ذاكرة الحج

توفيق الصائغ

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ مكة مأوى أفئدة القادمين من كل مكان 2/ سرد تاريخي لقصة إبراهيم الخليل والذبيح إسماعيل عليهما السلام 3/ دروس وعبر من قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام 4/ إن الله لا يضيع أهله 5/ ذكريات الأنبياء الذين طافوا بالبيت وعمروه.

اقتباس

عرفتم السر الآن في هدير الطائرات، أعرفتم السر الآن في تقطُّع الأكباد دون هذا البيت، إنه نداء إبراهيم الخالد الذي ردد صداه كل ناطق وصامت، الذي ردد صداه الجبال، وبلّغه الله -سبحانه وتعالى- وسيبلغه إلى آخر نسمة تكون في الأرض، فجاء الملبون من كل مكان "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلوا عليه وآله اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه وعلى آله وصحابته وعترته.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: ما الذي يحدث في جدة أيها الإخوة؟ ألستم تسمعون أزيز الطائرات؟! سرب الطائرات يتبع بعضها بعضًا، ميناء جدة الجوي لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، ها هي ذي الطائرات تمخر عباب الهواء، وتطير في جو السماء لتحط الطائرة تلو أختها في ميناء جدة الجوي.

 

الأمر ليس ببعيد في مينائها البحري ها هي ذا المنشآت في البحر كالأعلام، هدير يملأ الجو والبحر ويملأ البر قد جاء الناس من كل مكان جاءوا يمخرون عباب الماء، ويطيرون في جو السماء، جاءوا رجالاً وركبانًا وعلى كل ضامر.

 

هذا الهدير وذلك الضجيج يزينه ضجيج الحجيج يملئون به الكون: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، ولا عجب:

إذا برقت نحو الحجازِ سحابةٌ *** دعا الشوقَ مني برقُها المتيامنُ

 

إنها البلد التي أراد الله -عز وجل- أن تكون مأوى أفئدة القادمين من كل مكان (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)[البقرة: 125]، إنهم يأتون على جناح من الشوق وجناح من اللهفة.

 

خذوني خذوني إلى المسجد *** خذوني إلى الحجر الأسود

خذوني إلى زمزم علَّها *** تبرد من جوفيَ الموقد

دعوني أحط على بابه *** ثقال الدموع وأستنفد

فإن أحيا أحيا على لطفه *** وإن يأتني الموت أستشهد

 

لا عجب، ولا غرابة (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة: 125]، لا عجب أن تنعقد ضمائرنا وقلوبنا بمحبة الحجاز؛ حيث الإيمان يرفرف بجناحيه هنا، الإيمان والسكينة في الحجاز وغلظ القلوب والجفاف في أهل المشرق، لا عجب؛ لأن مكة وسط الدنيا وقبلة العالم.

 

مَحَاسِنُهُ هُيُوْلَى كُلِّ حُسْنٍ *** وَمِغْنَاطِيْس أَفْئِدَةِ الْرِّجَاْل

هنا بمكة آي الله قد نزلت *** هنا تربى رسول الله خير نبي  

هنا الصحابة عاشوا يصنعون لنا *** مجدًا فريدًا على الأيام لم يشُبِ

 

بلاد حباها الله واصطفاها واختارها من بين سائر البلدان هؤلاء الذين مخروا عباب الماء، وطاروا في جو السماء وبذلوا الدرهم والنفس والنفيس لماذا لم يستبدلوا بالوادي غير ذي الزرع لماذا لم يستبدلوا به بساط أخضر في أوروبا؟ لماذا لم يستبدلوا به بلادًا مطيرة لا يهدأ عنها المطر؟ لماذا لم يستبدلوا بهذا الجو الحار بلادًا ترفرفها السحاب، يظللها الغمام؟!

 

لأن تلك متعة دنيوية وهذه متعة أخروية روحية تعلقت بها النفس وتعلق بها الفؤاد.

بلاد بها الرحمن ألقى ضياءه *** على لابتيها والعوالم غيهب

إذا نسَب الناسُ البلادَ رأيتَها *** إلى جنة الفردوس تُعزَى وتُنسَب

وإن نَضَبت أنهارها فبحسبها *** من الدين نهر للهدى ليس ينضُب

تفجَّرَ من نبع النبوة ماؤه *** له الحق وِرد والسماحة مشرب

 

دعونا نسير في هذه البلاد منذ أن لم تكن شيئًا، منذ أن جاء إليها الخليل إبراهيم -عليه وعلى نبينا أذكى الصلاة والسلام- إبراهيم -عليه السلام- جالد قومه ونجاه الله من النار بعد أن طوى هذه المرحلة، جاء إبراهيم الشيخ الكبير الذي مكث سنوات دهره وعمره يسأل الله الولد كما يسأله كل عقيم دبر كل صلاة وعقب كل طاعة تعلقت نفسه بالولد وقد شاب مفرقه ووهن عظمه ولم يتذوق من الدنيا أحلى حلاوتها، ولد يناديه يا أبتِ، يدعو الله طويلا (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران: 38].

 

جاء الحبيب على فاقة وبشّره الله بغلام عليم وآخر حليم، فرزقه الله إسماعيل على الكبر من هاجر -عليها وعلى ابنها السلام وعلى نبينا أذكاها وأوفاه-.

 

جاء إبراهيم تاركًا بلاد الشام معه هاجر وإسماعيل، وإسماعيل يوم ذاك طفل رضيع يقوده إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأمر شاءه الله -عز وجل-، لمكان أراده الله -عز وجل- هدى الله إليه إبراهيم فجاء إبراهيم وليس معه من زاد الدنيا إلا جراب فيه تمر قليل وسقاء فيه ماء يسير.

 

في وادٍ غير ذي زرع على غير تحديد بإحداثيات ولا بخرائط إلا أن الله هداه إلى ذلك المكان ترك إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر ورضيعها إسماعيل، ثم ولى راجعا صوب الشام، تبعته هاجر، أضناها السير وإبراهيم يطوي المراحل: يا إبراهيم، يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟!

 

 إبراهيم لا يجيبها، لأنك أيها العبد متى ما أمرك الله -عز وجل- فإنه لا ينبغي لك ولا يحل أن تلتفت إلى أي داعي آخر مهما كان هذا الداعي قريبا أو حبيبا، أو حتى لو كانت نفسك التي بين جنبك، لا بد أن يقدّم داعي الله -تبارك وتعالى-.

 

يا إبراهيم .. وإبراهيم لا يلتفت، قالت له بعد ذلك يا إبراهيم ألله أمرك أن تتركنا هنا، فأومأ برأسه أي نعم، فرجعت إلى رضيعها، وإبراهيم ذهب ومشى في طريقه.

 

يا لله، وادي غير ذي زرع عند البيت المحرم ليس فيه أنيس ولا جليس ولا فيه ناطق ولا صامت ولا أمن غذائي وليس فيه عزوة ولا ناس، لكنه أمر الله.

 

ترك إبراهيم هاجر ورضيعها، فلما بلغ إلى الثنية حيث لا يراه أحد تفطر قلب إبراهيم استقبل بوجهه البيت ورفع يديه (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].

 

ثم مضى في طريقه إبراهيم، هاجر التفتت إلى جراب التمر أكلت شيئًا قليلاً من ذلك التمر وشربت من السقاء ماء ثم أرضعت وليدها، ولم تلبث مليًّا حتى انتهى ما في الجراب وذهب ما في السقاء، عطشت هاجر وعش رضيعها.

 

إن رضيعها بلغ به العطش مبلغًا صوّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بصورة عجيبة كان إسماعيل يتلبط أي: يتقلب على ظهره وبطنه من شدة العطش كالذي ينازع من شدة العطش.

 

ماذا تصنع أم منقطعة في وادي لا زرع فيه ولا ضرع وولدها يتضاغى من الجوع بين يديها وكأن نفسه تذهب وتتفلت بين يديها ما كان منها إلا أن ذهبت بعيدًا لتختفي عن ذلك المنظر وعن ذلك المشهد الذي تهب له الفلذات، تذهب له الأكباد وتتقطع.

 

ذهبت إلى الصفا وهو أقرب جبل مما يليها، قامت عليه تلتفت يمنة ويسرة ثم نزلت واستقبلت الوادي وكان وادي عميق، فلما بلغت غايته رفعت ذرعها وسعت سعيًا شديدًا سعي المجهود حتى بلغت عند المروة فصعدت عند المروة تلفتت يمينا ويسارا، يقول ابن عباس: "فذلك سعي الناس اليوم"، بينما هي كذلك سمعت صوتا قالت لنفسها: صه، تسكت نفسها علها تسمع شيئا، فإذا بها الملك جبريل -عليه السلام- عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء..

 

يا لله .. آنست الحياة بعد أن أيقنت الوفاة، ألم يقص علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قصة الرجل الذي يمثل النبي فرح الله بتوبة عبده بفرح ذلك الرجل الذي ذهبت دابته وعليها سقاؤه وطعامه فأيقن الهلكة، واستظل تحت ظل الشجرة، ثم ما لبث مليا، وإذا بالخطام على يديه، ماذا قال من شدة الفرح؟ قال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" قال -صلى الله عليه وسلم-: "أخطأ من شدة الفرح".

 

ما عسى هاجر أن تقول؟ وما عسى أن تخطأ وهي ترى الحياة تنبعث من جديد (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ) [الأنبياء: 30].

 

زمت هذا الماء، حوّضت هذا الماء حتى قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عينًا معينًا".

 

شربت هاجر، أرضعت وليدها، دبت الحياة في الوادي غير ذي الزرع لأمر يشاءه الله -عز وجل- بقصة بدأت تحاك فصولها الأولى، شربت هاجر، شرب وليدها، حام الطير حول هذا الماء، رأت قبيلة جرهم الذي كانت تمر بكداء، رأت حومان هذا الطير الذي ينبئ عن وجود حياة في ذلك المكان أرسلوا رسولهم، فإذا بالمكان امرأة ورضيعها وعندهم ماء جاءوا يستأذنون المرأة على الماء، فأذنت لهم في المقام، ولكن قالت لهم: لا حق لكم في الماء.

 

دبّت الحياة وضع الناس رحالهم بزمزم، جاءت جرهم تعلم عليهم إسماعيل العربية، شب إسماعيل -عليه السلام- بلغ مبالغ الرجال، تزوج من جرهم وماتت أمه هاجر؛ لأنها سلمت الأمانة؛ لأنها حفظت إبراهيم في ولده، لأنها أدت بكل تسليم ويقين وتوكل مراد الله -عز وجل- وما كان الله -عز وجل- ليضيعها؛ لأن الملك حين زمّ الماء من تحت يده أو من تحت جناحه قال لها: "إن ها هنا بيتًا يبنيه الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع ساكنيه".

 

تزوج إسماعيل من هذه القبيلة التي تكاثرت، ونمت حول الماء حتى أصبحت مكة مدينة، تزوج إسماعيل وجاء أبوه إبراهيم ليزوره فلم يجده ووجد امرأته فسأل عن إسماعيل وعيشهم، قالت زوجته: "خرج يبتغي لنا" أي: خرج ليصطاد، فسأل عن عيشهم، قالت المرأة: "نحن بشدة، نحن في ضيق وشدة"، قال إبراهيم: "فإذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له يغيّر عتبة بابه".

 

جاء إسماعيل إلى زوجته يشتم رائحة أبيه، ويقتفي أثره، قال: "أكان عندنا ضيف؟" قالت: "نعم جاء شيخ صفته كذا وكذا يقرئك السلام، يسأل عن عيشنا وعن طعامنا، ثم قال لي: قولي له يغيّر عتبة بابه".

 

ما كان من إسماعيل المطيع الذي شرب لبن الطاعة من أمه هاجر، إلا أن قال لها في التو واللحظة: "ذاك أبي يأمرني أن أفارقك، اذهبي فالحقي بأهلك".

 

إبراهيم كان يتفقد إسماعيل بين الفينة والفينة فيأتي لزيارته، جاء بعد مدة أيضًا فإذا بإسماعيل غير موجود بالبيت سأل زوجه عن حاله وعن معاشه، قال: "ما طعامكم؟"، قالت: "اللحم" قال: "ما شرابكم؟" قالت: "الماء"، قال إبراهيم: "اللهم بارك لهم في اللحم والماء"، حتى قال بعض أهل العلم: "لا يجتمع اللحم والماء في مكة فيضران أحدًا بدعوة إبراهيم".

 

ثم لما سأل عن العيش وذكرت له من حسن الحال أمرها أن تقرأ إسماعيل -عليه السلام-، وأن تأمره أن يثبّت عتبة بابه.

 

لم تنتهِ القصة جاء إبراهيم في زيارة ووجد إسماعيل على دوحة عند زمزم يبري نباله، قال له: "وقد صنع معه ما يصنع الوالد مع ولده من اللقاء والمعانقة والمصافحة، قال له: يا بني إن الله يأمرني أن أبني له بيتا هنا" أيّ شرف سيناله إسماعيل، وأيّ مكرمة ومنقبة سيحوزها إبراهيم؟!

 

قال إسماعيل: "اصنع ما أمرك ربك"، قال إبراهيم: "وتعينني؟" قال إسماعيل: "وأعينك"، فأخذ في بناء البيت، إسماعيل يناول، وإبراهيم يزاول، حتى إذا بلغ البيت تمامه، قال إبراهيم لإسماعيل: "ابغني حجرًا لأتمم البناء".

 

انطلق إسماعيل فلما عاد وجد حجرًا ليس من جنس الحجارة، قال إسماعيل: "من الذي جاءك بهذا الحجر؟" قال إبراهيم: "جاءني به مَن لم يعتمد على بنائي وبنائك؛ جاءني به جبريل من السماء".

 

جاء جبريل يعلّم إبراهيم المناسك، ثم جاء الأمر من الله لإبراهيم -عليه السلام-، أذن في الناس بالحج، قال إبراهيم: "يا ربي وما يبلغ صوتي؟!"، ما عسى صوتي أن يبلغ؟!، مدى صوتي لا يصل إلى آخر جرهم!

 

قال الله: "يا إبراهيم عليك النداء وعلينا البلاغ"، صعد إبراهيم -عليه السلام- على جبل قبيس وقيل على مقامه ثم أخذ ينادي "يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق"، فبلّغ الله -سبحانه وتعالى- صوت إبراهيم إلى النُّطَف في الأصلاب وإلى الأجنة في الأرحام وإلى الغيب في عالم الغيب (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].

 

عرفتم السر الآن في هدير الطائرات، أعرفتم السر الآن في تقطُّع الأكباد دون هذا البيت، إنه نداء إبراهيم الخالد الذي ردد صداه كل ناطق وصامت، الذي ردد صداه الجبال، وبلّغه الله  -سبحانه وتعالى- وسيبلغه إلى آخر نسمة تكون في الأرض، فجاء الملبون من كل مكان "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، يا طوبى للمستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه ..

 

في كل عام في كل مرة نفد فيها إلى البيت العتيق نتذكر ذكريات محمد -صلى الله عليه وسلم-، ذكريات إبراهيم وإسماعيل، ذكريات موسى ويونس، ذكريات الأنبياء الذين وقفوا والذين طافوا والذين عمروا البيت، ذكريات الأنبياء والرسل الذين ضجَّ بهم وادي منى وتطوعت بهم عرفات.

 

نعم ستبقى ذكريات خالدة، وهل السعي بين الصفا والمروة إلا تجديد للأذهان في تضحية هاجر وإسماعيل وفي صدق التوكل وكمال اليقين؟! هل الطواف بالبيت ورمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-؟!

 

لكن قمة التضحيات لا تقف عند هذا الحد، نعم لا تقف عند هذا الحد، يأتي البلاء المبين لإبراهيم بالأمر بذبح إسماعيل الذي جاءه على طول انتظار.

 

يا أيها الآباء : ما منزلة فلذات الأكباد منكم؟!

إننا نقدم فلذات أكبادنا على أنفسنا، إننا لعمرو الله لننتزع اللقمة من أفواهنا أشهى ما تكون إلى أنفسنا، أحوج ما نكون إليها لنقدمها طيبة بها نفوسنا إلى أبنائنا وفلذات أكبادنا.

 

إن أحدًا في الدنيا لا يتمنى أن يكون أحد خيرا منه أو أحسن منه أو أغنى منه أو أرفع منه إلا فلذة كبده، وكذلكم كان إبراهيم ليس بدعًا من الآباء.

 

ما هو موقفك أيها الأب حين ترتفع درجة حرارة ابنك ليلة ليلاء؟ إنك تضطرب وتستنفر وتذهب به عَجِلاً إلى المستشفى وتود لو افتديت نفسه بنفسك، هكذا الآباء وهكذا يكون البلاء.

 

نام إبراهيم قرير العين واستيقظ على رؤيا أرّقت منامه ..

فاضت بالعبرة عيناه *** أضناه الحلم وأشقاه

شيخ تتمزق مهجته *** تتندى بالدمع لحاه

 

ماذا رأى إبراهيم؟ رأى أنه يذبح إسماعيل، أي: رأى أنه يُؤمر بذبح إسماعيل، ولو كان المراد رؤيته أنه يقيم مراسم الذبح لكان إسماعيل ذبيحًا لإبراهيم، لكنه أمر لإبراهيم بذبح ابنه.

 

أخذ إسماعيل بيديه وقال له: يا بني إني أريد أن أقرّب قربانا، وفي الطريق قال له:

وأُمرتُ بذبحك يا ولدي *** فانظر في الأمر وعقباه

ويجيب الابن بلا فزع *** افعل ما تُؤمر أبتاه

لن أعصي لله أمراً *** من يعصي يوماً مولاه؟

بلغا في السعي نهايته *** والشيخ يكابد بلواه

لكن الرؤيا لنبي *** صدق وقرار يلقاه

أرأيتم قلبا أبويا *** يتقبل أمرا يأباه؟!

أرأيتم ابنا يتلقى *** أمرا بالذبح ويرضاه؟!

أمراً عجيب إن هذا لهو البلاء المبين.

 

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102]، قال عجلاً ولم يتريث ولم يتردد ولم يفكر، ولم يبحث في الحيل الشرعية: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].

 

لكن لي إليك حاجة يا أبتِ، قال له: "يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثوبك حتى لا يتلطخ من دمي، فتراه أمي فتحزن، وأسرع مَرّ السكين على حلقي؛ ليكون أهون للموت عليَّ، فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني".

 

أقبل إبراهيم -عليه السلام- وقد حد شفرته وأناخ ذبيحته، والكون كله ينتظر هذه الذبحة، ساعة الصفر.

وتهز الكون ضراعات *** ودعاء يقبله الله

تتوسل للملأ الأعلى *** أرض وجبال ومياه

ويقول الحق ورحمته *** صدقت في فضل عطاياه

صدقت الرؤيا لا تحزن *** يا إبراهيم فديناه

 

(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات:107].

إنها قصة التضحية ذاتها، تتفاوت المواقف لكنها التضحية ذاتها التي يقدمها الحاج فيأتي من أقصى المغرب تاركاً أهله وتاركا ماله وتاركا حاله، أنا لا أتحدث عن الحج العام الماضي أو الحالي، لا، أتحدث عن الحج في القرن الأول حين كان الحاج يخرج وهو على يقين هلكة، لكنه يلبّي نداء الله يترك أهله وماله وهو يقول "إذاً لا يضيعنا الله".

 

هي التضحية ذاتها، تختلف درجاتها ومراتبهم درجات عند الله، لكن القصة تتكرر ويتنوع حوارها.

 

اللهم اغفر لنا ذنوبنا ..

 

 

المرفقات

الحج

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات