عناصر الخطبة
1/ تأملات في حج النبي صلى الله عليه وسلم ومعاناته الأولى في الدعوة 2/ العدل والمساواة بين الناس في الحج 3/ معالم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة 4/ الحث على تذكر أيام الإسلام الأولى أثناء الحج.اقتباس
بدأت طلائع الحجيج وركائب الملبين تتوافد إلى البيت العتيق تحمل معها جيل الذكريات وكثير العبر والعظات. يا الله! كم في الحج من صبر وإخبات، وبكاء ودعوات، يمر الحجيج على الميقات ويأتون المزدلفة، ومنى وعرفات، يطوفون عند الركن والمقام، والحطيم وزمزم، ويسعون بين الصفا والمروة، وينحرون الهدي ويرمون الجمار وهم يذكرون يوم أن خطت هذه الأماكن أقدام الرسول يوم أتم الله الدين، وأزال الشرك والمشركين...
الخطبة الأولى:
بدأت طلائع الحجيج وركائب الملبين تتوافد إلى البيت العتيق تحمل معها جيل الذكريات وكثير العبر والعظات.
يا الله! كم في الحج من صبر وإخبات، وبكاء ودعوات، يمر الحجيج على الميقات ويأتون المزدلفة، ومنى وعرفات، يطوفون عند الركن والمقام، والحطيم وزمزم، ويسعون بين الصفا والمروة، وينحرون الهدي ويرمون الجمار وهم يذكرون يوم أن خطت هذه الأماكن أقدام الرسول يوم أتم الله الدين، وأزال الشرك والمشركين.
يقول جابر -رضي الله عنه- وهو يقصّ حجة الوداع: "فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرتُ مدّ بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والمُلك لا شريك لك".
الله أكبر قبل سنوات كان يدور على الناس في الحج يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟".
قبل سنوات لم يجد من يسمع له في مكة، فخرج بدعوته إلى الطائف فسبّوه وضربوه حتى سال الدم من عقبيه الشريفين، فجلس وأسند ظهره إلى حائط وهو يقول: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك أو عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
قبل سنوات خرج من مكة طريداً يكفكف دمعه، واليوم يرجع إلى مكة والناس بين يديه مد البصر، وفي هذا سلوان لكل داعية ومصلح بأن العاقبة حميدة، وأن بعد الضعف قوة، وبعد الخوف أمنًا، وأن الظالم له يوم (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم: 5].
وفي الحج يجتمع الحجيج، وهم يذكرون يوم حج نبينا -عليه الصلاة والسلام- وقد جمع الناس على لا إله إلا الله بعد أن فرقتهم الأهواء (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [آل عمران: 104] .
يجتمع الحجيج على لا إله إلا الله كما اجتمع أسلافهم، كأنما يقولون للعالم نحن أبناء الملة الواحدة، نحن أبناء الجسد الواحد، نحن أبناء البناء الشاهق العظيم الذي بناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصبره وجهاده، بدمه ودموعه يجتمعون في مكان واحد من كل فج عميق وقد جمعتهم لا إله إلا الله، لم تجمعهم دولة يعيشون على ثراها، ولم تجمعهم قبيلة ينتسبون إليها، ولم تجمعهم دنيا يحرصون عليها.
وفي الحج يجتمع الحجيج وهم يذكرون نبيهم -عليه الصلاة والسلام- وقد وقف مع الناس وسار مع الناس لم يميز نفسه بشيء، ولم يستأثر بشيء، بل لما قالوا له: ألا نبني لك بيتاً بمنى يظلك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا، منى مناخ من سبق"، وهو أفضل وأشرف من خلق الله، وهو صاحب الحوض المورود والمقام المحمود.
وقف ووقف معه بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وقف ووقف بجانبه الأحمر والأسود، والغني والفقير، والصغير والكبير، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع.
فلا طبقية ولا عنصرية ولا قبلية، ولا مناطقية ولا حزبية، فهذا رسول الله الذي جاء بالعدل والمساواة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
أما الغرب فكلام جميل وفعل قبيح؛ يدّعون المساواة بين الناس ثم يرون أنهم فوق الخلق يسمونهم الدول النامية ودول العالم الثالث الدول المتخلفة يعيشون باستعلاء واستكبار على الضعفاء؛ ينهبون أموالهم، ويأكلون خيراتهم، تتحرك منظماتهم وينشط إعلامهم، ويشتد غضبهم لمقتل كافر في أقصى الدنيا، ويرقصون فرحاً وطرباً لمقتل الآلاف من المسلمين فأين المساواة؟!
إن الغرب يمارس أبشع صور التمييز بين البشر أمام العالم، لكن العجب أن هناك من لا يزال مخدوعاً بهم.
وفي الحج يتذكر الحجيج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خطب الناس في حجة الوداع خطبةً عظّم فيها حرمة دم المسلم وماله وعِرضه، فليس لأحد أن يعتدي على دمه أو ماله أو عرضه مهما بلغت مكانته إلا بسلطان الشرع.
فقال: "إن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، كأنه بيننا اليوم يرى المسلم يقتل المسلم وهو يتقرب إلى الله بدمه في صراع لا يخدم إلا أعداء الإسلام ويقوي شوكتهم.
وأوصى -عليه الصلاة والسلام- بالنساء خيراً فقال: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم"، أي: أسيرات في يد الرجل، فلا تظلموهن وأطعموهن مما تأكلون وألبسوهن مما تلبسون ومن عدّد منكم فليعدل، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، ولا تأخذوا من مالِهن بغير إذنهن، واحفظوا فيهن وصية رسولكم الكريم -عليه الصلاة والسلام-.
وقد وضع -عليه الصلاة السلام– الجاهلية ودم الجاهلية في خطبة بليغة أعلن فيها حقوق الإنسان في دولة الإسلام التي لن يأتي لها في التاريخ مثيل.
وفي الحج يتذكرون الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهو يسير في تلك البقاع الطاهرة يدور على القبائل يدعوهم إلى لا إله إلا الله. يتذكرونه وهو يدعو الكون بشعوبه وأجياله ودوله إلى الله؛ (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) [الانشقاق: 20- 21].
عباد الله... إن الحج بما فيه من مظاهر عظيمة يحمل رسالة للعالم أجمع، إن هذا الدين دين عدل ورحمة دين دنيا وأخرى؛ إنه الدين الذي اختاره الله للعالمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا معاشر المسلمين: في الحج يقف الحجيج بعرفة يتذكرون أن الله أتم دينه في هذا المكان ففي عرفة نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة: 3].
قال يهودي لعمر -رضي الله عنه-: آية في كتاب الله لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...)، فقال عمر -رضي الله عنه-: "إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها؛ نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية عرفة، لكن عمر لم يتخذ ذلك اليوم عيداً، ولم يجعل له ميزة على باقي الأيام؛ لأن إمامه وقدوته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتخذه عيداً فهو يسير على خطاه؛ ولأن عمر يعرف أنه لا عيد في الإسلام إلا الفطر والأضحى.
عباد الله: من يسر الله له الحج منكم فليستحضر تلك الذكريات وهو يؤدي المناسك.
سيروا بأقدامكم مع الحجيج، وارحلوا بقلوبكم إلى الماضي البعيد يوم حج الرسول حجة الوداع، ثم استشهد ربه على الناس أنه بلّغ الرسالة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة رفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات.
ونحن نشهد أنه بلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وقضى ما عليه صلوات ربي وسلامه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم