركون إليها وهذا حالها؟ ولم التعويل عليها بطول الأمل، والقعود عن العمل، وموعد الرحيل عنها محجوب، وكل معمول فيها محفوظ ومكتوب؟ (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ) [القمر:53]. فاحذروا الدنيا والظن بها خيراً، فإنّها دائمة التقلب، لا تستقر لأحد على حال، والسرور فيها لا يدوم.
أيها النّاس: حاسبوا أنفسكم بعد انصرام شهركم، فمن صَفّى صُفّي له، ومن كَدّر كُدّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن سرّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربه، فالبرّ لا يبلى والإثم لا ينسى، والديّان لا يموت، والدنيا ساعة، مآل الإحسان فيها الجنان، وعاقبة الإساءة فيها الخسران (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7-8].
أيها المسلم: إذا رأيت في عيشك تكديراً، وفي أمورك عنتاً، بعد مواسم الخيرات والبركات، فاعلم أن التقصير قد سرى في أعمالك، والغفلة قد لبست أحوالك؛ فكم من نعمة غفلت عن شكرها، وكم من زلات تراكمت آثارها، حتى صارت حوبا كبيرا، لا يحتمل تأخير التوبة عنه، ولا التسويف في الإنابة إلى من يقبل التوبة ويمحو السيئات، فاستقم تستقم حياتك، وتنل بركة ربك في وقتك ومسعاك وحياتك" (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
واحذر من تنكب الصراط فإن نهايته زوال النعم، وحلول النّقم، ومن أحسن البذر جادت ثماره، ومن أساء الزرع لم ير حصاده، ولا تغتر بطول ما عشت، ولا تركن إلى حلم الله عليك، فإنما هي زجرة واحدة، وتنقضي أيامك، واعلم أنّ المرء مع من أحبّ، ومن أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، واسمع إلى ما قاله الفضيل بن عياض رحمه الله: "من علم أنّه عبد الله وراجع إليه فليعلم أنّه موقوف، ومن علِم أنّه موقوف، فليعلم أنّه مسؤول، فليعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير، تُحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فإنك أن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي".
عباد الله: كونوا ربانيين، ولا تكونوا رمضانيين، فإن الأيام تنقضي وخالقها باق، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الأنبياء:26-27].
يدبر الأمور ويصرفها في رمضان وفي سائر الأيام والشهور، فمن أحسن في رمضان، فليحسن في غيره، فإنما الأيام والشهور سجلات أعمال، ومحل للإساءة أو الإحسان، فاعملوا قبل فوات الفرص، وحلول الأجل، وقد كان علي -رضي الله عنه- إذا دخل المقبرة قال: "أمّا المنازل فقد سُكنت، وأمّا الأموال فقد قُسمت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم؟ ثم قال: والذي نفسي بيده لو أُذن لهم في الكلام لقالوا: إنّ خير الزاد التقوى"
إنّ لله عبادا فُطنا *** طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمّا علموا *** أنّها ليست لحيٍّ وطناً
جعلوها لجّة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سُفنا
أيها المسلمون: إن من أعظم الخسران أن ينقطع الرجل عن أعمال صالحة كان قد داوم عليها، ومن ذلك انقطاع المسلم عن قراءة القرآن بعد انقضاء شهر رمضان، والتهاون عن صلاة الفجر، والغفلة عن التبكير إلى المساجد، وترك البذل والإطعام، وإطلاق العنان للشهوات، وهذا باب خطير يفتح مصارع السوء على مصراعيها، فتسرع القسوة إلى النّفوس بعد أن لانت من خشية الله، وتنغلق القلوب بعد أن أنارها كتاب الله، وتسوء الألسنة بعد أن رطبت بذكر مولاها تسبيحا وتهيلا وترتيلا، وتسوّد الوجوه بعد أن أضاءها نور الصلاة والقيام، وتضعف الهمم عن البذل والعطاء بعد أن رباها الصيام على الإحساس والاجتهاد في قضاء الحاجات، فيصبح المسلم قاسيا بعيدا عن الله تعالى، لا يبالي بما ضيّع من صلاة وصيام نوافل، مهملا لواجباته نحو خالقه ونحو أسرته ومجتمعه، بعد أن تنكب سبيل الهدى والرشاد؛ فأيّ خسران بعد هذا الضياع والتيه؟ وأي نهاية سينتهي عليها لو عاجله هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وكاتم الأنفاس، وهو على هذه الحال المحزنة والعياذ بالله !!
اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الاستقامة، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيّبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيّها الناس: إن الثبات على الصراط المستقيم مُنية كل مسلم، وبُغية كل مؤمن، ولذلك طرق ووسائل على العبد أن يأتيها ويستمر عليها، ومنها:
تجديد الايمان وتقويته: (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً) [النساء:136]
فإن ذلك مما يثبت المؤمن ويشرح صدره للطاعات، ومن ذلك تعاهد النفس بالتوبة والاستغفار (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31] فطريق التوبة طريق النجاة والفلاح.
ومن وسائل الثبات بعد رمضان: إكثار الدعاء وتوثيق الصلة بالله، فلا يثبت إلّا من ثبته الله، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " عن أَنَسٍ رضى الله عنه قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ "قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ"
ومن وسائل الثبات بعد رمضان: المحافظة على النوافل، فمن حافظ عليها سَهُل عليه المحافظة على الفرائض والقيام بها، ويعينه على ذلك أيضا شهود الجماعة في المساجد، والتبكير إلى الصلوات(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:238]
ومن طرق الثبات على الاستقامة: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:110] فهذا من أعظم طرق تثبيت النّفس على الطاعة، وهذا من مجاهدة النّفس، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] ويتأكد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل الأسرة مصداقا لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]
ومن سبل الثبات بعد رمضان: استحضار حقيقة الدنيا، وسرعة زوالها، والمداومة على ذكر الموت؛ تحفيزا للنّفس على العمل، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
ومن أعظم الوسائل المعينة على مداومة العبد للطاعة: الانتظام في حلقات تعليم وتحفيظ القرآن، وحضور مجالس العلم، ففيها من الخير الكثير، كما أنها فرص ليجد المسلم له صحبة صالحة تعينه على طاعة الله وعبادته. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ? وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]
أخي المسلم أختي المسلمة: إن سلعة الله غالية، ومن رام الجنان والفوز برضى الرحيم الرحمن تجنب الفتور بعد مواسم الخير، وأقبل على ربه، مدبرا عن الدنيا مقبلا على الآخرة، " يرجو رحمته ويخشى عذابه"، ولا فلاح ولا فوز إلا بالطاعات، والمداومة عليها، حتّى يلقى الله بقلب سليم، غير مبدل ولا مقصر، وإنّها جنة عرضها السموات والأرضين، الخلود فيها معلوم، فشمروا عن ساعد الجد، وأروا الله منكم ما أريتموه في رمضان، وحاديكم: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
هذا وصلّوا وسلّموا على البشير النذير ..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم