ذكر الله طمأنينة القلوب وسكينة النفوس

الشيخ خالد المهنا

2024-06-21 - 1445/12/15 2024-06-22 - 1445/12/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/بعض فضائل وبركات ذكر الله تعالى 2/بيان وجوه ذكر الله باللسان وفضله 3/حضور القلب أثناء الذكر خير وبر 4/توضيح وبيان أهمية ذكر الله بالجنان 5/ذكر الله طمأنينة للقلب وسكينة للنفس

اقتباس

ليس للقلوب طمأنينةٌ ولا سَكِينةٌ ولا راحةٌ ولا قرارٌ إلا بكثرةِ ذِكْرِ اللهِ في الغيبِ والشهادةِ، والسرِّ والجهرِ، فالقلوبُ إنما خُلقت لذِكْرِ اللهِ فلا تحيا إلَّا به، ولا تَثبُتُ على الإيمانِ إلا به، فهو الفُرقانُ بين أهل النفاق وأهل الإيمان...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، خضَع لجلاله كلُّ شيء، وذلَّ لعظمته كلُّ شيء، ولله الحمدُ ربِّ السماوات ورب الأرض رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الذاكرين وقدوة العابدين وقائد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم النبيين.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي عباد الله بتقوى الله اجتنابا لما نهى وامتثالًا لما أمر، فمن تحقق بذلك فهو الموعود بقول الله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ)[الْقَمَرِ: 54].

 

أيها المسلمون: ذِكرُ اللهِ -سبحانه- هو أفضلُ الطاعاتِ وأشرفُ القُرُباتِ، ولُبُّ العباداتِ، وهو الذي مِنْ أجلِه شُرعت الشعائرُ، كما قال سبحانه: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه: 14]، وقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا ‌جُعِلَ ‌الطَّوَافُ ‌بِالْبَيْتِ ‌وَبَيْنَ ‌الصَّفَا ‌وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ"؛ أَيْ: ليذكرَ العبادُ ربَّهم، بقلوبهم عُكُوفًا على تعظيمه ومحبته وخوفه ورجائه، وبألسنتهم لهجًا بحمده وتكبيره وتهليله وتسبيحه، وبجوارحهم عَمَلًا بطاعته، وسعيًا في مراضيه؛ فلذلك كان ذِكرُه -جلَّ جلالُه- أكبرَ من كل شيء، كما قال سبحانه: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

 

ولقد تواطأت على جلالةِ ذِكرِ اللهِ وعظيمِ ثوابِه ومحبةِ الله له، ومعيتِه لأهله أدلةُ الوحيينِ، ولا جَرَمَ؛ فبِذكرِ اللهِ حياةُ القلوبِ ونعمُيها وقوتُها، وهو قوتُها وغذاؤها، وهو حياة الروح، وروح الحياة، ودليل الإيمان، وإن الإيمان لَمَّا كان قولًا باللسان وإخلاصًا بالقلب وعملًا بالجوارح كان ذِكرُ اللهِ -تعالى- ترجمانًا له ودليلًا عليه، ولأجل ذلك جاء الذكر في كتاب الله وسُنَّة نبيه مرادًا به مفهومًا واسعًا، يعم اللسان والقلب والجوارح، فأما ذكر الله -تعالى- باللسان، فإنَّه يتناول تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها، والأذكار المشروعة في الصلاة وبعد الفراغ منها، وما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة، ويتناول كل ما عظَّم العبدُ به ربَّه من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ويدخل فيه الدعاء، وأجله الاستغفار.

 

وقد أعدَّ اللهُ للذاكرينَ اللهَ كثيرًا والذاكراتِ مغفرةً وأجرًا عظيمًا، ووعدَهم بالنصر والفَلَاح والحِفْظ، ورتَّب على كثرةِ ذِكرِه -سبحانه- مِنْ حطِّ الأوزارِ والخطيئاتِ، ورفعةِ الدرجاتِ وتكفيرِ السيئاتِ ما نطقَتْ به آيُ الكتابِ المبينِ، وزخرَتْ به سُنَّةُ سيدِ المرسلينَ.

 

وممَّا يُبَيِّن عن جلالة ذِكْر الله باللسان وفضله أن قدوة المؤمنين وإمام المتقين كان لا يفتر عنه، كما أخبرَتْ بذلك أُمُّنا الصديقةُ عائشةُ بنتُ الصديق -رضي الله عنهما-، ممتثِلًا -عليه الصلاة والسلام- أمرَ ربِّه؛ فإن الأمر بالذكر المطلَق لم يأتِ في القرآن إلا مقرونًا بالكثرة؛ كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]؛ ولذلك أرشَد -عليه الصلاة والسلام- مَنْ قال له: "يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فَمُرْنِي بأمرٍ أتشبَّتُ به"، أرشدَه بقوله: "لا يزالُ لسانُكَ رطبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ".

 

عبادَ اللهِ: متى ذكَر العبدُ ربَّه بلسانه فهو على خير، ومتى اجتمع له مع حركة اللسان حضور القلب فتواطأ القلب واللسان على الذكر كان الخير أعظم والفضل أتم، كما أمر بذلك الله -سبحانه- في قوله جل ذكره: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الْأَعْرَافِ: 205]، وذلك بأن يتفكر العبد في معاني ما يلهج به لسانه من ذكر الله، ويتدبر بفؤاده مقاصد تلك الأذكار من تعظيم الله -سبحانه- وتوحيده، وإخلاص الدين في عبادته واستعانته، وذلكم هو السبيل القويم، والمنهج الواضح، الذي يسلك بالعبد إلى ذوق ثمار الذكر اليانعة، ويظفره بنتائجه النافعة التامَّة الكاملة؛ من نيل كريم الأجر وانشراح الصدر، وتحصيل محبة الله وتعظيمه وخوفه ورجائه.

 

أيها المسلمون: ذِكرُ اللهِ -تعالى- بالقلب هو أساس الذكر، والنبعُ الذي يفيض منه الذكرُ فيجري على لسان العبد، لا يُحرَمُه إلا غافلٌ متبِعٌ هواه، كما قال -سبحانه-: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الْكَهْفِ: 28]، وذكر الله بالقلب هو أن يشهد العبد بقلبه نعم الله -تعالى- دقيقها وجليلها، قديمًا وحديثها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)[الْأَحْزَابِ: 9]، وأن يتفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، وما أودع في خلقه من دلائل عظمته وقدرته وقوته ورحمته، وما تضمنه أمره ونهيه، ووعده ووعيده من حكمته وعدله، ولطفه بِعِبَادِهِ، وكل ذلك مما يعمر القلب بحب الله وتعظيمه، ويملؤه خشية له، ووقوفا عند حدوده، ويحتجز العبد عن محارم ربه، ويحرك جوارحه للعمل بطاعته، قال التابعي الجليل ميمون بن مهران -رحمه الله-: "‌ذِكْرُ ‌اللَّهِ ‌بِاللِّسَانِ ‌حَسَنٌ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمَعْصِيَةِ"؛ أي: فيمنعه ذكر ربه وخوف مقامه من مواقعتها.

 

عبادَ اللهِ: مَنْ ذكَر اللهَ خاليًا من الناس ففاضت عيناه شوقًا إليه، أو خوفًا منه، أو منهما معًا، فازَ بظلِّ العرشِ والنجاةِ يومَ البعثِ، قال عليه الصلاة والسلام: "سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظِلُّه، وذكَر رجلًا ذكَر اللهَ خاليًا ففاضَتْ عيناه".

 

نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي اصطفى من شاء من عباده لكثرة ذكره، وأفاض عليهم بفضله فواضل إحسانه وبره، والصلاة والسلام الأتمان على من كان أكثر العباد لربه ذكرًا، وأكملهم له تعظيمًا وشكرًا.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إن لجوارح العبد ذكرًا تَذكُر به ربَّها؛ وذلك كلما تقرَّب به العبدُ به إلى مولاه، من عبادة تحتاج إلى عمل أعضائه؛ من صلاة وصوم وحج وعمرة وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكَر، وصدقة وإصلاح بين الناس، وغير ذلك من أنواع الطاعات، وذلكم الذكر هو ثمرة ذكر الله بالقلب واللسان، فما من عبد ألزَم نفسَه ذكرَ ربِّه بلسانه وقلبه، وهو سالكٌ فيه طريقةَ سيد المرسلينَ؛ إذ كانت كل طريقة سواها جهالة، وضلالة، وزيغًا عن الحق المبين.

 

ما من عبد كان في الذكر كذلك إلا أكرمه ربه باستقامة جوارحه على طاعة الله، فيسرها لعمل الحسنات، وترك السيئات، فكمل له مقام الذكر على خير ما يحب الله ويرضى، وكان ذاكرا لله على الحقيقة، موعودا بأتم ما وعد به الذاكرون من فضل الله -تعالى-، وحسن ثوابه ومعيته وذكره لمن ذكره، كما قال جل وعز: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 152]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: في الحديث الإلهي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني".

 

أيها المسلمون: ليس للقلوب طمأنينةٌ ولا سَكِينةٌ ولا راحةٌ ولا قرارٌ إلا بكثرةِ ذِكْرِ اللهِ في الغيبِ والشهادةِ، والسرِّ والجهرِ، فالقلوبُ إنما خُلقت لذِكْرِ اللهِ فلا تحيا إلَّا به، ولا تَثبُتُ على الإيمانِ إلا به، فهو الفُرقانُ بين أهل النفاق وأهل الإيمان، قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النِّسَاءِ: 142]، وقال عليه الصلاة والسلام: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَجلِسُ يَرقُبُ الشمسَ حتَّى إذا كانت بين قرنَيِ الشيطانِ قام فنقَر أربعًا لا يَذكُرُ اللهَ فيها إلا قليلًا".

 

أيها المسلمون: إن ما يجري اليوم من اختصار للخطبة وتخفيف للصلاة يأتي مراعاة للزحام وحرارة الأجواء، بناء على توجيهات ولاة الأمر في بلادنا المباركة، أخذًا بالوقاية ومبدأ حفظ النفوس، فجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء وبارك في جهودهم.

 

اللهمَّ يا مقلب القلوب ثبِّتْ قلوبَنا على دِينِكَ، اللهمَّ ارزقنا نفوسًا شاكرة، وألسُنًا ذاكرة، وقلوبًا همُّها في الآخرة، اللهُمَّ صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارك اللهمَّ على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهُمَّ عن جميع أصحاب نبيك أولي القول السديد والعمل الرشيد.

 

اللهُمَّ زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدينَ، فاطرَ السماوات والأرض أنتَ وَلِيُّنَا في الدنيا والآخرة، توفَّنا مسلمينَ، وألحِقْنا بالصالحينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، وانصر عبادَكَ المؤمنينَ يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ آمِنَّا في أوطاننا ودُورنا، وأصلح اللهُمَّ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهمَّ أعنه وولي عهده لما فيه صلاح أمر العباد والبلاد يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ وأصلح أحوال المسلمين حكَّامًا ومحكومين يا أرحم الراحمين، اللهُمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم يا خير الناصرين.

 

عبادَ اللهِ: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

المرفقات

ذكر الله طمأنينة القلوب وسكينة النفوس.doc

ذكر الله طمأنينة القلوب وسكينة النفوس.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات