ذم اليأس والقنوط

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ ذم الشريعة لليأس والقنوط 2/ أسباب اليأس والقنوط 3/ كيف نواجه اليأس والقنوط

اقتباس

ومنشأ القنوط واليأس: الجهل بالله -تبارك وتعالى- وبكماله سبحانه في أسمائه وصفاته، وأنه -جلَّ وعلا- عليمٌ، أحاط بكل شيء علمًا، قديرٌ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، توابٌ، رحيمٌ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، كريمٌ جواد، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، غفورٌ غفَّار، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، حييٌ محسن يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صفرًا...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الكريمِ الوهَّاب، الرحيمِ التوَّاب، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له؛ إليه الرجعى وإليه المآب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله -تبارك وتعالى- بشيرًا بالثواب ونذيرًا من العقاب؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أولي النهى والألباب.

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنين عباد الله: اتقوا الله تعالى، وراقبوه سبحانه مراقبة عبدٍ يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه. وتقوى الله -جلَّ وعلا-: عملٌ بطاعة الله، على نورٍ من الله، رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله، على نورٍ من الله، خيفة عذاب الله.

 

أيها المؤمنون: وصفٌ موبِـق، جاءت الشريعة بذمِّه والتحذير منه وبيان خطورته، إذا سيطر على القلوب أهلكها، وإذا ولج إلى النفوس أعطبها، معدودٌ في كبائر الذنوب وعظائم الآثام؛ ألا وهو -عباد الله-: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته -جل في علاه-. قال الله تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87]، وقال الله تعالى: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر:56]، وفي المسند للبزار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا قال: يَا رَسُولَ اللهِ: مَا الْكَبَائِرُ؟! قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله"، والقنوط: أشدُّ اليأس.

 

أيها المؤمنون عباد الله: ومنشأ القنوط واليأس: الجهل بالله -تبارك وتعالى- وبكماله سبحانه في أسمائه وصفاته، وأنه -جلَّ وعلا- عليمٌ، أحاط بكل شيء علمًا، قديرٌ، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، توابٌ، رحيمٌ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، كريمٌ جواد، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، غفورٌ غفَّار، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، حييٌ محسن يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صفرًا، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا المقتضية لآثارها من العبودية لله وكمال الثقة به وحُسن الالتجاء إليه وقوة التوكل عليه وشدة الطمع فيما عنده دون إياسٍ أو قنوط، والله -تبارك وتعالى- يقول في الحديث القدسي: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي"، ويقول في الحديث الآخر: "يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ".

 

ويقول -جل وعلا- في الحديث القدسي الآخر: "يَا ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ: لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً". فلم الإياس ولم القنوط!! والله -تبارك وتعالى- يقول: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف:156].

 

أيها المؤمنون عباد الله: ومن علِم أنَّ الأمور كلَّها بتدبير الله وتسخيره -جل في علاه-، وأنها ماضيةٌ بما قدَّره وقضاه، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ من آمن هذا الإيمان استراح قلبه ولم يضطرب، واطمأن فؤاده ولم ينزعج، وهل اضطراب القلب يردُّ أمرًا مقدورًا؟! وهل انزعاجه يجلب أمرًا غير مقدَّر؟! اللهم إلا آلامٌ وغُصص وحسرات تؤذي القلوب وتُضعِف إيمانها وتوهِّي من صلتها بالله -تبارك وتعالى-.

 

أيها المؤمنون عباد الله: ومن كان إياسه وقنوطه بسبب كثرة ذنوبه وتعدد خطاياه فليتأمل كثيرًا في قول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53]، وهي أرجى آيةٍ في كتاب الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولا حاجةٌ يُسألها أن يعطيها -جلَّ في علاه-.

 

والواجب على العبد في هذا المقام أن يجاهد نفسه على الطاعة، وأن يحرص على مباعدتها عن العصيان، غير مستسلمٍ ليأسٍ أو قنوط، بل مجاهدًا نفسه على طاعة الله، عاملًا على نيل رضاه -جل في علاه-، وليتأمل حاله في مصالحه الدنيوية ومبتغياته من مُتع الحياة، أليس يتعامل معها دون إياسٍ أو قنوط؟! فها هو الجائع لا يستسلم لجوعه، والعطشان يبحث عما يروي ظمأه، إلى غير ذلك من مصالح الدنيا وحاجاتها، فلِمَ الاستسلام للذنوب؟! لِـمَ لا تُدفع العقوبة الأخروية بالتوبة إلى الله -عز وجل- والإقبال عليه -سبحانه وتعالى-؟! إذا كان العبد يتوقَّى من كثيرٍ من الأطعمة خوف مضرتها، لِـمَ لا يتقي الذنوب خوف معرَّتها؟! أليس قادمًا على الله، ومؤاخذه سبحانه على ما قدَّم في هذه الحياة؟! ولهذا وجب عليه أن يكون ناصحًا لنفسه، مقبلًا على ربه، غير مستسلمٍ ليأسٍ أو قنوط، ولا أيضًا متمادٍ مع تأخيرٍ أو تسويف. والكيِّس من دان نفسه وعمِل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

 

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعد:

 

أيها المؤمنون عباد الله: اتّقوا الله تعالى، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.

 

أيها المؤمنون عباد الله: ولا يعني عدم القنوط والبُعد عن الإياس تمادي المرء في الذنوب والخطايا والآثام اتكالًا على سعة الرحمة وعِظم المنِّ والغفران، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتابه الصحيح: "كَانَ العَلاَءُ بْنُ زِيَادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ، فَقَالَ رَجُلٌ: لِمَ تُقَنِّطِ النَّاسَ؟! قَالَ: وَأَنَا أَقْدِرُ أَنْ أُقَنِّطَ النَّاسَ! وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر:53]، وَيَقُولُ: (وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر:43]، وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمُنْذِرًا بِالنَّارِ مَنْ عَصَاهُ".

 

نسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا أجمعين الجنة، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، وأن يعيذنا من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

 

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديِّين؛ أبي بكرٍ الصديق، وعمرَ الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينًا وحافظًا ومؤيِّدًا، اللهم أعذنا والمسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

 

 

 

 

المرفقات

اليأس والقنوط

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات