عناصر الخطبة
1/ الوصية النبوية بالنساء 2/ الإحسان إلى الأهل هي معيار الخيرية 3/ أثر الإحسان إلى الزوجة 4/ من أشكال الإحسان إلى الزوجة 5/ من صور الإساءة للزوجات 6/ الانشغال عن الأهل بالدعوة إلى الله 7/ خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتهاقتباس
إن معاملتك لزوجتك بالحسنى، ليست منّة منك ولا تكرمًا ولا تفضلاً، إنما هي واجب شرعي عليك، إنما هي أمر رباني، فتذكر أنّ الذي أمرك بالإحسان إلى زوجتك هو الله رب العالمين، أمرك بذلك في كتابه العزيز، فإن استجبت وفعلت ذلك فأنت من خير الناس عند الله، وإلا فأنت معرض عن كلام ربك، غير مبالٍ بأمره، فلا بد عندها أن تكون من شر الناس ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: إنّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهو في موقف عظيم، وفي مكان شريف، وفي تجمع إسلامي عالمي، وأثناء أداء ركن الحج ومن أرض الله الحرام، أوصانا بوصية خاصة، هي الوصية بالنساء، في حجة الوداع، هناك لم ينس أمرهن، هناك لم يترك الوصية بهن، بل أوصى بالنساء؛ ليقرر للأمة أن الحفاظ على نساء المسلمين، وأن الإحسان إلى نسائك -أيها المؤمن- هو من طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هو من إنفاذك لوصيته، هو من اتباعك لهديه -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عمرو بن الأحوص -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "ألا واستوصوا بالنساء خيرًا". وزوجتك من تلكم النساء، وابنتك ووالدتك من تلكم النساء وأختك من تلكم النساء، فتذكر -يا أيها المسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أوصاك بهذه الزوجة المؤمنة التي في بيتك، وبتلك الابنة المسلمة وبتلكم الوالدة والأخت خيرًا، تذكّر ذلك كلما رأيتهن حولك، تذكر أنهن وصية نبيك -صلى الله عليه وسلم- لك، ألا فارْع هذه الوصية وافهمها وخذ بها وأحْيِها في حياتك يكن ذلك خيرًا لك، وتكنْ أنت من خير عباد الله.
أيها المؤمن -زوجًا ووالدًا وأخًا وجدًّا، أصغِ بقلبك لهذا الحديث، واستمع بعقلك له وردده بلسانك دائمًا، واسأل الله أن يرزقك العمل به، يقول نبيّك وحبيبك وقدوتك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي"، ولا بد من وقفة تأملية علمية فاحصة لمعاني هذا الكلام النبوي ولجُمَلِه وكلماته الصادقة المباركة:
"خيركم": مَنْ خيرُنا يا رسول الله؟! مَنْ؟! ما معيار الخيرية؟! ما الميزان الذي نوزن به ليُعرف من خيرنا؟! ما الإجابة؟! إن الإجابة لن تسمعها من أبواق العلمانيين ولا من أفواه الممثلين، فهؤلاء معاييرهم فاسدة مختلة، فلا تذهب بعيدًا في الحصول على الإجابة، إنّ الإجابة هنا حولك، هنا في بيتك، هنا في أخلاقك، هنا تتلقاها من نبع النبوة والوحي الإلهي، مَنْ خَيْرُكُمْ؟! قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الإجابة والبيان: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ"، نعم، فأَعْلى الناس مرتبةً وأفضلهم منزلة هو من كان خير الناس لأهله، هو من كان معظم برّه لأهله، فإذا كنت كذلك فأنت خير الناس وأكرمهم عند الله، وفي ميزان النبوة، وإلا فأنت من شرّ الناس وأوضعهم عند الله وعند نبي الله -صلى الله عليه وسلم-.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".
لماذا لأهله تحديدًا؟! لماذا جاء التعبير النبوي هكذا؟! الأهل هم زوجتك وأولادك وأقاربك، وهؤلاء الأهل هم الأحق بحسن خلقك وبخيرك وبنفعك؛ لأن الأقربين هم أوْلى بالمعروف، فالحديث يقول لك: إذا كان عندك خير فليكن أهلك هم أَوّل المنتفعين من هذا الخير؛ لأنهم هم الذين معك ليلاً ونهارًا وسرًّا وعلانية، إن حزنت حزنوا معك، وإن فرحت فرحوا معك.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".
فخير الناس عند الله من كان خيره وبره ونفعه لأهل بيته، ليس في دنياهم فقط، بل في دنياهم وفي دينهم على حدّ سواء.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".
ومن بين أهلك المقصودين في هذا الحديث زوجتك، نعم زوجتك، أم عيالك، ربّة بيتك، رفيقة حياتك، فمن خيرك أيها الزوج: "الإحسان" إلى زوجتك، فزوجتك هي الأَوْلى بإحسانك، فقد قال لك ربك في القرآن العظيم: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19]؛ قال ابن كثير: "أي: طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله".
فانتبه -يا أيها الزوج-، إن معاملتك لزوجتك بالحسنى، ليست منّة منك ولا تكرمًا ولا تفضلاً، إنما هي واجب شرعي عليك، إنما هي أمر رباني، فتذكر أنّ الذي أمرك بالإحسان إلى زوجتك هو الله رب العالمين، أمرك بذلك في كتابه العزيز، فإن استجبت وفعلت ذلك فأنت من خير الناس عند الله، وإلا فأنت معرض عن كلام ربك، غير مبالٍ بأمره، فلا بد عندها أن تكون من شر الناس.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ"
ومن خيرك -أيها الزوج- لزوجتك: ممازحتها وملاطفتها؛ فهي الأحق بذلك من غيرها، انظر إلى نبيك -صلى الله عليه وسلم- وهو مَنْ هو في تنسكه وعمره ومكانته، إلا أنه كان يدرك ما معنى أنه زوج، وكيف يكون خيرًا لزوجته، فقد بلغ من فقهه للحياة الزوجية أنه كان يتسابق مع زوجته، ويَتَوَدَّدُ إليها بذلك؛ تقول عائشة -رضي الله عنها- كما في الحديث الصحيح: سَابَقَنِي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعدما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: "هذِهِ بتلْك". عبارة ناعمة تحمل كل معاني اللطف والود، فمازح -أيها الزوجُ- زوجتَك، ولاطفها وأدخل عليها السرور، فهذا من حسن خلقك، وبذلك تكون خيرًا لأهلك، أما ما نجده من بعض الأزواج أنه مزّاح مع أصدقائه، عبّاس مع زوجته، ضحوك لطيف مع الآخرين ولكنه صعب صلد مع زوجته، فهذا ليس من أخلاق الزوجية في شيء.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".
ومن خيرك -أيها الزوج- لزوجتك: "خيرك المادي ونفعك المالي" لها؛ فزوجتك هي أحق الناس أن تنتفع بما رزقك الله من مال ومن عطايا دنيوية، فوسّعْ عليها وأكرمها وأغنها، ولكن بالمعروف، هذا هو توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك -يا أيها الزوج المؤمن-؛ ففي الحديث الصحيح عن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟! قال: "أن تُطْعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتكسوَها إذا اكْتسيتْ أو اكتسبت".
أما ما نلحظه اليوم من بعض الأزواج من تقتير على زوجته وتوسّع على نفسه وتوسيع على أصدقائه، حيث كرم الضيافة لهم والهدايا والعطايا، حيث الاستئثار والانفراد بالرحلات معهم والتنزه، وتناول أطايب الطعام والشراب والحلويات، ونصيب الزوجة من ذلك أنه لما يرجع يحدثها عن مغامراته مع أصحابه وجولاته مع الأكل واللذائذ المادية، وهي تستمع إليه منذهلة حزينة مكسورة القلب وتتمنى في نفسها الأماني، فماذا يضيرك -أيها الزوج- وماذا ينقصك لو عدت وبيدك شيء لزوجتك غير الكلام ورواية قصصك؟! وماذا عليك لو سعيت إلى تعويضها بتنزهات ورحلات مماثلة، لعلها تتنفس هواءً طلقًا وجديدًا غير هواء المطبخ وغرف المنزل.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".
ومن خيرك -أيها الزوج لزوجتك- خيرك الديني، نعم، لا يمكن أن نفهم حديث "خيركم خيركم لأهله" بقصره على خير الدنيا والخير المادي فقط دون الخير الديني، بل أعظم الأزواج وأفضلهم هو من عمّ بخيره الديني على أهل بيته، فزوجتك هذه هي أمانه في عنقك، وأنت مسؤول عن دينها، فكن بركة وخيرًا لدينها، تفقد أحوالها الدينية، اسألها عن اتصالها بالقرآن الكريم وتابعها في محافظتها على الصلاة والتزامها باللباس الشرعي وبرها بوالديها، شجعها على النفقة وأداء العمرة والمحافظة على الأذكار والاستكثار من الخيرات، هذا هو الزوج الذي يقال فيه: "خيركم خيركم لأهله"، أما أنْ يكون دين زوجتك والتزامها هو آخر ما تفكر فيه، أما أنْ تكون نجاتها في الآخرة عندك نسيًا منسيًّا، فهذا والله هو عين الشر لأهلك، وهو الخسران المبين لك ولهم، والله سائلك عن تقصيرك مع زوجتك يوم القيامة.
"خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ".
ولن تكون -أيها الزوج- من خير الناس، ولن تنال تزكية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه لك، مادمت تؤذي زوجتك، إيذاءً معنويًّا كان أم ماديًّا، ومادمت تسيء إليها، بلسانك تارة وبيدك تارة أخرى.
يا أيها الناس، يا أيها المسلمون: إن حوادث إيذاء الأزواج لزوجاتهم، وإن الأرقام، وإن البيانات، وإن المشاهد مؤسفة ومحزنة ومخزية، تدل على قلّة دين كثير من هؤلاء الأزواج وعلى خور رجولتهم وعلى عدم خوفهم من الله القوي العزيز، شتم للزوجات وسبّ لهن ولآبائهن الأحياء والأموات، ضرب مبرّح مؤذٍ مهين طاحن، تفنن وغلو في الإيذاء من قبل بعض الأزواج، كأنما ينتقم من يهودية.
إنّ ما تفعله -أيها الزوج- من أشكال الإيذاء هذه، لا تكون في حق امرأة مسلمة فضلاً عن أن تكون زوجة، ستلقى جزاء ذلك، سيحاسبك الواحد الديان، وستقاضيك زوجتك الضعيفة اليوم القوية غدًا بين يدي الله، لن تجني من هذا الإيذاء إلا مزيدًا من النكد في بيتك ومزيدًا من ضيق الصدر في نفسك، وإياك أن تقول: الإسلام شرع الضرب!! فإذا أردت أن تطبق الإسلام كله في حياتك الزوجية ارجع لأهل العلم ليشرحوا لك هذه الآية وغيرها.
أيها المؤمنون: إنّ هذا النوع من الأزواج المؤذين لا تصح في حقهم أبدًا شهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله"، بل يقال في حقهم: شركم شركم لأهله، واستمع إلى إحدى زوجات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصف لك حاله باعتباره زوجًا، تقول عَائِشَة -رضي الله عنها-: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، ولا جَلَدَ خَادِمًا لَهُ قَطُّ"، ولما سأل معاويةُ بن حيدة -رضي الله عنه- كما في الحديث الحسن، رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن حق الزوجة قال له فيما قال: "ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت"، فنهاه عن الإيذاء المادي والمعنوي معًا؛ لأنها ليست عَبْدَةً عندك ولا خادمة، ولذلك خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الزوج قائلاً له كما في الحديث الصحيح: "عَلامَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ!!"، تريدها ملكًا لا تخطئ كالميزان، ونسيت من أنت -أيها الزوج- ونسيت أخطاءك، بل نسيت تقصيرك مع الله، لماذا أنت أعمى عن حالك ومبصر لحالها؟! أعمى عن حسنات وإيجابيات زوجتك، ومبصر بقوة لأخطائها العادية ولنقصها الطبيعي الذي جبلت عليه أصلاً!! خذ بنصيحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك، التي يقول فيها كما في الحديث الصحيح: "لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر"، فهذا هو التوازن وهذه هي الواقعية.
"خيركم خيركم لأهله".
فيا أيها الزوج: لا تكن لئيمًا ولا شرًّا على زوجتك، فلا تستأسد عليها، ولا تظلمها، ولا تستغل عقدة الطلاق التي بيدك فتذلها بها، وتهددها بها ليل نهار، فهناك رب عدل، واعلم أن نبيك -صلى الله عليه وسلم- قد أعظم حق النساء وشدد عليه وأغلظ القول لمضيعيه، فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الحسن الذي يرويه خويلد بن عمروٍ -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أحرّج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة". ومعنى "أُحَرِّجُ" أي: أُلْحِقُ الحَرَجَ -وَهُوَ الإثْمُ- بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا، وَأُحَذِّرُ مِنْ ذلِكَ تَحْذِيرًا بَليغًا، وَأزْجُرُ عَنْهُ زجرًا أكيدًا.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن عوانٌ -أي بمثابة الأسيرة- عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله". فارْعَ -يا أيها الزوج- عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زوجتك، وكن خيرًا لها وعليها، واصطبر عليها وأدّها حقّها الظاهر والباطن، ولا تهملها وخاصة في حقها الخاص وهو الجماع، فبعض الأزواج يهمل زوجته من هذا الجانب ويقصر معها فيه أيما تقصير، ولا تنس قول نبيك -صلى الله عليه وسلم-: "وإن لأهلك عليك حقًّا".
أيها الإخوة المؤمنون: لا بد لنا من خطاب خاصّ نوجهه للزوج خاصة، وكلنا ذلك الزوج المؤمن، لعل الله يشرح الصدر فنكون خيرًا لزوجاتنا.
فيا أيها الزوج: لا تلم إلا نفسك، إذا رأيت زوجتك تنفر عنك ولا تحبك، وتتمنى خروجك من المنزل، لا تلم إلا نفسك، لماذا؟! لأن الله تعالى خاطب سيد البشرية -صلى الله عليه وسلم- فقال له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159]، (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وهذا في حق نبي كريم، فكيف بك أنت؟! نعم، إنك إنْ كنت قاسيًا -أيها الزوج- في معاملتك لزوجتك، فظّ اللسان، غليظ القلب، فإن مَنْ حولك سينفضّون عنك وأوّلهم زوجتك، فالناس جُبلت على حبّ من يحسن إليهم، وعلى إلفِ الليِّن الرحيم.
فيا أيها الأب: لا تَدَعْ زوجتك تتسوّل العطف والحنان من الآخرين، وتستجدي الرفق واللين من الأباعد، وتشحد الملاطفة من الجيران ومن الأقارب، لا تحرمها حتى من أبسط معاني الإنسانية، وقد يكون نتاج ذلك أمورًا لا تحمد عقباها.
يا أيها الزوج: حذارِ حذارِ أن تدَّعي أن لا وقت لديك لزوجتك، وأنك مشغول، فهذه دعاوى غير منطقية ولا واقعية، حتى لو كانت عندك مشاغل كثيرة، بل حتى لو كان وقتك مستهلكًا بالتعليم وبالعلم، بل وحتى بالدعوة إلى الله، فهذا كله ليس عذرًا لأن تهمل زوجتك، تراها كما يراها الغريب، وتجالسها كما تجالس البعيد، ليس هذا عذرًا؛ لأنك لن تكون مشغولاً ولا مهمومًا ولا حاملاً لأعباء الدين والحياة كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو بين دعوة وجهاد وبناء دولة وفتوى وقضاء وتوجيه أمة ومقابلة وفود، ولكن مع هذا كله ما شكت منه زوجة من زوجاته إهمالاً ولا نسيانًا، بل وجدنه الزوج الحنون القريب الودود، تجده -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته وفي بيته رغم انشغالاته تجده يخصف النعل، ويحلب الشاة، ويقُمُّ البيت، ويكون في خدمة أهله، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يَسْمُر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك، صلى الله عليه وسلم.
نعم يا أيها الإخوة: إن من يشتغل بالحق وبالمشروع وبخدمة الدين لا يحل له إهمال زوجته، فبالله عليكم كيف بذلك الزوج الذي هو مشغول عن زوجته؟! بماذا وبمن؟! مشغول عنها بسهرة مع أصدقائه، وبجلسات على الأرصفة وعلى طاولات المقاهي، مشغول عنها بالسمر وبالتَمَسْمُر أمام بالفضائيات والإنترنت وفي النوادي، ماذا يقال لمثل هذا الزوج؟! إن جرمه كبير وذنبه مضاعف، فهو أهمل الحق لانشغاله بالباطل، فأذنب في حق نفسه وربه، وأذنب بحق زوجته، وقصر وضيع الأمانة.
يا أيها الزوج المسلم: ارْعَ زوجتك وأحسن إليها، وكن قريبًا منها، وكن لطيفًا معها، وكن معينًا لها وصبورًا عليها، افعل ذلك كله وغيره، افعله ابتغاء وجه الله تعالى، افعله تقربًا إليه سبحانه وابتغاء مرضاته، فإنك إن فعلت ذلك أجرت وكتب لك الخير وبورك لك بزوجتك، قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "وَإنك تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا في فِي امْرَأَتِكَ"، وكان بعض السلف يقول: "والله إني لأتقرب إلى الله بإخراج القمائم من بيتي".
فيا أيها الزوج: كم بيدك من مفاتيح الخير والرحمة على زوجتك فلا تغلقها ولا تضيعها، بل افتحها، وعش حياتك أنت زوجتك بما يرضي ربك سبحانه.
أيها الزوج: احذر من الازدواجية في سلوكك، نعم بعض الأزواج عنده ازدواجية في السلوك، خارج بيته شيء وداخله شيء آخر، فخيره ذاهب بغزارة إلى خارج بيته، ولكنه بالقطّارة على زوجته، على الأباعد مضياف كريم وعلى زوجته شحيح رزيل، خارج بيته تجده ضحوكًا مزاحًا لطيفًا صاحب ذوق رفيع، ولكنه مع زوجته ثقيلاً عبوسًا حادًّا نكد الطباع، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم خيركم لأهله"، ولم يقل: خيركم خيركم للناس وأسوؤكم مع زوجته، وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ". فكن خيرًا لزوجتك أولاً، وكن خيرًا للناس ثانيًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الزوج المؤمن: إن قدوتك في الإحسان إلى زوجتك هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو الذي يقول: "وأنا خيركم لأهلي"، فلم يكن شعارًا يرفعه، وإنما كان هديًا وخلقًا يقوم به، وتصف لنا عائشة -رضي الله عنها- زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- حاله داخل البيت، فيا ترى هذا الرسول العظيم القدر الذي يتنزل عليه الوحي، قائد الأمة ومجاهد الأعداء وحامل الأمانة، كيف هي صورته داخل بيته؟!
سؤال مهم، والإجابة عليه أهم، والإجابة عليه تقدمها لنا زوجته الصادقة الطاهرة الوفية العالمة العابدة سيدتنا عائشة -رضي الله عنها-؛ ففي الحديث الصحيح عن الأَسْوَدِ بن يَزيدَ قَالَ: سُئِلَتْ عائشةُ -رضي الله عنها-: مَا كَانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟! قالت: "كَانَ يَكُون في مِهْنَةِ أهْلِهِ -أي في خِدمَة أهلِه-، فإذا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ".
وعن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ".
وله -صلى الله عليه وسلم- شأن خاص في ملاطفة زوجاته ومعاملتهن معاملة إنسانية راقية، بحيث تشعر الزوجة بكرامتها وقيمتها ومكانتها في البيت، وبحظوتها عنده -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عمرة قالت: سألتُ عائشةَ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا خَلا مع نسائِهِ، قالت: "كانَ كالرجل من رجالكم، إلا أنه كان أكرم الناس، وأحسن الناس خلقًا، وألين الناس وأكرمهم، ضحَّاكًا بسَّامًا"، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل بنات الأنصار لعائشة يلعبن معها، وأراها الحبشة وهم يلعبون في المسجد وهي متكئة على منكبه، وكان إذا شربت عائشة من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب، وإذا تعرقت عرقًا -وهو العظم الذي عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها كما في صحيح مسلم، ولما أراد أن يحمل زوجته صفية بنت حيي -رضي الله عنها- على بعير نصب لها فخذه لتضع رجلها عليه وتركب.
هذه الجملة المباركة من أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوجاته، إنما هي تصديق لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، فكان حقًّا كما وصف نفسه، ألا -يا أيها الأزواج- فلنتخذ من رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قدوة لنا في الإحسان إلى زوجاتنا، لعل الله يرحمنا ويجعلنا من أهل الخير، ويصدق فينا قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم خيركم لأهله".
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم