خطبة وعظية

علي بن يحيى الحدادي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ سرعة انقضاء الآجال 2/احفظ الله في أوامره ونواهيه 3/من مشاهد الآخرة 4/العاقبة بالأعمال 5/تذكر الموت وثمراته 6/وجوب محاسبة النفس.

اقتباس

ومتى غفل المرء عن ذكر الموت عظمت الدنيا في نفسه, واستولت الغفلة على قلبه, فضاع عمره دون أن يستعد لآخرته, فما أعظم الندامة وما أشد الحسرة!! ولكن حين لا ينفع المرءَ ندمُه ولا حسرتُه, إنما ينفعه بعد فضل الله ما قدمه لنفسه. فلنراجع قلوبنا ولنحاسب أنفسنا ولنضع الأمور في موازينها الصحيحة, فالآخرة هي دار القرار, وما الدنيا إلا مزرعة...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد الله يرحم من يشاء من عباده ويعذب من يشاء وإليه يرجعون, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما يسر عباده وما يعلنون, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقة أتقى الناس لله وأخشاهم له, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبعهم بإحسان وسلم تسليما.

 

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعد:

 

اتقوا الله -عباد الله- وخافوا عقابه واحذروا  سخطه واخشوا يوما تقفون فيه لحسابه، اتقوا الله وقفوا عند حدوده ولا تنتهكوها؛ فتعرضوا أنفسكم لعذاب أليم, وأخذ شديد وهول عظيم. استيقظوا من الغفلة وتزودوا بأحسن زاد, فان المهلة قصيرة والارتحال قريب, فما أسرع هجومَ الآجال، وانقطاعَ الآمال, وما أسرع الانتقال إلى دار المجازة على الأعمال.

 

اتقوا الله بسلوك صراطه المستقيم  عقيدة وعملا, فالسعيد من لقي الله بقلب سليم، وإيمان صادق وعمل صالح, قد أدّى الواجبات واستكثر من الخيرات, وجانب المنكرات, وحاسب نفسه حساباً دقيقاً قبل الممات.

 

اتقوا الله -عباد الله- بحفظ قلوبكم من منكرات الأخلاق من الغل والحسد, والعداوة والبغضاء على الدنيا وحطامها.

 

اتقوا الله بحفظ أبصاركم عما حرم الله, فإن إطلاق البصر أول طرق الفواحش والولوغ فيها, واتقوه بحفظ  ألسنتكم إلا عن خير, فإن الألسن أكثرُ ما يكب الناس في جهنم على مناخرهم. احفظوا البطون عن أكل الحرام كالسرقة والربا والرشوة وأكل مال اليتيم. واحفظوا الفروج إلا على أزواجكم, فإن الزنا وعمل قوم لوط من أعظم المنكرات التي توعد الله أهلها بالعقوبات العاجلة والآجلة والعامة والخاصة, وضرب على ذلك الأمثال لعباده ليتعظوا وليعتبروا.

 

إن جوارحكم هذه ستسأل عنكم, وستجيب بأفصح منطق, وأصدق جواب, فاحذروا أن تفضحكم يوم الفضائح, قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65].

 

وعن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أتدرون مم أضحك؟". قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدًا من نفسي. فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حَسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودا. فيختم على فيه، ويُقال لأركانه: انطقي. فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أناضل".

 

وعن بَهز  بن حكيم عن أبيه عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم تُدْعَون مُفَدَّمة أفواهكم بالفِدَام، فأول ما يُسأل عن أحدكم فخذه وكتفه". وعن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يُختَم على الأفواه، فَخذُه من الرِّجل اليسرى".

 

عباد الله: اتقوا الله؛ فقد حذركم الله نفسه وتقدم إليكم بالمعذرة, حتى لا يكون لأحد على الله حجة يوم القيامة, قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28] وقال تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج: 12] وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ) [هود: 102، 103].

 

عباد الله : اتقوا الله ولا تغرنكم الحياة بزينتها, ولا النفوس بشهواتها, ولا الدنيا بما فتح عليكم من فتنتها, فان وراءكم سفرا بعيدا, وهولا شديدا, لقد غيب عنا أمر عظيم لا يخطر على البال, فعنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ قَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا" قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ. [متفق عليه]. أي غطوا رؤوسهم يبكون.

 

وعن أبى ذر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا -أَوْ مَا مَنْهَا- مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى, وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ". [رواه الترمذي وحسنه].

 

عباد الله: ما ظنكم بيوم تدنو فيه الشمس من الرؤوس قدر ميل, ويحشر فيه الأولون والآخِرون في صعيد واحد. ما ظنكم بيوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات, وبرزوا لله الواحد القهار. وما ظنكم بيوم يجعل الولدان شيبا. ما ظنكم بيوم لا يتكلم فيه إلا الرسل وكلامهم يومئذ: "اللهم سلم سلم".

 

إنه يوم حقيق أن يذكره المرء مدة عمرِه, وان يَعظُم منه خوفه حتى يوارى في قبره، وأن يحسن له العُدة في سره وجهره، فمن خاف اليوم أمن غدا, ومن أمن اليوم خاف غداً.

 

اللهم أيقظنا من غفلتنا وارزقنا حسن الاستعداد لمعادنا, وأصلح فساد قلوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

 

أما بعد:

 

عباد الله: فاتقوا الله حق تقاته بفعل أوامره واجتناب نواهيه, فإنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب, وإنما موازينكم أعمالكم, فمن حسن عمله في الدنيا حسنت عاقبته يوم القيامة, ومن ساء عمله في الدنيا ساءت عاقبته يوم القيامة.

 

وإنما يحسن العمل إذا صلح القلب, وإنما يصلح القلب إذا كان كثير الذكر للموت, كثير الذكر للحساب, كثير الذكر للوقوف بين يدى الله, فذاك هو العبد الذي يراقب الله في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله, ومدخله ومخرجه ومطمعه ومشربه, وسريرته وعلانيته.

 

إن تذكر الموت وما وراءه من الجزاء والحساب مما يبعث على الزهد في الدنيا والحرصِ على الآخرة, وينشط على العبادة ويثقّل عن المعاصي, ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من ذكره استعداداً لما بعده, وتنبيها على أن الدنيا ما هي إلا دار اختبار وممر لا دار لهو ولعب ومستقر. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ". [أخرجه الترمذي].

 

وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذاتِ، فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسَّعهُ عليه، ولا في سعةٍ إلا ضيَّقهُ عليهِ" [أخرجه البزار]. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَي الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا". قَالَ فَأَي الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ" [أخرجه ابن ماجه].

 

ومتى غفل المرء عن ذكر الموت عظمت الدنيا في نفسه, واستولت الغفلة على قلبه, فضاع عمره دون أن يستعد لآخرته, فما أعظم الندامة وما أشد الحسرة!! ولكن حين لا ينفع المرءَ ندمُه ولا حسرتُه, إنما ينفعه بعد فضل الله ما قدمه لنفسه.

 

فلنراجع قلوبنا ولنحاسب أنفسنا ولنضع الأمور في موازينها الصحيحة, فالآخرة هي دار القرار, وما الدنيا إلا مزرعة يستغلها الصالحون العقلاء بأحسن الحرث, حتى يحصدوا يوم القيامة أطيب الثمر.

 

ثم اعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كتاب الله...

 

 

المرفقات

وعظية1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات