ذكر القبور

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/ أقوى علاج للقلوب القاسية   2/تأمل حال الإنسان في قبره   3/السلف وذكر المقابر 4/مَا أبلغ العظات وأكثر العبر؟   5/فوائد كثرة ذكر القبر 6/لا يعرف مقدار الحياة إلا الموتى 7/السعيد من وُعِظ بغيره   8/أماني أصحاب القبور.

اقتباس

فَمن رأى قبرًا فَإِنَّمَا رأى واعظا يعظه، ومذكرا يذكرهُ، فَإِن كَانَ الْقَبْر ساكتًا، فَإِنَّهُ نَاطِق بِلِسَان الْحَال، ومفصح بِمَا يكون مِنْك فِي الْمَآل، فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا يخاطبك إِنْسَان، وَيبين لَك عاقبتك وَيَقُول لَك: يَا هَذَا كنت حَيا مثلك وَقد مت، وَكَذَلِكَ أَنْت تَمُوت، فضيعت أَمر رَبِّي وندمت، وَكَذَلِكَ إِن ضيعت أَمر رَبك...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المرتفع عن إدراك الأبصار الناظرة، المنزه عن التخيلات والأوهام الخاطرة، العالم بما تحت أمواج البحار الزاهرة، كعلمه بحركات خلقه الظاهرة، الذي جعل الموت أول منازل الآخرة، فأقام به القوي والضعيف تحت قدرته القاهرة, أحمده على نعمه وآلائه المتواترة، وآياته الباهرة المتظاهرة، حمدًا أدفع به حلول كل فاقرة.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالآيات الباهرة، والمفضل بالمقامات الفاخرة، الذي ألّف بين القلوب المتنافرة. اللهم فصلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: فيا أيها الناس إن سبيل العافية عافية لقلة سالكيها، وإن علل القلوب القاسية مؤذنة بهلاكها، وإن رسل المنون قانصة لا تفلت أحدًا من شباكها، فما للعيون ناظرة ولا تبصر؟ وما للقلوب قاسية ولا تفكر؟ وما للعقول طائشة ولا تشعر؟ وما للنفوس ناسية ولا تذكر؟ أغرَّها إنظارها وإمهالها؟ أم بشرّها بالنجاة أعمالها؟.

 

عباد الله: ماذا بعد الصحة إلا السقم؟! وماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! وماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! وماذا بعد الحياة إلا الممات؟! وماذا عند الموت إلا السكرات والزفرات، وبعد الموت قبور، وظلام، وحفرة أو روضة...

 

أيها الإخوة: من أقوى علاج للقلوب القاسية ذكر الموت، ومعاينة المحتضرين، وزيارة القبور، فجدير بمن تسلط عليه الشيطان، وهاجت نفسه الأمارة بالسوء؛ أن يفزع إلى المقابر، ويقف بتلك المنازل، ويتذكر أنه يومًا سيسكن في تلك القبور، وسيكون وحده, لا أحد معه سوى عمله, فإما أن يكون عملاً صالحًا يؤنسه وينير قبره، فيكون روضة من رياض الجنة, وإما أن يكون عملاً سيئًا؛ تشتد معه ظلمة قبره، ويضيق عليه، ويكون حفرة من حفر النار. نعوذ بالله من سوء الختام وضيق القبور.

 

وإذا نسي الإنسان نفسه وسها ولها وغفل، فقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور بعد النهى عنها؛ لما فيها من التذكرة بالموت، والموعظة للأحياء، أنهم سيكونون في لحظة من اللحظات في باطن الأرض بعد ما كانوا على ظهرها، يتمتعون، ويضحكون، ويلعبون، فيتذكرون الموت، فيعملون له ويفيقون من غفلتهم، فعن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم–: "نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإن في زيارتها تذكرة" [ أبو داود (3235) وصححه الألباني] أي  تذكّر الأحياء بالموت والقبر والسكرات والمصير بعد الحياة.

 

وعن بريدة أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً" [ النسائي ( 2032) وصححه الألباني] أي من جاء زائرًا القبور فليعتبر بحال أهلها ولا ينطق سوءاً ولا يعترض على قضاء الله وقدره.

 

أيها الأخ الكريم: لا تغفل عن ذكر الموت والقبر، واعْلَم -رَحِمك الله- أَن فِي الْقَبْر وظلمته، وضيقه ووحشته، وَطرح الْمَيِّت فِيهِ غير موسد وَلَا ممهد، قد بَاشر الثرى، وواجه البلى، وَترك دُنْيَاهُ للورى، ونبذ مِنْهَا مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ بالعراء، مَعَ حبيب تَركه، وَقَرِيب أسلمه، ونصير أفرده، وَترك مَا كَانَ عَهده، مَا يفطم النُّفُوس عَن الشَّهَوَات وَإِن كَانَت صعبة الْفِطَام، ويقطعها عَن اللَّذَّات وَإِن كَانَ قطعهَا بعيد المرام، إِذا بحث عَن الْحَقِيقَة، وَنظر بِعَين البصيرة، وَسمع النداء من قريب.

 

بَيْنَمَا الْمَرْء مرتكضًا فِي أمْنِيته، غافلاً عَن يَوْم صرعته ومنيته، قد فتح للهو بَابه، وَأرْسل عَلَيْهِ حجابه، وَلم يبالِ بِمن لامه فِي ذَلِك أَو عابه؛ إِذْ هجمت عَلَيْهِ الْمنية فهتكت أستاره، وكسفت أنواره، وطمست أَعْلَامه وآثاره، فَأَخْرَجته من ذَلِك الْقصر المشيد، والمنزل المنجد، وَالْمَتَاع المزخرف المنضد، إِلَى حُفْرَة من الأَرْض سَوْدَاء، ضيقَة الجوانب والأرجاء، مَمْلُوءَة من القرع والرعب مَا شَاءَ.

 

فحذار-رَحِمك الله- حذار أَن تنْزع هَذَا المنزع، وبدار-عصمك الله- بدار أَن تصرع هَذَا المصرع، فيفت فِي عضدك، وَيسْقط فِي يدك، وَيَرْمِي بك عَن أهلك وولدك، فِي مهواة تزدحم فِيهَا الْأَهْوَال، وتنقطع فِيهَا الآمال، قد جمعت فِيهَا جمعا، ورصعت فِيهَا رصعا، وَتركت للهوام والدود طعمًا ومرعى.

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على زيارة القبور؛ يدعو لأهلها ويستغفر لهم، تحدثنا أمنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قائلة: "أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ النَّبِيِّ وَعَنِّي؟ قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ -أي أغلقه- رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ.

 

فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ -أي أسرعت أشد من الهرولة- فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً؟" -أي ما لك ونفسك مرتفع من أثر الهرولة وأنت نائمة؟!- قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ قَالَ: "لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: "فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟" قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ: "أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ" قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.

 

قَالَ: "فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ" [مسلم (974)].

 

وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي القبور، ويذكر الفتن التي تعرض على الأحياء، ويرجو للأموات العافية، فعَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ! لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى. قَالَ: ثُمَّ ... ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ" [مسند أحمد 16040، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 312): رواه أحمد والطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات، وضعفه الألباني].

 

وكان عثمان بن عفان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه"، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظرا قط، إلا والقبر أفظع منه" [ ابن ماجه (3461) وصححه الألباني].

 

وعن البراء بن عازب قال: "بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ أبصر بجماعة، فقال: علامَ اجتمع عليه هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه، قال: ففزع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبدر بين يدي أصحابه مسرعا، حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا، قال: أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا" [مسند أحمد (18624) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/345)].

 

وَقَالَ مُجَاهِد: "أول مَا يكلم ابْن آدم حفرته، تَقول أَنا بَيت الدُّود، وَبَيت الْوحدَة، وَبَيت الوحشة، وَبَيت الظلمَة، وَبَيت الغربة، هَذَا مَا أَعدَدْت لَك يَا ابْن آدم، فَمَاذَا أَعدَدْت لي؟"، وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: "أَرْبَعَة أبحر لأربعة: الْمَوْت بَحر الْحَيَاة، وَالنَّفس بَحر الشَّهَوَات، والقبر بَحر الندامات، وعفو الله بَحر الخطيئات"، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: "أَلا أخْبركُم بِيَوْم فقري؟ يَوْم أنزل قَبْرِي".

 

وكان السلف يكثرون من الاعتبار بالقبور، فقد مر عَليّ بن أبي طَالب  رَضِي الله عَنهُ- بالمقابر، فَوقف عَلَيْهَا فَقَالَ: "السَّلَام عَلَيْكُم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، أَنْتُم لنا سلف، وَنحن لكم تبع، وبكم عَمَّا قَلِيل لاحقون، اللَّهُمَّ اغْفِر لنا وَلَهُم، وتجاوز عَنَّا وعنهم، طُوبَى لمن ذكر الْمعَاد، وَعمل لِلْحسابِ، وقنع بالكفاف وَرَضي فِي جَمِيع أَحْوَاله عَن الله تَعَالَى، ثمَّ قَالَ: يَا أهل الْقُبُور! أما الزَّوْجَات فقد نكحت، وَأما الديار فقد سكنت، وَأما الْأَمْوَال فقد قسمت، هَذَا خبر مَا عندنَا، فَمَا خبر مَا عنْدكُمْ؟ ثمَّ الْتفت إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: أما أَنهم لَو تكلمُوا لقالوا: وجدنَا خير الزَّاد التَّقْوَى".

 

وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ -رَحمَه الله-: "من أَكثر ذكر الْقَبْر؛ وجده رَوْضَة من رياض الْجنَّة، وَمن غفل عَن ذكره؛ وجده حُفْرَة من حفر النَّار"، وَقَالَ أَحْمد بن حَرْب- رَحمَه الله-: "تتعجب الأَرْض مِمَّن يمهد مضجعه، وَيُسَوِّي فرَاشه للنوم، تَقول: يَا ابْن آدم أَلا تذكر طول رقادك فِي جوفي؟ وَمَا بيني وَبَيْنك شَيْء".

 

وكَانَ جَعْفَر بن مُحَمَّد يَأْتِي الْقُبُور لَيْلًا وَيَقُول: "يَا أهل الْقُبُور مالكم إِذا دعوتكم لَا تُجِيبُونِي؟! ثمَّ يَقُول: حيل بَينهم وَالله وَبَين الْجَواب، وَكَأَنِّي أكون مثلهم، وَأدْخل فِي جُمْلَتهمْ"، ثمَّ يسْتَقْبل الْقبْلَة وَيُصلي حَتَّى يطلع الْفجْر. وعن مالك بن دينار قال: "خرجت أنا وحسان بن أبي سنان نزور المقابر، فلما أشرف عليها سبقته عبرته، ثم أقبل علي فقال: يا يحيى! هذه عساكر الموتى ينتظر بها من بقي من الأحياء، ثم يصاح بهم صيحة، فإذا هم قيام ينظرون، فوضع مالك يده على رأسه وجعل يبكي".

 

ويروى أَن رجلا دخل على عمر بن عبد الْعَزِيز-رَضِي الله عَنهُ- فَرَآهُ قد تغير لَونه من كَثْرَة الْعِبَادَة، واستحالت صفته، فَجعل يتعجب من تغير لَونه، فَقَالَ لَهُ عمر: "يَا ابْن أخي وَمَا تعجبك مني؟! فَكيف لَو رَأَيْتنِي بعد دُخُول قَبْرِي بِثَلَاث؟!، وَقد خرجت الحدقتان فسالتا على الْخَدين، وتقلصت الشفتان عَن الْأَسْنَان، وَخرج الصديد والدود من المناخر والفم، وانتفخ الْبَطن فعلا على الصَّدْر، وَخرج الصلب عَن الدبر، لرأيت إِذْ ذَاك مني أعجب مِمَّا رَأَيْت الْآن".

 

وشيّع عمر بن عبد الْعَزِيز جَنَازَة، فَلَمَّا انصرفوا، تَأَخّر عمر عَنْهَا وَأَصْحَابه، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت لم تَأَخَّرت عَنْهَا وتركتها؟ فَقَالَ: "نعم، ناداني الْقَبْر من خَلْفي، يَا عمر بن عبد الْعَزِيز ألم تَسْأَلنِي مَا صنعت بالأحبة؟ قلت: بلَى، قَالَ: خرقت الأكفان، ومزقت الْأَبدَان، ومصصت الدَّم، وأكلت اللَّحْم، أَلا تَسْأَلنِي مَا صنعت بالأوصال؟ قلت: بلَى، قَالَ نزعت الْكَفَّيْنِ من الكوعين، وَكَذَلِكَ الفخذين من الرُّكْبَتَيْنِ، والركبتين من السَّاقَيْن، والساقين من الْقَدَمَيْنِ".

 

ثمَّ بَكَى عمر وَقَالَ: "أَلا إِن الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيل، وعزيزها ذليل، وغنيها فَقير، شابها يهرم، وحيها يَمُوت، وَلَا يغركم إقبالها مَعَ معرفتكم بِسُرْعَة إدبارها، والمغرور من اغْترَّ بهَا، أَيْن سكانها الَّذين بنوا مرابعها؟ وشقوا أنهارها؟ وغرسوا أشجارها؟ وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يسيرَة، وغرتهم بصحبتهم، وغروا بنشاطهم فَرَكبُوا الْمعاصِي، إِنَّهُم كَانُوا وَالله فِي الدُّنْيَا مغبوطين بِالْمَالِ على كَثْرَة الْمَنْع عَلَيْهِ، محسودين على جمعه، مَا صنع التُّرَاب بأبدانهم؟ والرمل بأجسامهم؟ والديدان بعظامهم وأوصالهم؟ وَإِذا مَرَرْت فنادهم إِن كنت مناديا، وادعهم إِن كنت لَا بُد دَاعيا، وَمر بعسكرهم، وَانْظُر إِلَى تقَارب مَنَازِلهمْ، وسل غنيهم مَا بَقِي من غناهُ، وسل فقيرهم مَا بَقِي من فقره، وأسألهم عَن الألسن الَّتِي كَانُوا بهَا يَتَكَلَّمُونَ؟ وَعَن الْأَعْين الَّتِي كَانُوا بهَا ينظرُونَ؟ وسلهم عَن الْأَعْضَاء الرقيقة؟ وَالْوُجُوه الْحَسَنَة؟ والأجساد الناعمة؟ مَا صنعت بهَا الديدان؟، محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الْوُجُوه، ومحت المحاسن، وَكسرت الفقار، وأبانت الْأَعْضَاء، ومزقت الأشلاء، قد حيل بَينهم وَبَين الْعَمَل، وفارقوا الْأَحِبَّة.

 

فكم من ناعم وناعمة أَصبَحت وُجُوههم بالية، وأجسادهم من أَعْنَاقهم بَائِنَة، وأوصالهم متمزقة، وَقد سَالَتْ الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دَمًا وصديدا، ودبت دَوَاب الأَرْض فِي أجسامهم، وَتَفَرَّقَتْ أعضاؤهم، ثمَّ لم يَلْبَثُوا وَالله إِلَّا يَسِيرا، حَتَّى عَادَتْ الْعِظَام رميما، قد فارقوا الحدائق, فصاروا بعد السعَة إِلَى المضايق، قد تزوجت نِسَاؤُهُم، وترددت فِي الطّرق أبناؤهم، فَمنهمْ وَالله الموسع لَهُ فِي قَبره، الغض الناعم فِيهِ المتنعم بلذته.

 

فيا سَاكن الْقَبْر مَا الَّذِي غَرَّك فِي الدُّنْيَا؟! هَل تظن أَنَّك تبقى أَو تبقى لَك؟ أَيْن دَارك الفيحاء، ونهرك المطرد؟ وَأَيْنَ ثمرتك الْحَاضِر ينعها؟ وَأَيْنَ رقاق ثِيَابك؟ وَأَيْنَ كسوتك لصيفك وشتائك؟ هَيْهَات هَيْهَات، يَا مغمض الْوَالِد وَالْأَخ وغاسله، يَا مكفن الْمَيِّت وحامله، يَا مدليه فِي قَبره وراحل عَنهُ، لَيْت شعري كَيفَ نمت على خشونة الثرى؟! يَا لَيْت شعري بِأَيّ خديك بَدَأَ البلى؟! يَا مجاور الهلكى صرت فِي محلّة الْمَوْتَى، لَيْت شعري مَا الَّذِي يلقاني بِهِ ملك الْمَوْت عِنْد خروجي من الدُّنْيَا؟ وَمَا يأتيني بِهِ من رِسَالَة رَبِّي؟".

 

وَكَانَ يزِيد الرقاشِي- رَحمَه الله- يَقُول: "أَيهَا المقبور فِي حفرته، المستخلي فِي الْقَبْر بوحدته، المستأنس فِي بطن الأَرْض بِعَمَلِهِ، لَيْت شعري بِأَيّ أعمالك استبشرت؟ وَبِأَيِّ أحوالك اغتبطت؟". وَكَانَ الْحسن بن صَالح إِذا أشرف على الْقُبُور قَالَ: "مَا أحسن ظواهرك! إِنَّمَا الدَّوَاهِي فِي بواطنك"، وَكَانَ عَطاء السّلمِيّ إِذا جن اللَّيْل يخرج إِلَى الْقُبُور فَيَقُول: "يَا أهل الْقُبُور متم فواموتاه، وعاينتم أَعمالكُم فواعملاه".

 

نسأل الله حسن الخاتمة وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته.

 

يا عبد الله: أكثر من ذكر القبر والبلى والموت وما بعده، كي تقبل على الأعمال الصالحات وتكف عن الخطيئات، وَاعْلَم -رَحِمك الله- أَنه من نَصبَ عَيْنَيْهِ، وتفكر فِي الْمَيِّت وَمَا يؤول إِلَيْهِ، ثمَّ نظر فِيمَا يقدم بعد ذَلِك عَلَيْهِ، وَعلم أَن جِسْمه الغض، وبدنه اللين، سيطرح فِي حُفْرَة تقطع أوصاله، وَتغَير أَحْوَاله، ثمَّ يتَبَيَّن بعد ذَلِك مآله، وَيطْلب بِكُل مَا عمله وَقَالَهُ، لم يشغل بميت باله، وَلم يبك إِلَّا لنَفسِهِ لَا لَهُ.

 

قَالَ مَيْمُون بن مهْرَان -رَحمَه الله-: "خرجت مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى الْمَقَابِر، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا بَكَى ثمَّ قَالَ: وَأَقْبل عَليّ يَا مَيْمُون هَذِه قُبُور آبَائِي بني أُميَّة، كَأَن لم يشاركوا أهل الدُّنْيَا فِي لذاتهم، وَطيب عيشهم، أما تراهم صرعى؟ قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلى، وأصابت الْهَوَام فِي أجسامهم مقيلا"، وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ: "دخلت الْمَقَابِر، فَلَمَّا أردْت الْخُرُوج مِنْهَا، إِذا بِصَوْت يَقُول: يَا ثَابت لَا يغرنك صموت أَهلهَا، فكم من نفس معذبة فِيهَا".

 

وَاعْلَم- رَحِمك الله- أَن الشَّيْء الْمُمكن وجوده، لَا يُعرف مِقْدَاره على الْحَقِيقَة إِلَّا إِذا عُدِم وفُقِد، وَطُلب فَلم يُوجد، أَلا ترى- رَحِمك الله- أَن الصِّحَّة لَا يعرف مقدارها على الْحَقِيقَة إِلَّا المرضى، والعافية لَا يعرف مقدارها إِلَّا الْمُبْتَلى، فَكَذَلِك الْحَيَاة لَا يعرف مقدارها إِلَّا الْمَوْتَى؛ لأَنهم قد ظَهرت لَهُم الْأُمُور، وانكشفت لَهُم الْحَقَائِق، وتبدت لَهُم الْمنَازل، وَعَلمُوا مِقْدَار الْأَعْمَال الصَّالِحَة، إِذْ لَيْسَ ينْفع هُنَاكَ إِلَّا عمل صَالح زكي، وَلَا يرْتَفع هُنَاكَ إِلَّا عبد تَقِي.

 

فَلَمَّا استبان لَهُم ذَلِك، وَعَلمُوا مِقْدَار مَا ضيعوا، وَقِيمَة مَا فِيهِ فرطوا، ندموا وأسفوا، وودوا لَو أَنهم إِلَى الدُّنْيَا رجعُوا، وَإِلَى حالتهم الأولى ردوا، وكل على حَاله، فَالَّذِي عمل صَالحا، يود أَن لَو رَجَعَ إِلَى الدُّنْيَا فازداد من عمله الصَّالح، وَأكْثر من متجره الرابح، والمقصر يود لَو رد فاستدرك مَا فَاتَ، وَنظر فِيمَا فرط فِيهِ.

 

فالمفرط المهمل بِالْجُمْلَةِ، يكون تمنيه الرُّجُوع أَكثر، وحرصه على الْإِقَالَة أَشد، وكل يتَكَلَّم عَن حَاله، ويخبر عَمَّا هُوَ فِيهِ، حَتَّى قَالَ الشَّهِيد الَّذِي قتل فِي سَبِيل الله، لما قيل لَهُ مَا تشْتَهي؟ قَالَ: أُرِيد أَن أرجع إِلَى الدُّنْيَا، فأقاتل فأقتل مرّة أُخْرَى، [بمعناه في البخاري (2795)] وَذَلِكَ لما يرى من فضل الشَّهَادَة، وازدحام الْحور الْعين عَلَيْهِ حَال قَتله، وَقَالَ غَيره من المفرطين: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 - 100] وَيكثرون من الأماني ولا رجوع (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف:53].

 

أَلا ترى -رَحِمك الله- إِلَى ندمهم على تفريطهم، وتأسفهم على تضييعهم، ندموا وَالله حَيْثُ لَا ينفع النَّدَم، وطلبوا مَا لا يُمكن، فتُركوا على حَالهم، وَلم يسعفوا فِي سُؤَالهمْ، وَبَقِي كل وَاحِد مِنْهُم فِيمَا هُوَ فِيهِ، فَمن رأى قبرًا فَإِنَّمَا رأى واعظا يعظه، ومذكرا يذكرهُ، فَإِن كَانَ الْقَبْر ساكتًا، فَإِنَّهُ نَاطِق بِلِسَان الْحَال، ومفصح بِمَا يكون مِنْك فِي الْمَآل، فَكَأَنَّهُ إِنَّمَا يخاطبك إِنْسَان، وَيبين لَك عاقبتك وَيَقُول لَك: يَا هَذَا كنت حَيا مثلك وَقد مت، وَكَذَلِكَ أَنْت تَمُوت، فضيعت أَمر رَبِّي وندمت، وَكَذَلِكَ إِن ضيعت أَمر رَبك ستندم.

 

أيها الإخوة: إن السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ، والشقي من وعظ بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَاعَة وَاحِدَة، وَإِن طَال المدى، وامتد الْعُمر، واتصلت الْأَيَّام، يا هذا أين الذي جمعته من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال؟، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفراً، وبدلت من بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره؟ ويا من سلب من أهله ودياره؟.

 

ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد، إلى سفرك البعيد، وموقفك الصعب الشديد، أو ما علمت يا مغرور: أنه لا بد من الارتحال، إلى يوم شديد الأهوال، وليس ينفعك ثَم قيل ولا قال، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان، ما بطشت اليدان، ومشت القدمان، ونطق به اللسان، وعملت الجوارح والأركان، فإن رحمك فإلى الجنان، وإن كانت الأخرى فإلى النيران.

 

يا نائماً في غفلة، إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتزعم أن ستترك سدى، وأن لا تحاسب غداً، أم تحسب أن الموت يقبل الرشا، كلا؛ والله لن يدفع عنك الموت مال ولا بنون، ولا ينفع أهل القبور إلا العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى) [النجم:40:39].

 

فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمن منازل الأبرار، وأنت مقيم على الأوزار، بل أكثر من الأعمال الصالحات، وراقب الله في الخلوات، رب الأرض والسموات، ولا يغرنك الأمل، فتزهد عن العمل، أو ما سمعت الرسول حيث يقول، لما جلس على القبور: "يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا" [مسند أحمد (18624) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/345)].

 

فتذكروا رحمكم الله حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة -يا عباد الله-؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.

 

أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.

 

 

 

 

المرفقات

القبور

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات