دخول عام جديد

محمد بن إبراهيم النعيم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أحوال الناس مع رحيل عام ومجيء آخر 2/ الحث على العمل الصالح والمسارعة في الخيرات 3/ خطورة الغفلة عن الآخرة 4/ الاعتبار بتعاقب الأيام والشهور 5/ متى تطوى صحائف الأعمال؟ 6/ أخطاء الناس في نهاية العام الهجري 7/ حكم الاحتفال برأس السنة الهجرية

اقتباس

العاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده. فكلنا نطوي الليالي والأيام ونسير فيها سيرًا حثيثًا، ونغفل أننا بذلك نبتعد عن الدنيا ونقترب من الآخرة، وإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. فاستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هاذم اللذات...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله..

 

أيها الإخوة في الله: سنودع بعد أيام عامًا ونستقبل عامًا. سنودع عامًا لن يعود، سيطوى بساطه، وتقوض خيامه، قد حوى بين جنبيه حِكماً وعبراً، وأحداثاً وعظات، سَعُد فيه أُناس؟ وحزن فيه آخرون، كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، كم من مريض قد تعافى، وسليم في التراب قد توارى، كم من أهل بيت شيعوا ميتهم، وآخرون زفوا عروسهم، بيوت تفرح بمولود، وأخرى تُعزى بمفقود، عام كامل مضت أيامه على بعضنا كالأعوام، وعلى البعض الآخر كالأيام.

 

أيها الأخوة في الله: تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح، ومنهم من يحزن، ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً. فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأن ذلك يقرّب من موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر، ومن قبل ذلك كانت تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها.

 

وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها حتى يستفيد من ريعها وأرباحها. وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية: إلى غير ذلك من المقاصد.

 

والعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده. فكلنا نطوي الليالي والأيام ونسير فيها سيرًا حثيثًا، ونغفل أننا بذلك نبتعد عن الدنيا ونقترب من الآخرة.

 

إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخسران في العمـل

 

إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، وإن سيرنا فيهما يباعدنا من دار العمل ويقربنا من دار الجزاء. قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".

 

نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل

ترحَّل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمرك أيـام وهن قلائل

 

فانظر في صحائف أيامك التي خلت، ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واختلِ بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن، وأين مشت هذه القدم، وماذا بطشت هذه اليد، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وأن تحاسبها، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].

 

فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات.

 

فالليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "يا ابنَ آدم! إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك".

 

فلنكن من أبناء الآخرة، ولا نكن من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. فاستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجأكم هاذم اللذات، روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (أخرجه الحاكم).

 

إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لا يتجهز ليوم المعاد، يؤمل أن يعمر عمر نوح.

 

ثم اعلموا أن تعاقب الأيام والشهور على العبد قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحدّ ذاته، فإن طال عمر العبدِ ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حُجَج الله –تعالى- عليه. فقد جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ" (رواه الترمذي).

 

لذلك ينبغي للمسلم أن يقف مع نفسه ويحاسبها محاسبة جادة قبل أن تحاسب، قال عمر بن الخطاب: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر"، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18].

 

فلنأخذ أنفسنا بالجد، ولنحافظ على أوقاتنا فلا نصرف وقتاً كثيراً في أمر حقير، ولنعلِّم أولادنا الانتفاع بأوقاتهم وحسن تنظيمها وتوزيعها؛ فإن الواجبات أكثر من الأوقات، وما مات أحد انتهى من شغله فلنسدد ولنقارب، وبالحفاظ على الوقت ترتقي الأمم.

 

وأعيذكم بالله ونفسي من حال الظالمين الذين لا ينتفعون بأعمارهم وأوقاتهم يحكي القرآن قصتهم وحالهم فيقول: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون: 99- 104].

 

أسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أعمارنا وفي أوقاتنا، وأن يجعل السنة القادمة سنة خير علينا وعلى الأمة الإسلامية قاطبة.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام، المتنزه عن النقائض ومشابهة الأنام.

 

 وأشهد أن لا اله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأوهام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الدوام، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله –تعالى- حق التقوى، واعلموا أنه انتشر عند بعض الناس اعتقاد بأن صحائف الأعمال تطوى نهاية العام، والصواب أنها تطوى بموت الإنسان، وتعرض يوم القيامة، وما يقال بأن الأعمال ترفع في نهاية العام مخالف لما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه في شهر شعبان ترفع فيه الأعمال إلى الله، الرفع الحولي، أما العرض الأسبوعي للأعمال ففي يومي الاثنين والخميس، فيغفر للمسلمين إلا للمتخاصمين، وأما الرفع اليومي ففي صلاتي الفجر والعصر.

 

وما يقال بأن صحائف الأعمال تعرض في شهر محرم يجاب بأن التاريخ الهجري لم يتخذ إلا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة 17هـ، لذلك لا يجوز الاحتفال بما يسمى برأس السنة الهجرية؛ فذلك بدعة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

 

 ولذلك يخطئ البعض حين يشرع يقترح لغيره بأن يصوم آخر يوم في العام وأول يوم في العام الجديد ليختم بزعمه عامه بصيام ويبتدئ عامه الجديد بصيام، لأنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الصحابة -رضوان الله عليهم- فعلوا ذلك.

 

نعم! لقد رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- بصيام شهر الله محرم وذكر بأنه أفضل الصيام بعد رمضان، ولكن ليس لأنه أول شهر في العام لأنه كما قلنا بأن التاريخ الهجري لم يتخذ إلا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

 

ومن أخطاء الناس في نهاية العام ما ينتشر من رسائل عبر شبكات الاتصال الاجتماعي كالواتس أب والتويتر بطلب العفو والصفح؛ فهذا أمر لا ينبغي قصره على نهاية العام وكأن المرء يودع الحياة، بل المشروع طلب العفو دائمًا.

 

اللهم اجعل يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من حاضرنا.

 

 

المرفقات

عام جديد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات