حول الرأي والرأي الآخر

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ حرية التعبير في المفهوم العلماني 2/آثار هذا المفهوم في الواقع 3/حرية التعبير من منظور إسلامي 4/الضوابط الشرعية للتعبير عن الرأي 5/واقع برامج حوارات الرأي والرأي الآخر.

اقتباس

من أهم شروط حرية التعبير عن الرأي أن يكون الرأي الذي قاله صاحبه منضبطاً بالضوابط الشرعية، غير مخالف لأصول الشريعة وثوابت الدين والحقيقة, فلا عبرة بكلام يناقض الدين ومسلماته، ولا مجال للاستماع لقول يخالف العقل والمنطق الصحيح؛ لأن هذا من الخبل الذي يجب أن يلغى ويطوى ولا يروى، ولا يصح أبداً أن يُذكر...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

 

أما بعد:

 

عباد الله: قضية شائكة تحير فيها كثير من الناس، وخفي عليهم حكمها في الشريعة الإسلامية، وصاروا يسمعونها تتردد كثيراً في وسائل الإعلام ولكنهم لا يدرون ما الموقف الشرعي منها؟ إنها قضية حرية التعبير، أو ما يسمى اليوم بالرأي والرأي الآخر.

 

إن هذه القضية لها مفهوم صحيح شرعي ينضبط بالضوابط الشرعية والأحكام الصحيحة، ولها مفهوم آخر عرفي لا زمام له ولا خطام، وهو المفهوم السائد لدى كثير من الناس، ويعنون به الحرية المطلقة في التعبير بما شاؤوا دون حدود أو ضوابط.

 

وهذا هو المفهوم الغربي العلماني لحرية التعبير، حيث يعنون به أن يتمتع الإنسان في الجهر بما يريد أن يتفوه به، ويقول ما شاء أن يقوله، ويتكلم بما يخطر في باله، وله الحق الكامل في القول بكل ما يريد ولو أن يتكلم في مسلمَات شرعية، أو ثوابت عرفية، أو مسائل محكمة مفرغ منها، أو أمور تناقض العقل وتخالف الحقيقة.

 

ولهذا نراهم يسبون الدين باسم حرية التعبير، ويتعالون على المقدسات باسم الرأي والرأي الآخر، ويشتمون الأنبياء ويسخرون منهم باسم حرية التعبير، ويقلدهم في ذلك أذنابهم من العملاء والمنافقين الذين يتبعونهم في كل شيء، ويقلدونهم في كل صغيرة وكبيرة، وينظرون لهم بنظرة إعجاب واستحسان.

 

لقد كفل الإسلام حرية التعبير، وأفسح المجال للناس في الحرية في التعبير عن مواقفهم وآرائهم وجهرهم بالحق، وإسدائهم للنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدد لكل ذلك أحكاماً تنضبط بها وحدوداً تحدها، حتى تنضبط الأمور وتتحدد بضوابطها وأحكامها.

 

فلو التزام المسلمون بذلك في حواراتهم وكلامهم لأفلحوا وسعدوا، واختفت كل مظاهر التبجح والاضطرابات التي يشاهدها كل متابع في كثير من الأطروحات والبرامج المعَدة لتبادل الآراء وتعاطي الحوارات.

 

إن من جمال الإسلام وكمال الشريعة أن المُشرع الحكيم قد نص على هذا الأمر، وذكر هذا الموضوع، ووردت أدلة كثيرة تتعلق بموضوع حرية التعبير والرأي والرأي الآخر. يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العظيم: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل : 116].

 

هذه أول الضوابط التي ذكرها الله في التعبير عن الرأي، وهي أن يكون المعبر عن رأيه من أهل العلم والاختصاص، فالمجال ليس مفتوحاً لكل من هب ودب أن يتكلم فيما يشاء وكيف يشاء. وإنما يتكلم في كل مجال أهله، ويتحدث في كل علم أربابه، حتى لا تفلت الأمور، ويضيع العلم، وتكثر التناقضات، وتختلف الآراء، وتظهر الاضطرابات والمشاكسات.

 

ولهذا أمر الله -سبحانه وتعالى- بسؤال أهل العلم دون غيرهم من الناس فقال: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل : 43]؛ لأن ما يقوله غيرهم يعتبر لا قيمة له، ولا وزن لحديث متحدث في غير فنه، وقديماً قالوا: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب".

 

وكذلك إبداء الرأي والتعبير عنه لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه، حتى ذكر فقهاء الإسلام وعلماء الشريعة أنه يُشرع الحَجْر على المتطبب الجاهل الذي يداوي الناس بجهل دون دراية ولا علم، فإذا كان هذا في مجال علاج الأبدان فكيف بمن يفسد العقول والقلوب بآرائه وانحرافاته؟

.

لقد جعل الله -تبارك وتعالى- القول عليه بلا علم ولا دليل من أكبر الكبائر وأشد الذنوب، فقال مبتدئا بذكر الذنوب الأشد فالأشد: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : 33] فذكر القول على الله بغير علم بعد الفواحش والاثم والبغي والإشراك بالله، فعُلم أنه أشدها وأخطرها.

 

كما أن من شروط وضوابط التعبير عن الرأي أن يكون المعبر عن رأيه قاصداً الحق والخير، ويريد بذلك الاجتهاد والصواب، وليس من أهل الأهواء الذين يحبون أن يخالفوا ليعرفوا، أو ممن يحبون الغرائب وتتبع الآراء الشاذة، والقول بالأقوال النادرة والمخالفة.

 

يقول الله -سبحانه وتعالى- في معرض رده عن المشركين المتبعين لأهوائهم الفاسدة وآرائهم الشاذة: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) [النجم : 23].

 

فاتباع الظن، وسلوك مسالك الهوى، ومعاندة الحق وأهله، واتباع الشبهات والمشتبهات، كل ذلك يناقض الصواب ويخالف الحق الذي أمر الله باتباعه والالتزام به، وصاحب ذلك لا يعتد بقوله ولا وزن لحديثه وآرائه.

 

كما أن من أهم شروط حرية التعبير عن الرأي أن يكون الرأي الذي قاله صاحبه منضبطاً بالضوابط الشرعية، غير مخالف لأصول الشريعة وثوابت الدين والحقيقة, فلا عبرة بكلام يناقض الدين ومسلماته، ولا مجال للاستماع لقول يخالف العقل والمنطق الصحيح؛ لأن هذا من الخبل الذي يجب أن يلغى ويطوى ولا يروى، ولا يصح أبداً أن يُذكر أو يقال.

 

يقول الله -تبارك وتعالى- منتقداً أهل الكتاب -يعني اليهود والنصارى- بسبب محاجتهم بالباطل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [آل عمران : 65]، فدعاهم أن يرجعوا إلى عقولهم ورشدهم، وأن لا يحاجوا في أمور غير مقبولة شرعاً ولا مستساغة عقلاً.

 

ولهذا قيل:

 

وليس كل خلاف جاء معتبراً *** إلا خلاف له حظ من النظر

 

ومن ضوابط إبداء الرأي أن لا يستبد صاحب الرأي برأيه، أو يفرضه على الناس، إذا كان هذا مجرد رأي اجتهادي قد يحتمل الصواب وقد يحتمل الخطأ, فلا يجوز له هنا أن يفرض هذا الرأي أو أن يلزم الناس باتباعه، أو يعرضه وكأنه صواب محض لا يحتمل الخطأ.

 

فكل رأي لم يستند على دليل قاطع في الشريعة؛ فإنه لا يسوغ لقائله أن يستبد به ويحتكر الصواب فيه. يقول الإمام مالك -رحمه الله-: " كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" وأشار بيده إلى قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالقول ما دامه لشخص غير معصوم فالخطأ عليه وارد، والخلاف سائغ والإنكار ممنوع.

 

قلت ما سمعت، واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

أيها الناس: بعد هذا العرض السريع لحدود التعبير عن الرأي وضوابطه يتبين لنا أن كثيراً من الحوارات التي تعرض اليوم وجلسات ما يسمى بالرأي والرأي الآخر لا تنضبط بهذه الحدود والضوابط، وإنما تمشي على النهج العلماني في الحوار، فكل شيء مفتوح وممكن التحاور فيه بدون قيود ولا حدود.

 

ومن هنا فإن الإنسان المسلم العاقل اللبيب لا يجوز له أبداً أن يشارك في مثل هذه الحوارات التافهة، ولا أن يتفاعل معها أو يثريها؛ لأنها أصلاً متفلتة لا زمام لها ولا خطام.

 

لقد عارض النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً كان يحاوره فلم ينضبط بضوابط الحوار، ولم يلتزم بآدابه في مجرد كلام مسجوع أتى به على وزن واحد، فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه ذمه ونهاه. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ, فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ -عَبْدٌ, أَوْ وَلِيدَةٌ- وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا, وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ, فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ وَلا أَكَلَ, وَلا نَطَقَ وَلا اسْتَهَلَّ, فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ" [البخاري (5758)، مسلم، رقم (1681)].

 

إن حمل بن النابغة الهذلي كان يحاور النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن هاتين المرأتين، فلما حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن دية الجنين تكون عبد أو أمة, استغرب حمل الهذلي من هذا الحكم، وكيف يُغرّم في جنين لم يولد بعد ولم يستهل صارخاً، وأخذ يأتي بتلك العبارات المسجوعة, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما هو من إخوان الكهان" بسبب هذا السجع الذي فيه تلميح بالجدل العقيم المذموم في الحوار، في أمر قد قضاه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب : 36].

 

صلوا وسلموا على من أمركم الله – جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

 

 

المرفقات

الرأي والرأي الآخر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات