ذم الغيبة

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حفظ الشريعة للأعراض وصيانتها لها 2/التحذير من الغيبة وحكمها 3/خطر الغيبة على الفرد والمجتمع 4/الغيبة يعظم أثمها بحسب مرتبة المغتاب 5/مفاسد الغيبة وعقوباتها 6/حفظ اللسان وصيانته

اقتباس

أيها المؤمنون: وهذه الكبيرة يعظم إثمها ويكبر جرمها بحسب حال من اغتابه الإنسان، فغيبة من له حقٌ على الإنسان كأمٍ أو أب، أو زوجٍ أو أخ أو قريبٍ أو جار يعظم بذلك الجرم؛ لأنه إضافةً إلى ما فيه من غيبة فيه تضييعٌ لهذا الحق الخاص؛ ولهذا فإن اغتياب العلماء الذين لهم قدم صدق في الأمة نصحًا وتعليما وبيانًا وتوجيها، ودعوةً وإصلاحا من عظائم الذنوب وكبائر الآثام لِما...

 

 

 

 

الحمد لله الملِك العلَّام، منَّ علينا بالإسلام، وهدانا للإيمان، وجعلنا من أمة خير الأنام؛ سيد ولد عدنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعد:

 

أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله -تعالى-؛ فإنَّ في تقوى الله -جل وعلا- سعادة الدنيا والآخرة.

 

أيها المؤمنون عباد الله: لقد جاءت هذه الشريعة الغراء بصيانة الأعراض وحفظها ورعايتها، وإبعاد الناس من أن يسيء بعضهم إلى بعض بأي نوع من أنواع الإساءة، وعُدَّ ذلك في الشريعة بابًا عظيمًا من أبواب الإثم، وضربًا من ضروب العدوان؛ ومن ذلكم -أيها المؤمنون عباد الله- ما جاءت به الشريعة المباركة من ذم الغيبة، والنهي عنها، والتحذير منها، وتجريم فاعلها، وعدِّها في جملة كبائر الإثم.

 

وقد دل على تحريم الغيبة، وأنها من عظائم الذنوب كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، قال الله - تعالى -: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات: 12].

 

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية: "حرَّم الله أن يُغتاب المسلم كحرمة أكل الميتة".

 

وقال قتادة -رحمه الله-: "كما أنت كارهٌ أن تأكل جيفة مدوِّدة فكذلك كن كارهًا لغيبة أخيك".

 

أيها المؤمنون: وبهذا المثل العظيم الذي ذكره رب العالمين -جل في علاه- يظهر للإنسان مدى خطورة الغيبة، وعظم هذه الجريمة، وكِبَر خطرها على الأفراد والمجتمعات، وقد خرَّج الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟" قَالُوا: "اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ" قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: "أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟" قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".

 

وهذا الحديث فيه: بيان حد الغيبة وتعريفها، وأن الغيبة -أيها المؤمنون-: ذِكر المرء لأخيه بما يكره مما هو فيه، وأما إن كان ما قاله المغتاب ليس فيه فهذه جريمة أعظم، وهي الكذب والبهتان والافتراء.

 

أيها المؤمنون: وهذه الكبيرة يعظم إثمها ويكبر جرمها بحسب حال من اغتابه الإنسان، فغيبة من له حقٌ على الإنسان كأمٍ أو أب، أو زوجٍ أو أخ أو قريبٍ أو جار يعظم بذلك الجرم؛ لأنه إضافةً إلى ما فيه من غيبة فيه تضييعٌ لهذا الحق الخاص؛ ولهذا فإن اغتياب العلماء الذين لهم قدم صدق في الأمة نصحًا وتعليما وبيانًا وتوجيها، ودعوةً وإصلاحا من عظائم الذنوب وكبائر الآثام لِما لهم من حق خاص على عموم المسلمين من نصحٍ ومحبةٍ ووفاءٍ، ودعاء لما يقدِّمونه لأمة الإسلام من أعمالٍ خيِّرة، ونصائح قيِّمة، ودعوةٍ مباركة.

 

أيها المؤمنون عباد الله: إن المغتاب باغتيابه للآخرين وتعدِّيه على أعراضهم عرَّض نفسه لعقوبة تحُلُّ به في الدنيا قبل الآخرة، وهي: أن الله -جل وعلا- يهتك ستره ويفضحه ولو كان في قعر بيته، روى الإمام أحمد وغيره عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ".

 

والمغتاب -أيها المؤمنون- ومن معه في مجلس الغيبة يقومون من مجلسهم كأنما قاموا من أنتن جيفة حمار -عياذًا بالله-، روى البخاري في الأدب المفرد بسند جيد عن جابر - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ المؤْمِنِينَ".

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: ومن عِظم جريمة الغيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها قرينة الاعتداء على الأنفس بالقتل وعلى الأموال بالسلب والانتهاب في غير ما حديث، ومن ذلكم قوله عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ".

 

وقتل الأنفس وسرقة الأموال كبيرتان عظيمتان إجماعا، وهتك الأعراض والتعدي عليها بالغيبة ونحوها جاءت في هذا الحديث وغيره مقارنةً لهاتين الجريمتين؛ مما يدل على عظم هذا الجرم وفداحته وكبر خطورته، كيف لا! وهو داءٌ عضال ومرض فتاك، ومعوَل هدم، يترتب عليه نشر العداوات، وإيجاد الإحن، وانتشار البُغضة بين المسلمين.

 

والواجب على المسلم قبل أن يحرك لسانه بكلماتٍ فيها غيبة، أو نحو ذلك، أن يتذكر مقامه بين يدي الله، وأنَّ ما يقوله بلسانه معدودٌ في جملة عمله الذي يحاسبه الله عليه يوم القيامة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ووفقنا أجمعين لاتباع هدي وسنة النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، وأصلح الله لنا شأننا كله إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-؛ فإنَّ من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.

 

واعلموا -رعاكم الله- أن اللسان له خطورة عظيمة لا يعلم مداها إلا رب العالمين، ولقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "والذي لا إله إلا هو ما هناك شيءٌ أحوج إلى طول سجنٍ من لسان".

 

إدراكاً منه لخطورة اللسان وعظم ضرره، وأن الواجب على المسلم أن يزن كلامه، وأن يحاسب نفسه في أقواله وكلماته، والكلمة قبل أن يقولها المرء يملكها، وأما إذا خرجت منه ملكته وتحمَّل تبِعَتها.

 

ألا فلنتق الله ربنا، ولنسأله سبحانه وتعالى لسان صدق لا إثم فيه ولا خطيئة، مستعينين بالله -تبارك وتعالى- مجاهدين أنفسنا على تحقيق ذلك في ضوء قول نبينا - عليه الصلاة والسلام -: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".

 

اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، واهدنا إليك صراطًا مستقيمًا يا رب العالمين.

 

واعلموا -رعاكم الله- أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.

 

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.

 

وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر من نصَر دينك وكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.

 

اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصرهم في أرض الشام وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم كن لهم عوناً وظهيرا وحافظاً ومؤيِّدا، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، اللهم احفظهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم، واحقن دماءهم يا رب العالمين، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

 

اللهم من أراد أمننا أو أمن إخواننا المسلمين في كل مكان فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره تدبيره يا رب العالمين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أصلح قلوبنا أجمعين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

 

اللهم إنا نسألك قلبًا سليما ولسانًا صادقا، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب.

 

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

 

ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].

 

 

 

 

 

المرفقات

الغِيبَة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات