حياة رسول الله قبل البعثة: "من البلوغ إلى النبوة"

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2021-06-11 - 1442/11/01 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/مشاركة صلى الله عليه وسلم رجال القبيلة في مهماتهم 2/حضور مجامع الخير وحفظ ما جرى فيها 3/رعي الأغنام والعبرة منه 4/التجارة لخديجة رضي الله عنها 5/أصدقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة 6/صفات تميز بها رسول الله قبل البعثة 7/إضاءات تربوية من حياته قبل البعثة.

اقتباس

وَفِي ذَلِكَ تَرْبِيَةٌ عَلَى تَرْكِ الِاتِّكَالِ عَلَى الْآخَرِينَ، وَإِبْعَادٌ لِلنَّفْسِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَالَةً عَلَى غَيْرِهَا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَكَمْ فِي هَذَا مِنْ إِرْشَادٍ لِلشَّبَابِ لِأَنْ يَسْعَوْا إِلَى الْعَمَلِ وَكَسْبِ الرِّزْقِ وَإِعَالَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُسَرِهِمْ، حَتَّى لَا يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّهَا حَيَاةٌ مَعْمُورَةٌ بِالنَّقَاءِ فِي ابْتِدَائِهَا وَانْتِهَائِهَا، مَكْسُوَّةٌ بِالْعَظَمَةِ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِهَا، حَيَاةٌ لَا تُشْبِهُهَا حَيَاةُ سَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ صَفَاءً وَجَلَالًا، وَلَا تَبْلُغُهَا جَمَالًا وَكَمَالًا؛ إِنَّهَا حَيَاةُ سَيِّدِ الْبَشَرِيَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

 

وَإِذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ بَعْدَ الْبِعْثَةِ قَدْ أَشْرَقَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ فَصَارَتْ وَاضِحَةَ الْبَهَاءِ لِلْقَاصِي وَالدَّانِي؛ فَإِنَّ حَيَاتَهُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ تَحْتَاجُ مِنَّا أَنْ نَقِفَ عَلَى بَعْضِ رَوَابِي سُمُوِّهَا؛ حَتَّى نَسْتَلْهِمَ عِبَرَهَا الْبَلِيغَةَ وَدُرُوسَهَا النَّافِعَةَ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الْجِدِّ وَالْعَزْمِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ؛ فَمُنْذُ نَاهَزَ الْبُلُوغَ انْطَلَقَ لِيُشَارِكَ رِجَالَ قَوْمِهِ فِي بَعْضِ مُهِمَّاتِهِمُ السَّدِيدَةِ، وَيُعِينَهُمْ وَيَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ بَعْضَ أَعْمَالِ الْحَيَاةِ، فَالصَّغِيرُ يَتَعَلَّمُ مِنَ الْكِبَارِ، وَتَقْوَى شَخْصِيَّتُهُ وَتَنْمُو خِبْرَتُهُ بِمُزَاحَمَتِهِمْ فِي أَعْمَالِ الْجِدِّ.

 

فَهَذِهِ حَرْبُ الْفُجَّارِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ، شَهِدَ رَسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقِتَالَ وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً: "شَهِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَ أَيَّامِهِمْ، أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كُنْتُ أَنْبُلُ عَلَى أَعْمَامِي؛ أَيْ: أَرُدُّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إِذَا رَمَوْهُمْ بِهَا؛ يَعْنِي: أَنَّهُ يَجْمَعُهَا وَيُجَهِّزُهَا لَهُمْ لِلرَّمْيِ بِهَا.

 

وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْبِيَةِ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالتَّعَاوُنِ مَعَ قَوْمِهِ وَأُسْرَتِهِ. وَالْأَبْنَاءُ لَابُدَّ أَنْ يُرَبَّوْا عَلَى الْقِيَمِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي مِنْهَا: الْقُوَّةُ وَالشَّجَاعَةُ الَّتِي تَنْتَشِلُهُمْ مِنَ التَّرْبِيَةِ عَلَى الرَّخَاوَةِ الَّتِي تُفْسِدُ مُسْتَقْبَلَ حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يُرَبَّوْا كَذَلِكَ عَلَى تَقْوِيَةِ الرَّابِطَةِ بِأُسَرِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا فِيهَا لَبِنَاتِ بِنَاءٍ وَشَرَفٍ لَا عَوَامِلَ هَدْمٍ وَخِزْيٍ؛ فَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ: "أَنْ عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرَّمْيَ وَالْفُرُوسِيَّةَ".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصًا عَلَى حُضُورِ مُجَالِسِ الْخَيْرِ بَيْنَ قَوْمِهِ وَالِاسْتِمَاعِ لِمَا يَدُورُ فِي تِلْكَ الْمَجَالِسِ وَحِفْظِ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لِيَنْقُلَهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ فَقَدْ حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْبَعْثَةِ حِلْفَ الْفُضُولِ؛ حَيْثُ تَدَاعَتْ إِلَيْهِ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ، وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ، فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيِّ لِسِنِّهِ وَشَرَفِهِ، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ، وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، وَشَهِدَ هَذَا الْحِلْفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالرِّسَالَةِ: "لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ"، وَهَذَا الْحِلْفُ رُوحُهُ تُنَافِي الْحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ الَّتِي كَانَتِ الْعَصَبِيَّةُ تُثِيرُهَا.

 

وَحُضُورُ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- هَذَا الْمَجْلِسَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِنَ التَّعَاوُنِ وَالْقِيَامِ إِلَى نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَكَفِّ يَدِ الظَّالِمِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الْمَائِدَةِ: 2].

 

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟! قَالَ: تَحْجِزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ عَنِ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَتَرَبَّى الْمَرْءُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى خَيْرٍ شَهِدَهُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وِعَائِهِ، وَصَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَبْنَائِهِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ عَمُرَتْ حَيَاةُ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِالْكِفَاحِ وَالْعَمَلِ الدَّؤُوبِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ كَسَلٌ مُقْعِدٌ، وَلَا لَهْوٌ عَابِثٌ؛ فَفِي شَبَابِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- رَعَى الْأَغْنَامَ لِبَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى مَالٍ يَسِيرٍ يَتَحَصَّلُهُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ". فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَفِي ذَلِكَ تَرْبِيَةٌ عَلَى تَرْكِ الِاتِّكَالِ عَلَى الْآخَرِينَ، وَإِبْعَادٌ لِلنَّفْسِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَالَةً عَلَى غَيْرِهَا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَكَمْ فِي هَذَا مِنْ إِرْشَادٍ لِلشَّبَابِ لِأَنْ يَسْعَوْا إِلَى الْعَمَلِ وَكَسْبِ الرِّزْقِ وَإِعَالَةِ أَنْفُسِهِمْ وَأُسَرِهِمْ، حَتَّى لَا يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كَلًّا عَلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَسْوَأَ أَنْ يَصِيرَ الشَّابُّ عَالَةً يُعَالُ وَلَا يُعِيلُ!

 

وَقَدْ تَقُولُونَ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- لِمَاذَا أُلْهِمَ نَبِيُّنَا وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ رَعْيَ الْأَغْنَامِ فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ حِكْمَةٍ؟

 

نَعَمْ، ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِذَلِكَ حِكَمًا كَثِيرَةً، تَرْجِعُ فِي مُؤَدَّاهَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْدَادٌ لِمَطَالِبِ النُّبُوَّةِ؛ "قَالَ الْعُلَمَاءَ: الْحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ: أَنْ يَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْحِلْمُ وَالشَّفَقَةُ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي الْمَرْعَى وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ، وَدَفْعِ عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كَالسَّارِقِ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا وَشَدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا وَاحْتِيَاجِهَا إِلَى الْمُعَاهَدَةِ؛ أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الْأُمَّةِ، وَعَرَفُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا وَتَفَاوُتَ عُقُولِهَا، فَجَبَرُوا كَسْرَهَا وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا، وَأَحْسَنُوا التَّعَاهُدَ لَهَا، فَيَكُونُ تَحَمُّلُهُمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَلَ مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ؛ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّدْرِيجِ عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الْغَنَمِ، وَخُصَّتِ الْغَنَمُ بِذَلِكَ؛ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقَهَا أَكْثَرَ مِنْ تَفَرُّقِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ؛ لِإِمْكَانِ ضَبْطِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ بِالرَّبْطِ دُونَهَا فِي الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَمَعَ أَكْثَرِيَّةِ تَفَرُّقِهَا؛ فَهِيَ أَسْرَعُ انْقِيَادًا مِنْ غَيْرِهَا.

 

وَلَمْ يَقْتَصِرْ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى هَذَا الْعَمَلِ وَحْدَهُ، بَلْ عَمِلَ فِي التِّجَارَةِ مَعَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا وَتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ، مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ: مَيْسَرَةُ، فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ".

 

وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مَكَّةَ، وَرَأَتْ خَدِيجَةُ فِيهِ مِنَ الْأَمَانَةِ وَفِي مَالِهَا الْبَرَكَةَ مَا لَمْ تَرَ مِنْ قَبْلُ رَغِبَتْ بِالزَّوَاجِ مِنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهَذَا دَرْسٌ تَرْبَوِيٌّ فِي الْأَمَانَةِ، وَبَيَانٌ لِأَثَرِهَا الْحَسَنِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُتَّبِعِينَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الْمُقْتَفِينَ لِأَثَرِهِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ رَسُولَنَا الْكَرِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَتْ لَهُ رَوَابِطُ اجْتِمَاعِيَّةٌ عَمِيقَةٌ قَبْلَ بِعْثَتِهِ؛ فَقَدْ كَانَ لَهُ أَصْدِقَاءُ يَجْلِسُ إِلَيْهِمْ وَيَجْلِسُونَ إِلَيْهِ، فَعَرَفُوا مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ فَحَرَصُوا عَلَى دَوَامِ عِشْرَتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ وَأُلْفَتِهِ، حَتَّى لَمَّا بُعِثَ كَانُوا أَسْرَعَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ خَبَرُوهُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَمِنْ أَبْرَزِ أُولَئِكَ الْأَصْدِقَاءِ:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ الْمُكَنَّى بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَكَانَ أَوَّلَ رِجَالِ الْأُمَّةِ إِسْلَامًا"، قَالَ بَعْضُهُمْ فِي سَبَبِ إِسْلَامِهِ: "إِنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ غِشْيَانَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَمُحَادَثَتَهُ".

 

وَمِنْ أَصْدِقَائِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَذَلِكَ: ضِمَادُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَكَانَ ضِمَادُ صَدِيقًا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، وَقَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا.

 

وَمِنْ أَصْدِقَائِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَذَلِكَ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَقَدْ أَسْلَمَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَيْضًا.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ امْتَازَ بِصِفَاتٍ حَسَنَةٍ بَلَغَتِ الْغَايَةَ فِي الْفَضْلِ؛ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ وَالْجِدِّ وَالْهِمَّةِ الْعَالِيَةِ، وَمِنْهَا؛ مَا ذَكَرَتْهُ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي قَوْلِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ: "كَلَّا، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ الْبَعْثَةِ: إِضَاءَاتٌ تَرْبَوِيَّةٌ؛ فَفِيهَا تَرْبِيَةٌ عَلَى الْعَمَلِ وَالْجِدِّ، وَتَرْبِيَةٌ عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَتَرْبِيَةٌ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى طَلَبِ الرِّزْقِ وَعَدَمِ الِاتِّكَالِ عَلَى الْآخَرِينَ، وَتَرْبِيَةٌ عَلَى الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَحُسْنِ الْأَثَرِ بَيْنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَقْرِبَاءِ، وَتَرْبِيَةٌ عَلَى تَعْمِيقِ الرَّوَابِطِ الْحَسَنَةِ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَإِنَّ لِذَلِكَ آثَارًا حَسَنَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

 

فَاقْتَدُوا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- بِنَبِيِّكُمْ تَهْتَدُوا، وَاسْلُكُوا مِنْهَاجَهُ تَرْشُدُوا، وَصَدَقَ اللَّهُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الِاهْتِدَاءِ بِخَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

حياة رسول الله قبل البعثة ..من البلوغ إلى النبوة.doc

حياة رسول الله قبل البعثة ..من البلوغ إلى النبوة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات