خيركم خيركم لأهله

راكان المغربي

2022-11-04 - 1444/04/10 2022-11-16 - 1444/04/22
عناصر الخطبة
1/أهمية الأخلاق ودورها في الأمن الأسري 2/الظواهر المجتمعية المخيفة سببها البعد عن منهج القرآن 3/الزوج السبب الأول والمهم في نجاح الأسرة وبنائها السليم 4/اعوجاج المرأة شيء طبيعي ينبغي للزوج الصبر عليه 5/من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام مع زوجاته 6/مفهوم القوامة والمعاملة السيئة عند بعض الأزواج لزوجاتهم.

اقتباس

وَمَا ذِكْرُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ وَذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ إِلَّا دَلِيلٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَعِظَمِ فَضْلِ الِاسْتِمْسَاكِ بِهَا، وَعِظَمِ إِثْمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا.

أما بعد: هُمْ خَيْرُ النَّاسِ! هُمْ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ، وَحَبَاهُمْ بِصِفَاتٍ وَأَعْمَالٍ عَمِلُوهَا؛ فَنَالُوا بِهَا الْخَيْرِيَّةَ فِي خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَكَانُوا خَيْرَ مَنْ يَمْشِي عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ بِشَهَادَةِ الْمُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم-.

 

قَدْ يُبْصِرُهُمْ الرَّائِي فَلَا يَرَى مِنْهُمْ طَوِيلَ الْقِيَامِ أَوْ كَثِيرَ الصِّيَامِ أَوْ وَاسِعَ الْجُودِ وَالصَّدَقَات.

فَمَنْ هَؤُلَاءِ يَا تُرَى؟ وَمَا هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي قَدَّمُوهَا فَنَالُوا بِهَا هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ؟!

يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِيِّ"، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ"، نَعَمْ؛ "خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ.."، هَذَا هُوَ الْعَمَلُ الْعَظِيمُ، وَهَذِهِ هِيَ الْخَصْلَةُ الْجَلِيلَةُ الَّتِي بَلَغَتْ بِهَؤُلَاءِ حَتَّى صَارُوا خَيْرَ النَّاسِ وَخَيْرَ مَنْ يَمْشِي عَلَى هَذِهِ الْبَسِيطَةِ.

 

إِنَّ الْعَجَبَ لَا يَنْقَضِي مِنْ تَوْلِيَةِ الشَّرِيعَةِ لِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ مِنْ مُحْكَمَاتِ الدِّينِ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بُعِثَ لِتَتْمِيمِهَا خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ.

 

إِنَّ الْأُسْرَةَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- هِيَ الَّتِي تُمَثِّلُ لِبَنَاتِ الْمُجْتَمَعِ، فَبِصَلَاحِهَا يَصْلُحُ الْمُجْتَمَعُ، وَبِفَسَادِهَا يَفْسُدُ الْمُجْتَمَعُ، وَأَوَّلُ مُكَوِّنٍ مِنْ مُكَوِّنَاتِ الْأَسِرَّةِ هُمْ الزَّوْجَانِ اللَّذَانِ اجْتَمَعَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ لِيُكَوِّنُوا أَسَاسَ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ.

 

وَلِذَا فَقَدَ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى هَذَا الْمُكَوِّنِ الَّتِي يُمَثِّلُ أَسَاسَ الْمُجْتَمَعِ وَسَبَبَ صَلَاحِهِ أَوْ فَسَادِهِ.

 

وَفِي مُجْتَمَعِنَا الَّذِي صِرْنَا نَسْمَعُ فِيهِ ارْتِفَاعًا مَلْحُوظًا فِي أَرْقَامِ حَالَاتِ الطَّلَاقِ وَحَوَادِثِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْنَا التَّذْكِيرُ بِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْأَمْرِ وَمَكَانَتِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

 

إِنَّ هَذِهِ الْأَرْقَامَ الْمُخِيفَةَ، وَلَا شَكَّ، هِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْبُعْدِ عَنِ النَّبْعِ الصَّافِي وَالْمَعِينِ الَّذِي لَا يَنْضُبُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ لِيُقَوِّمَ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9]، وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْبُعْدِ عَنِ امْتِثَالِ الْقُدْوَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي تَمَثَّلَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وَضَرَبَ فِيهَا أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الزَّوْجَاتِ؛ فَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِأَهْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ: "وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي".

 

وَلِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ قَائِدُ الدَّفَّةِ وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى هَذِهِ الْأُسْرَةِ كَانَ لَهُ الدَّوْرُ الْأَكْبَرُ فِي نَجَاحِ الْأُسْرَةِ، فَجَاءَتْ الْوَصَايَا لَهُ تَتْرَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الْمُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم-.

 

فَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ يَحُثُّ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى عِشْرَةِ النِّسَاءِ بِالْمَعْرُوفِ فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء: 19]، وَهَذِهِ الْجُمْلَة رَغْمَ قِصَرِهَا إِلَّا أَنَّهَا تَحْوِي فِي طَيَّاتِهَا كُلَّ أَفْعَالِ الْمَعْرُوفِ وَطِيبِ الْعِشْرَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الزَّوْجَةِ؛ يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: "طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[الْبَقَرَة:228]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"، وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ جَمِيلُ الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ، وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَتَهُ، وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ"؛ انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.

 

ثُمَّ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- بَعْدَ ذَلِكَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19]؛ يَقُولُ ابْن كَثِير: "عَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ مَعَ إِمْسَاكِكُمْ لَهُنَّ وَكَرَاهَتِهِنَّ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".

 

فَانْظُرُوا كَيْفَ أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ تَعَالَى- بَعْدَ أَمْرِهِ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الزَّوْجَاتِ بِشَكْلٍ عَامٍّ، ذَكَرَ حَالَةً تَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَزْوَاجِ وَهِيَ حَالَةُ كُرْهِ الزَّوْجَةِ، وَتَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ حَالَةً عَرَضِيَّةً بِسَبَبِ مُشْكِلَةٍ مَا أَوْ مَوْقِفٍ، فَانْظُرْ كَيْفَ أَرْشَدَنَا اللَّهُ لِطَرِيقَةِ التَّعَامُلِ مَعَهَا،  فَقَدْ حَثَّ اللَّهُ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَرَفِيقَةِ دَرْبِهِ الَّتِي عَاشَتْ مَعَهُ الْأَفْرَاحَ وَالْأَحْزَانَ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسَّكَنِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ، وَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ- عَاقِبَة هَذَا الصَّبْرِ، وَأَنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِهِمْ وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ فِي عَلَاقَتِهِمْ وَفِي أَوْلَادِهِمْ وَأُسْرَتِهِمْ.

 

وَفِي تَعْبِيرٍ نَبَوِيٍّ قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَر"؛ فَيُحِثُّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَثِّ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ وَإِبْعَادِ الْبُغْضِ وَالْكُرْهِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، ثُمَّ يُشِيرُ إِلَى أَحَدِ أَهَمِّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْمَحَبَّةِ وَتُبْعِدُ الْبَغْضَاءَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أَلَا وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى الْمَحَاسِنِ وَعَدَمُ التَّرْكِيزِ عَلَى الْمَسَاوِئِ وَالْمَعَايِبِ؛ فَمَا مِنْ بَشَرٍ خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَّا وَفِيهِ بَعْضُ الْمَعَايِبِ.

 

فَإِنْ كَانَ فِي الزَّوْجَةِ بَعْضُ الْعَيْبِ فَلَا شَكَّ أَنَّ فِيهَا الْكَثِيرَ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْأَخْلَاقِ الطَّيِّبَةِ "إِنَّ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَنْظُرُ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ وَيَأْخُذُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ؛ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعِلَاجِ النَّاجِعِ وَالدَّوَاءِ الشَّافِي لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ وَالْخِلَافَاتِ الَّتِي تَقَعُ  بَيْنَ الْأَزْوَاجِ.

 

وَمِنَ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ: وَصِيَّةٌ اخْتَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَكُونَ فِي أَعْظَمِ جَمْعٍ تَارِيخِيٍّ، وَفِي أَهَمِّ خِطَابٍ مِنْ خِطَابَاتِ الْقَائِدِ الْعَظِيمِ لِأُمَّتِهِ، وَفِي أَعْظَمِ مَكَانٍ.

 

تِلْكَ هِيَ خُطْبَةُ الْوَدَاعِ الَّتِي حَمَلَتْ وَصَايَا الْمُوَدِّعِ مِنْ مُعَلِّمِ الْبَشَرِيَّةِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَمِمَّا جَاءَ فِيهَا: "أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ"؛ فَوَصَّى بِهِنَّ خَيْرًا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ، وَإِطْعَامِهِنَّ وكِسْوَتِهنَّ وَعِشْرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، "فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ"، الْعَوَانِي جَمْعُ عَانِيَةٍ، أَيْ: أَسِيرَة، وَشَبَّهَهُنَّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُنَّ عِنْدَ الرِّجَالِ وَيَتَحَكَّمُونَ فِيهِنَّ، وَهُنَّ يَخْضَعْنَ لِسُلْطَانِ الرِّجَالِ؛ وَلِذَا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ بِهِنَّ رَحْمَةً لَهُنَّ وَرَأْفَةً بِهِنَّ.

 

وَمَا ذِكْرُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْجَمْعِ وَذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ إِلَّا دَلِيلٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَعِظَمِ فَضْلِ الِاسْتِمْسَاكِ بِهَا، وَعِظَمِ إِثْمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا.

 

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ؛ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ؛ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا".

 

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلَاغَةٌ نَبَوِيَّةٌ رَفِيعَةٌ؛ حَيْثُ وَصَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- طَبْعَ الْمَرْأَةِ وَأَنَّ فِيهَا عِوَجًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ خِلْقَتِهَا كَذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اسْتِنْقَاصٌ لِلْمَرْأَةِ، بَلْ فِيهِ تَوْضِيحٌ لِطَبِيعَةِ الْأُنْثَى حَتَّى يُرَاعِي الرِّجَالُ طَبِيعَتَهَا، وَيَعْرِفُونَ كَيْفَ يَتَعَامَلُونَ مَعَهَا؛ فَالْأُنْثَى فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعِوَجِ فِي الطَّبْعِ وَالْخُلُقِ؛ فَهِيَ صَاحِبَةٌ عَاطِفَةٌ جَيَّاشَةٌ تَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهَا فِي أَغْلَبِ الْأَحْيَانِ، وَتَتَعَرَّضُ لِلْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ؛ مِمَّا يُعَكِّرُ مِزَاجَهَا وَنَفْسِيَّتهَا؛ فَيُسَبِّبُ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ الْعِوَجِ.

 

فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الرِّجَالَ أَنْ يَسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْرًا، وَأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى هَذَا الِاعْوِجَاجِ الطَّبِيعِيِّ مِنْهُنَّ؛ فَلَا يَسْتَنْكِرُوهُ الِاسْتِنْكَارَ الشَّدِيدَ؛ فَيُحَاوِلُونَ تَقْوِيمَهُ، مِمَّا يَتَسَبَّبُ فِي كَسْرِهِ؛ كَمَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ؛ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتُهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا".

 

فَيَنْبَغِي لِلْأَزْوَاجِ أَنْ يُرَاعُوا فِي زَوْجَاتِهِمْ هَذِهِ الطَّبِيعَةَ الْفِطْرِيَّةَ لَدَيْهِنَّ؛ فَمَعْرِفَةُ هَذَا الْأَمْرِ تُهَوِّنُ عَلَى الزَّوْجِ كَثِيرًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ عَدَمَ مُعَالَجَةِ الْأَخْطَاءِ؛ فَالْمُعَالَجَةُ مَطْلُوبَةٌ لَكِنْ بِرِفْقٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يُعَالِجُ الْأَخْطَاءَ وَهُوَ يَعْرِفُ تَفْسِيرَهَا وَدَافِعَهَا الرَّئِيسِيَّ، وَبَيْنَ مَنْ يُعَالِجُ الْأَخْطَاءَ وَيَنْظُرُ إِلَى مَظَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا دُونَ النَّظَرِ إِلَى أَسْبَابِهَا.

 

فَالطِّفْلُ الصَّغِيرُ مَثَلاً قَدْ يَرْمِي كَأْسًا فَيَكْسِرُهُ أَمَامَ ضُيُوفِ وَالِدِهِ؛ فَيَتَعَامَلُ مَعَهُ الْأَبُ الْحَكِيمُ مُرَاعِيًا فِطْرَتَهُ وَطَبِيعَتَهُ، وَيُعَالِجُ الْخَطَأَ بِدُونِ اسْتِنْكَارٍ شَدِيدٍ لِهَذَا الْفِعْلِ؛ مُرَاعَاةً لِطَبِيعَةِ هَذَا الطِّفْلِ؛ بَيْنَمَا لَوْ فَعَلَ نَفْسَ الْفِعْلِ أَخُوهُ الْكَبِيرُ لَأَقَامَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، لَكِنَّ الْفَاعِلَ وَطَبِيعَتَهُ لَيْسَتْ وَاحِدَةً.

 

فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الْحَكِيمُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعِيَ طَبِيعَةَ زَوْجَتِهِ، وَأَنْ يَتَغَافَلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَخْطَائِهَا وَكَمَا قِيلَ: "التَّغَافُلُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ حُسْنِ الْخُلُقِ"، وَإِنَّ زَادَ الْخَطَأُ عَنْ حَدِّهِ فَيُعَالِجُ الْأُمُورَ بِرِفْقٍ وَهُدُوءٍ وَاتِّزَانٍ.

 

وَقَدْ تَمَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْلَى نَمَاذِجِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ فِي ذَلِكَ؛ فَكَانَ كَمَا قَالَ: "وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"، وَقَدْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرَ النَّاسِ لِأَهْلِهِ بِأَفْعَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَقْوَالِهِ، وَضَرَبَ أَرْوَعَ الْأَمْثِلَةِ فِي حُسْنِ التَّعَامُلِ مَعَ زَوْجَاتِهِ وَطِيبِ عِشْرَتِهِنَّ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ.

 

فَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ الَّذِي كَفْكَفَ دُمُوعَ صَفِيَّةَ لَمَّا سَمِعَتْ مَا يَسُوؤُهَا، وَاسْتَشَارَ أُمَّ سَلَمَةَ فِي هُمُومِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يُشَارِكُهُنَّ فِي مِهْنَةِ الْبَيْتِ فَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَحْلِبُ شَاتَهُ، وَعِنْدَمَا كَسَرَتْ عَائِشَةُ صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِيهَا الطَّعَامُ؛ رَاعَى طَبِيعَتَهَا وَغَيْرَتَهَا الشَّدِيدَةَ؛ فَلَمْ يَغْضَبْ، وَلَمْ يُزَمْجِرْ، وَجَعَلَ يَجْمَعُ الطَّعَامَ وَيَقُولُ: "غَارَتْ أُمُّكُمْ".

 

وَلَوْلَا مَقَامُ الْخُطْبَةِ الْمُخْتَصَرُ وَخَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَذَكَرْنَا تَفَاصِيلَ حَيَاتِهِ الرَّائِعَةِ مَعَ زَوْجَاتِهِ -صلى الله عليه وسلم-.

 

فَيَا أَيُّهَا الرِّجَالُ! خُذُوا بِوَصَايَا رَبِّكُمْ وَوَصَايَا نَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَبِهَا تُفْلِحُونَ، وَبِالتَّمَسُّكِ بِهَا تَصْلُحُ بُيُوتُكُمْ، وَيُبَارَكُ فِي أَهْلِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، وَتَسْعَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ دِينًا يُرَتِّبُ هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ عَلَى الْإِحْسَانِ لِلزَّوْجَاتِ؛ فَيَجْعَلُ خَيْرَ رِجَالِهِ أَحْسَنَهُمْ وَخَيْرَهُمْ لِزَوْجَتِهِ لَهُوَ دِينٌ عَظِيمٌ حُقَّ لَنَا أَنْ نُفَاخِرَ بِهِ الْأُمَمَ؛ فَأَيُّ تَكْرِيمٍ لِلْمَرْأَةِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا التَّكْرِيمِ؟!

 

وإِنَّ مِنْ تَكْرِيمِ الإِسْلَامِ لِلْمَرْأَةِ شَرِيعَةُ القِوَامَةِ، والّتِي يَظُنُّ البَعْضُ أنها تعني التَّجَبُّرُ عَلَى النِّسَاءِ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهِنَّ، بَلْ وَحِرْمَانُهُنَّ مِنْ بَعْضِ حُقُوقِهِنَّ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ هِيَ الْقِوَامَةَ الشَّرْعِيَّةَ؛ فَالْقِوَامَةُ يُعَرِّفُهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا هِيَ وِلَايَةٌ يُفَوَّضُ بِمُوجِبِهَا الزَّوْجُ تَدْبِيرَ شُؤُونِ زَوْجَتِهِ وَالْقِيَامَ بِمَا يُصْلِحُهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا.

 

فَالْقِوَامَةُ رِعَايَةٌ وَإِكْرَامٌ وَحُسْنُ إِطْعَامٍ وَكُسْوَةٍ، وَقِيَادَةُ الْأُسْرَةِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ.

 

وَمِنَ التَّقْصِيرِ فِيهَا: مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَضَعُونَ أَهَالِيَهُمْ فِي آخِرِ اهْتِمَامَاتِهِمْ، وَلَا يُخَصِّصُ أَحَدُهُمْ لِأَهْلِهِ إِلَّا فُضُولَ أَوْقَاتِهِ؛ فَحَيَاتُهُ كُلُّهَا مَعَ أَصْحَابِهِ وَخِلَّانِهِ.

 

كَمْ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ تَجِدُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ ضَحُوكًا بَسَّامًا؛ فَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ اخْتَفَى ذَلِكَ الضَّحِكُ، وَانْقَلَبَ إِلَى عُبُوسٍ وَغِلْظَةٍ!!

 

وَكَمْ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ يُوسِعُ بِكَرَمِهِ أَقَارِبَهُ وَجِيرَانَهُ وَزُمَلَاءَ عَمَلِهِ، وَهُوَ أَبْخَلُ النَّاسِ مَعَ أَهْلِهِ!!

وَكَمْ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ لَا تَسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَزَوْجَتُهُ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ كَلِمَةً طَيِّبَةً مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ!

 

إِنَّ صَاحِبَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ لَا يُفَارِقُهُ لَا مَعَ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، وَلَا فِي سَفَرٍ وَلَا فِي حَضَرٍ، وَالِامْتِحَانُ الْحَقِيقِيُّ لَهُ هُوَ عِنْدَمَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَيَتْرُكُ التَّكَلُّفَ وَيَهْجُرُ التَّصَنُّعَ؛ فَتَظْهَرُ أَخْلَاقُهُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَتَزَيَّنُ بِهَا بَاطِنُهُ قَبْلَ ظَاهِرِهِ؛ فَإِنْ نَجَحَ فِي الِامْتِحَانِ كَانَ كَمَا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ"، وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ؛ فَمِمَّا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَوْلُهُ مُعَاتِبًا بَعْضَ أَصْحَابِهِ: "لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ".

 

أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ -يَا عِبَادَ اللَّهِ-، وَاسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْرًا، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ إِكْرَامَ الْمَرْأَةِ عُنْوَانُ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ، وَأَصْلُ وَفَائِهِ، وَإِحْسَانَ عِشْرَتِهَا طَرِيقُكَ لِأَنْ تَكُونَ مِنْ خِيَارِ أُمَّةِ مُحَمَّد -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِنَا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى..

 

اللَّهُمَّ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا..

 

المرفقات

خيركم خيركم لأهله.pdf

خيركم خيركم لأهله.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات