عناصر الخطبة
1/ الغاية من خلق الناس 2/ إعلام الناس بأن الدنيا مَعْبَرٌ لمسْتَقَرِّهِمْ بالآخرة 3/ التحذير من الركون للدنيا 4/ أمثالٌ نبَويةٌ تبيِّن حقيقة الدنيا 5/ حاجتنا لصحوة القلوباقتباس
ويا عجبًا لأمر الإنسان! يعرف حقيقة الدنيا، ويدرك مآلها، ويوقن بزوالها، وأنها لا تصدق لصاحب، ولا تصفو لشارب، ولا تدوم لراغب، ولا يؤمن مكرُها، ومع ذلك يتعلق بأذيالها، ويلوذ بحبالها، ويسكر بخمرها، ويتفانى في جمع حطامها! ويصل به الحد إلى الظن أنه خالد فيها، مالك لزمامها، مقيم في نعيمها؛ مع أنه يرى العبر، ويشاهد الأحداث، ويسمع المواعظ؛ ولكنه العمى والضلال، والعياذ بالله!.
خلق الله -جلَّ وعلا- الإنس والجن لعبادته، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وجعل -تعالى- الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار، وجعلها دار مرور إلى الآخرة.
الله -عز وجل- أوجد الدنيا والآخرة، لكنه رضي لعباده الآخرة، ولم يتركهم في الدنيا هملًا، أو يدعهم سدى، يهيمون فيها، ويتخبطون في أرجائها، دون هداية وعناية، وتبصير وتنوير، وإرشاد وتذكير، ونصح وتوجيه؛ بل اقتضت حكمته ولطفه أن يرسل لهم الرسل، وينزل عليهم الكتب، يبينون لهم المحجة، ويقيمون عليهم الحجة، ويشرحون لهم طريق النجاة، ويدلونهم على الصراط المستقيم، ويدعونهم إلى عبادة الله وتوحيده، وطاعته وإجلاله، وجنته ورضوانه.
ويحذرونهم من غضبه وبأسه، ومعصيته وسخطه؛ ويبينون لهم حقيقة دنياهم، وأنها دار مرور وعبور، وامتحان وابتلاء، وزوال وفناء، لا تدوم لأحد، ولا تصفو لبشر، وليست بمستقر دائم، ومقام أبدي، وإنما الدار الحقيقية هي الدار الآخرة، وإن منازل الناس فيها بحسب أعمالهم في الدنيا، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر:39-40].
فمن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها، وعمل فيها بطاعة الله، ومضى على منهاج الخالق، واتَّبع الرسل، ولزم الهدى، ورضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، فإن جزاءه أن يجعل الله تعالى مآله إلى جنان الخلد، وأفنان النعيم، ودار الرضوان، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة:21-24].
وأما من تنكَّر للدين، وتمرد على الخالق، وحاد عن الصراط، وخالف المنهج، وغرته الحياة الدنيا، ورضي بها عن الآخرة، وتعلق بها قلبه، ومالت إليها نفسه، وركنت إليها مشاعره، وكان تفكيره فيها، وهواه لها، وحياته لأجلها؛ غرَّهُ بريقُها، واستهواه بهرجها، وفتنَته زينتها، فيكون مآله للجحيم، ومصيره للعذاب، وجزاؤه الحرمان من الفضل العظيم، والنعيم المقيم.
ويا عجبًا لأمر الإنسان! يعرف حقيقة الدنيا، ويدرك مآلها، ويوقن بزوالها، وأنها لا تصدق لصاحب، ولا تصفو لشارب، ولا تدوم لراغب، ولا يؤمن مكرُها، ومع ذلك يتعلق بأذيالها، ويلوذ بحبالها، ويسكر بخمرها، ويتفانى في جمع حطامها، ويصل به الحد إلى الظن أنه خالد فيها، مالك لزمامها، مقيم في نعيمها، مع أنه يرى العبر، ويشاهد الأحداث، ويسمع المواعظ؛ ولكنه العمى والضلال، والعياذ بالله!.
إن الله -جل وعلا- الذي خلق الحياة الدنيا وأوجدها، وحذَّر عباده منها، ونهاهم عن الركون إليها، والإخلاد لبريقها، ودعاهم إلى اغتنامها لطاعته، وعمرانها بعبادته، وتزيينها بإقامة منهجه؛ وبيَّن أنها دار مرور وعبور؛ أوجدهم فيها ليمحِّص إيمانهم، ويبلو صبرهم، ويمتحن يقينهم، بعد أن أقام الدليل وهداهم السبيل، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى:20]، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-41].
وقد بين -تعالى- أن كثيرًا من الناس تفرحهم الدنيا وتستهويهم، مع أن الآخرة هي الأفضل، وهي الخير لهم، وهي الأدوم والأبقى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى:16-17].
إن نظرة واحدة إلى أحوال الناس اليوم، بل إلى أحوال المسلمين منهم، لَتورث العجب العجاب من تهافت على الدنيا، وانكباب على ملذاتها، وانغماس في لهوها، وانخداع ببهرجها، وتنافس في جمعها، وتفان في حبها! لدرجة أن يصبح الإنسان ويمسي ولا هم له إلا في الدنيا! وقل أن يتذكر داره الحقيقية، أو يبني لمستقره النهائي، ومنزله المنتظر.
يصحو مشغولًا بها، ينام مُهَوَّسًا بها، يمشي يفكر فيها، يأكل وهو معها، يشرب وهي في خلده، يسافر في طيارته، يقيم في بيته، يجلس في مكتبه، يقود سيارته، كل همه في هذه الدار الزائلة الفانية، وكأنما خلق لها، وعاش لأجلها، وسيخلد على ظهرها، همُّه أن يجمع حطامها، وأن يتزيد من أموالها، دون سؤال عن حلال وحرام، وثواب وعقاب، وجنة ونار، وما علم المسكين أن من أمسى والآخرة أكبر همِّه جمع الله شمله، وآتاه رزقه، ورضي عنه؛ وأنَّ من أمسى والدنيا همُّه فرَّق الله شمله، وبدد رأيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
إننا بأمس الحاجة إلى إفاقة للقلوب، وصحوة للنفوس، وهزة للضمائر؛ لمعرفة حقيقة الدنيا، ولتذكر الآخرة، ولليقين بأن هذه الدار دار مرور وزوال، وأن نعيمَها فانٍ، ومتاعَها زائل، وبريقَها خادع، وعشقَها غرور، والتعلُّقَ بها عذاب، والركونَ إليها ضياع؛ يقول تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) [الكهف:7-8].
إن الدنيا، مهما طال متاعُها وحسُن، فهو متاع قليل، (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء:77]، (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة:38].
لما حضرَتْ عبدَ العزيز بن مروان الوفاةُ قال: ائتوني بكَفَني الذي أُكَفَّنُ فيه أنظر إليه؛ فلما رآه قال: أما لي من كبيرِ ما أخلِّف من الدنيا إلا هذا؟ ثمَّ ولى ظهره فبكي وهو يقول: أفٍّ لك من دار! إن كان كثيرُكِ لَقليلًا، وإن كان قليلك لقصرًا، وإن كان منك لفي غرور.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الله جعل الدنيا كلها قليلاً، وما بقي منها إلا القليل من القليل، ومثل ما بقي منها كالثَّغْبِ، شُرب صفوُه، وبَقِي كَدَرُه"، ويحذر الله تعالى -عباده- أن ينخدعوا وينغروا بأهل الكفر والضلال الفرحين بدنياهم، الغارقين في ملذاتهم، ويذكر عباده أن ذلك كله متاع قليل زائل: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران:196-197].
فهي زينة، وهي قليل، وهي غرور، وهي لعب وتفاخر وتكاثر: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
يا الله! هذه الدار التي نتعلق بها، ونعشقها، ونفاخر بها، يصفها خالقها بأنها لهو ومتاع، ولعب وزينة، وتفاخر وتكاثر وغرور؛ بل ويؤكد لهم -تعالى- أن مصيرها بعد ذلك -بكل متعها- إلى الهباء والفناء، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [الكهف:45].
ولقد أكد -صلى الله عليه وسلم- على هذه النهاية المزعجة لبريق الدنيا ومتاعها، ومطاعمها ومشاربها، وملاذِّها، وأنه أشبه ما تكون بما يأكله الإنسان، فإلى ماذا يصير بعد ذلك؟ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً، فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم، وإن قَزَّحَهُ ومَلَحَهُ قد علم إلى ما يصير".
ومرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمزبلة فيها جدي ميت مقطوع الأذنين، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه:" لَلدُّنيا أهوَنُ على الله من هوان هذا عليكم" وكان يقول: "لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء".
كان بشر بن كعب يقول لأصحابه: انطلقوا معي حتى أريكم الدنيا. فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسَلِهم وسَمْنهم!.
لقد علم -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الدنيا فتجافى عنها، وأعرض عن بريقها، وجعل منها مزرعة لآخرته، وميدانًا لعبادة ربه، ومجالاً لطاعة مولاه؛ وحث أصحابه على أن يعمروها بالطاعة، ويحيوها بالدين، ويغتنموها لرفعة الدرجة؛ وحذَّرَهم من الغرور بها، والانخداع بزينتها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "والله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين قبلكم، وتبسط لكم كما بسطت لهم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا حلوة خضرة، فمن أخذها بحقها بورك له فيها؛ ورُبَّ مُتَخَوِّضٍ فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار"، وعن عبد الله بن مسعود قال: اضطجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فأثَّر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، فقلت: يا رسول الله! ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما لي ولَلدُّنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها".
وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى قد يمنع عن عبده بعض متاع الدنيا لأنه يحبه ويريد له الآخرة، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه" أخرجه أحمد وصححه الألباني.
إن المؤمن الحق هو الذي يعلم حقيقة هذه الدنيا، وأن الله تعالى لم يخلقه لها وللهوها وزينتها وزخرفها والتفاخر بحطامها؛ بل خلقه لعبادته -تعالى- وطاعته، واغتنام عمره فيما يقربه من ربه -جل وعلا-، وإعمار الدنيا بكل ما يقربه من دار الكرامة، ومنازل الأبرار، ودرجات المؤمنين.
وانظروا إلى مَن جمَع الأموال الطائلة، أو حاز المناصب العالية، أو ملَك العقارات الهائلة، ماذا كانت النهاية؟ خرج منها صفرًا، وأقدم على ما قدمه لنفسه هناك: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام:94].
مَن كانَ يعْلَمُ أنَّ الموتَ مُدْرِكُهُ *** وَالقَبْرَ مَسْكَنُهُ والبعْثَ مَخْرجُهُ
وَأَنَّهُ بيْنَ جَنَّاتٍ ستُبْهِجُهُ *** يومَ القيامةِ أو نارٍ ستُنْضِجُهُ
فكُلُّ شيءٍ سوى التَّقْوَى بهِ سَمَجٌ *** ومَنْ أقامَ عليهِ منهُ أسْمَجُهُ
ترَى الذي اتَّخَذَ الدنيا لهُ وَطَناً *** لَمْ يَدْرِ أنَّ المنايا سوفَ تُزْعِجُهُ
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم