خطبة الطلاق (2)

عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي

2000-09-29 - 1421/07/02 2023-01-22 - 1444/06/29
عناصر الخطبة
1/وجوب الوفاء بالعهد 2/الزواج عقد وثيق وحبل متين 3/من أحكام الطلاق 4/التحذير من الطلاق البدعي

اقتباس

الذي يجب العلم به: أن الطلاق إذا وقع بطلقة واحدة، وهو المطلوب، فإن الزوجة تعتد حسب حالها، وللزوج مراجعتها ما دامت في عدتها، والرجعة تحصل بالقول وبالفعل، فيبقى مع الزوج وقت آخر للتروي والنظر وإمكان المراجعة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله رب العالمين، لا إله إلا هو الملك الحق المبين، خلق فسوى وقدر فهدى، وشرع فأحكم؛ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة: 50]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إلى العالمين رحمة من الله وحكمة، وهو -سبحانه- أحكم الحاكمين.

 

أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واجعلوا تقوى الله مطيتكم؛ فما خاب من اتقى الله لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)[الأنفال: 29]، وفي تقوى الله ضمان للذرية وتأمين لمستقبلهم، يقول -سبحانه-: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النساء: 9]، وجزاء المتقين عند الله عظيم، فقد أعد لهم داراً لم تر العيون مثلها، ولم تسمع الآذان بنظيرها؛ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133، 134].

 

معشر المؤمنين: الوفاء خلق حميد، تفاخر به العرب قديماً، وأكده الإسلام أيما تأكيد، يقول -سبحانه-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل: 91]، ويقول -سبحانه وتعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)[الإسراء: 34]، وفي السنة النبوية وصايا كريمة تحض على الوفاء وتأمر به، وتعيب من اتصف بضده، ففي صحيح البخاري يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

 

وقد تمادح العرب بالوفاء وتفاخروا به قديماً، بل شرف بالوفاء كل متمسك به حتى الكلاب، فقد ضرب بها المثل في الوفاء، والعقود والعهود التي يجب الوفاء بها كثيرة متنوعة، من أهمها: عقد الزوجية الذي يجمع الزوجين في بيت واحد، ويبيح لهما ما كان حراماً قبل عقد النكاح، فللعقد حرمته ومكانته، وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"(أخرجه البخاري).

 

وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال حدثني أبي: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ فقال: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا؛ فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن"(أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)؛ ومعنى قوله: "عوان عندكم"، يعني أسرى في أيديكم.

 

فالمرأة أسيرة بيد زوجها، فقد جاءت إلى زوجها بكلمة وإيجاب من وليها، وربما خرجت من منزل زوجها بكلمة أيضاً، ولكن من زوجها، فعقد الزواج عقد وثيق وحبل متين لا ينبغي التساهل به أو تعريضه للعبث، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"(أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب)، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم.

 

فالوفاء الوفاء -يا معشر الرجال- وليكن لعقد الزوجية حظه الوافر من الوفاء، وحفظ الجميل ورد المعروف، ولا يكن عقد الزوجية أسهل العقود نقضاً، ففي ذلك إخلال بالمجتمع ولبناته الصالحة.

 

عباد الله: من عزم على الطلاق وأراد فراق زوجته فليعلم أن هناك أحكام شرعية، وحدود مرعية لا بد من معرفتها:

فالأمر الأول: أن للطلاق صفة شرعية معتبرة، وما عداها فهو طلاق بدعي يأثم صاحبه، فطلاق السنة ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عمر بن الخطاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مُره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "طلاق السنة أن يطلقها طاهرا في غير جماع"(أخرجه النسائي)، فطلاق السنة أن يطلق الزوج زوجته في حال طهر لم يجامعها فيه، أو تكون حاملاً وتبين حملها، ويكون الطلاق بطلقة واحدة فقط.

 

أيها الناس: من منكم يرضى أن يأتي أمراً يغضب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخرج النسائي عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه- قال: أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟"، حتى قام رجل وقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟"، وعند مسلم حين سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رجل طلق زوجته وهي حائض فقال، "وأما أنت طلقتها ثلاثا، فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك"، وعند أبي داود عن مجاهد قال: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلاَثًا، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَالَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2]، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلاَ أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطلاق: 1]، فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ".

 

فانظر -يا عبدالله- إلى ما أمرك الله -تعالى- به من الطلاق في الوقت المعتبر، وبالعدد المعتبر وهو الواحدة فقط، فمن خالف في ذلك أثم ووقع الطلاق عند جمهور العلماء، ولو تأملنا في هذا الوقت المعتبر للطلاق، وهو أن تكون المرأة في حال طهر لم تجامع فيه؛ لبانت لنا حكمة عظيمة يرعاها الشرع ويحض عليها، وهي التأني في إيقاع الطلاق، فلا يكون قراراً مرتجلاً يقدم عليه الزوج لأدنى سبب وإن كان تافهاً، بل يكون قراراً قد اتخذ على هدوء وفي حال تروٍ وتفكر، وتكون نفس الزوج قد طابت من زوجته، وعزمت على الفراق، بدليل عدم قربانها في حال طهر كامل.

 

ولو راعى الأزواج هذه الحكمة والتزموا بما شرع الله لقل المطلقون، الذين نراهم ونسمعهم يطرقون أبواب العلماء، ويستفتون هذا وذاك يسألونهم عن طلاق بدعي وقع بالثلاث، أو في حال غضب، أو في حال حيض، وكلهم نادم على ما حصل ويسأل العودة، وهذه شكوى قديمة أشار إليها ابن عباس -رضي الله عنه- حين قال: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَالَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطلاق: 2]، وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلاَ أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا عَصَيْتَ رَبَّكَ وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطلاق: 1]، فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ".

 

والأمر الثاني الذي يجب العلم به: أن الطلاق إذا وقع بطلقة واحدة، وهو المطلوب، فإن الزوجة تعتد حسب حالها، وللزوج مراجعتها ما دامت في عدتها، والرجعة تحصل بالقول وبالفعل، فيبقى مع الزوج وقت آخر للتروي والنظر وإمكان المراجعة في ذلك القرار المتخذ، وهو وقت ليس بالقليل، لعل الزوج أن يراجع نفسه، ويتذكر عشرته مع زوجه التي طلقها، وعساه أن يدرك معاناة أولاده وصغاره.

 

وثالث هذه الأحكام: أن نعلم أن المطلقة تعتد في بيت زوجها ولا يجوز إخراجها منه، استمعوا إلى هذه الآية الكريمة واعتبروا بما فيها من الحكمة والرحمة بالزوجين، والشفقة بهما وبما يجره عليهما الطلاق من الأثر، وتأملوا ما فيها من النهي عن تعدي حدود الله لا سيما في الطلاق: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطلاق: 1]، يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية، عن ابن عباس في قوله -تعالى-: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) قال: لا يطلقها وهي حائض، ولا في طهر قد جامعها فيه، ولكن تتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة، وقوله -تعالى-: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ) أي: في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضاً الخروج؛ لأنها معتقلة لحق الزوج أيضاً"، إلى أن قال -رحمه الله- وقوله -تعالى-: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطلاق: 1]، أي: إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها، ويخلق الله في قلبه رجعتها، فيكون ذلك أيسر وأسهل"، انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

أما في حال الطلاق الثلاث فلا تبقى المطلقة في بيت زوجها؛ لكونها لا تحل له إلا بعد زوج، أخرج النسائي عن فاطمة بنت قيس قالت: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أنا بنت آل خالد، وإن زوجي فلانا أرسل إلي بطلاقي، وإني سألت أهله النفقة والسكنى فأبوا علي، فقالوا: "يا رسول الله، إنه قد أرسل إليها بثلاث تطليقات"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة".

 

أرأيتم -يا عباد الله- ما في تشريع الطلاق من الرحمة والحكمة إن هو وقع كما شرع الله -تعالى-، ومن تعدى حدود الله فيه ندم وأثم وتعرض للوعيد؛ (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[الطلاق: 1]، فالوفاء الوفاء -يا معشر الرجال-.

 

ومن الوفاء أن يكون الطلاق في حال إيقاعه طلاقاً شرعياً وفق السنة، فربنا -سبحانه- يقول بعد آية الطلاق السابقة: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)[الطلاق: 2] أي: قاربت العدة على الانقضاء، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[الطلاق: 2] أي: بحسن صحبة، (فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)[الطلاق: 2] أي: من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن، كما قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-.

 

نسأل الله -تعالى- الفقه في الدين، والحسن في الخلق والمعاشرة، والحمد لله رب العالمين.

 

المرفقات

الطلاق (2).pdf

الطلاق (2).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات