عناصر الخطبة
1/جمع المؤمنين بين الخوف والرجاء 2/وجوب حسن الظن بالله تعالى 3/ سوء الظن بالله من كبائر الذنوب 4/الوسائل والطرق الموصلة إلى رحمة الله كثيرة 5/الحث على تغليب الرجاء على الخوف 6/المعينات على حسن الظن بالله تعالى.اقتباس
إذا فَعَلَ العبد ما يوجب له فَضْلَ الله ورحمَتَه، فيعمل الصالحاتِ ويُحسن الظنَّ بأنَّ الله -تعالى- يُقبل منه ذلك، أمَّا أنْ يُحسِنَ الظنَّ وهو لا يعمل؛ فهذا من باب التَّمنِّي على الله، ومَنْ أتْبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني فهو عاجز. وبعضُهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أطمع الله -تعالى- عباده في رحمته ورغَّبهم في عفوه, وعلَّق آمالهم في مغفرته: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
فمن أخلاق المؤمنين أنهم يجمعون بين الخوف والرجاء؛ يخافون من المعاصي التي ارتكبوها, ويرجون رحمةَ ربِّهم, وعفوه ومغفرته, مقروناً بالعمل بالطاعات, وقال -سبحانه-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 156]؛ دلَّت هاتان الآيتان على وجوب حسن الظن بالله -تعالى-, ويقابله ظَنٌّ مُحرَّم, وهو سوء الظن بالله –سبحانه-, وهو من كبائر الذنوب.
لذا أوضح الله -تعالى- أن المؤمن ليس من شأنه اليأس والقنوط من روح الله -تعالى-, فقال -تعالى-: (إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)[يوسف: 87}؛ وقال -سبحانه-: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ)[الحجر: 56]. الذين لا علم لهم بربهم، وكمال اقتداره -سبحانه-, وأما مَنْ أنعم الله عليه بالهداية والعلم, فلا سبيل للقنوط إليه؛ لأنه يعلم أن الأسباب والوسائل والطرق الموصلة إلى رحمة الله كثيرة جداً بحيث لا يُمكن إحصاؤها.
وفي الحديث القدسي: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" (رواه البخاري ومسلم).
فالله -تعالى- أكثر كرماً وأسرع إجابةً من عبده.
وفي حديثٍ آخَر: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ, وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ" (صحيح: رواه أحمد)؛ دلَّ هذان الحديثان على أن الله -تعالى- يُعامل عبده على حسب ظنِّه به, وما يتوقَّعه منه من خير أو شر.
عباد الله: متى يكون العبد مُحسناً الظنَّ بالله -عز وجل-؟ يكون كذلك إذا فَعَلَ ما يوجب له فَضْلَ الله ورحمَتَه، فيعمل الصالحاتِ ويُحسن الظنَّ بأنَّ الله -تعالى- يقبل منه ذلك، أمَّا أنْ يُحسِنَ الظنَّ وهو لا يعمل؛ فهذا من باب التَّمنِّي على الله، ومَنْ أتْبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني فهو عاجز.
وبعضُهم يتَّكل على حُسن ظنه بربِّه ويعتمد عليه مع إقامته على المعاصي, مُتناسياً ما توعَّد الله به مَنْ وقع في مساخطه وما يغضبه, وغافلاً عن الخوف من الله -تعالى- حتى وقع في الغرور.
إذاً؛ حُسْنُ الظنِّ بالله -تعالى- يقتضي حُسْنَ العمل, فهو يصوم ويُصلِّي ويَتصدَّق ويفعل الخيرات, ثم يُحسن الظنَّ بأنَّ الله -تعالى- يقبلها منه, أمَّا أن يُحسن العبدُ ظَنَّه بالله -تعالى- مع مُبارزته له بالعصيان؛ فهذا دأب العاجزين الذين ليس عندهم رأس مال يرجعون إليه, قال ابن القيم –رحمه الله-: "ولا ريب أنَّ حُسْنَ الظنِّ إنما يكون مع الإحسان, فإنَّ المُحسِن أحْسَنَ الظنَّ بربِّه أنْ يُجازيه على إحسانه, ولا يُخلف وعده, ويَقْبل توبته, وأمَّا المسيء المُصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسن الظنِّ بربِّه".
إخوتي الكرام: تأمَّلوا هذا الحديث القدسي جيداً, الذي خاطب اللهُ -تعالى- فيه بني آدم جميعاً: "يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي؛ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاء, ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي؛ غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" (حديث حسن: رواه الترمذي).
والمراد من الحديث: الحث على تغليب الرجاء على الخوف, وحُسنِ الظنِّ بالله -تعالى-, قال بعض أهل العلم: معنى حسن الظن بالله -تعالى-: أنْ يظن أنه يرحمه, ويعفو عنه. فالعبد الذي أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي, مهما عظمت ذنوبه, حتى لو وصلت السماءَ بكثرتها, ثم استغفر اللهَ -تعالى- بصدق وإخلاص وافتقار؛ غَفَرَ الله -تعالى- له على ما كان منه من ذنوب وآثام, ولا يُبالي -سبحانه-؛ بشرط أن يرجو مغفرةَ الله -تعالى- ولا ييأس من رحمة الله -تعالى-, واللهُ -تعالى- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وكذلك يجب أن يكون حُسن الظن مُصاحباً للمرء في كل ما يعرض له في الدنيا من الشدائد؛ فإذا ابتُلِيَ بمرض, أو خَسِرَ مالاً, أو فَقَدَ حبيباً؛ وَجَبَ عليه أن يُحسن الظن بالله -تعالى-, ولا يقنط من رحمته, ولا ييأس أبداً, بل يستيقن أنَّ الله -تعالى- ابتلاه؛ ليرفع به درجاته, أو يدفع عنه شرًّا أعظم ممَّا ابتلاه به, أو يعوِّضه خيراً ممَّا فَقَدَ عاجلاً أو آجلاً, مصداقه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُصِبْ مِنْهُ" (رواه البخاري). أي: يبتليه بالمصائب؛ لِيُثِيبَه. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ, وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ, فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا, وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ" (حسن: رواه الترمذي وابن ماجه).
وبعض المسلمين -للأسف- ساء ظنُّهم بالله -تعالى-, ووقعوا فيما وقع فيه الكفار والمنافقون الذين ظنُّوا بالله غيرَ الحقَّ ظنَّ الجاهلية, قال ابن القيم –رحمه الله-: "فأكثر الخلق - بل كلُّهم إلاَّ مَنْ شاء اللهُ - يَظُنُّون باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ السَّوْءِ، فإنَّ غالبَ بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ, وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّي، ومنعني ما أستحقُّ، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره, ولا يتجاسرُ على التصريح به.
ومَنْ فَتَّشَ نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها؛ رأى ذلك فيها كامِناً كُمونَ النار في الزِّناد، ولو فتَّشت مَنْ فَتَّشْتَه، لرأيتَ عنده تعتُّباً على القَدَر ومَلامَةً له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُسْتقِلٌّ ومُسْتكثِر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم مِن ذلك؟".
أيها المسلمون: كان سلفنا الصالح أحرص الناس على حُسن الظن بالله -تعالى-, وكانوا يتواصون في ذلك, قال ابن مسعود –رضي الله عنه-: "واللهِ الذي لا إله إلاَّ هو؛ ما أُعطُيَ عبد مؤمن قَطُّ شيئًا خيراً من حُسن الظن بالله -تعالى-. واللهِ الذي لا إله إلاَّ هو؛ لا يُحسِنُ عبدٌ الظنَّ بالله إلاَّ أعطاه اللهُ ظَنَّه، وذلك أنَّ الخير بيده".
وكان سعيد بن جُبير –رحمه الله – يدعو: "اللَّهُمَّ! إنِّي أَسْأَلُك صِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْك, وَحُسْنَ الظَّنِّ بِك".
الخطبة الثانية
الحمد لله ...
أيها المسلمون: مما يبعث على حُسن الظن بالله -تعالى-: أنه من الأمور التي أوصى بها النبي -صلى الله عليه وسلم-, بقوله: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (رواه مسلم).
قال النووي –رحمه الله-: "معنى تحسين الظنِّ باللهِ -تعالى-: أنْ يَظُنَّ أنَّ الله -تعالى- يرحمه, ويرجو ذلك؛ بتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرمِ اللهِ -تعالى- وعفوِه, وما وَعَدَ به أهلَ التوحيد, وما سيبدلهم من الرحمة يوم القيامة, هذا هو الصواب في معنى الحديث, وهو الذي قاله جمهور العلماء".
وقال معتمر بن سليمان: "قال لي أبي - عند موته: يا معتمر! حدثني بالرُّخص؛ لَعَلِّي ألقى اللهَ -تعالى- وأنا حَسَنَ الظنِّ به".
وعن حصين عن إبراهيم قال: "كانوا يستحِبُّون أنْ يُلَقِّنوا العبدَ مَحاسِنَ عملِه عند موته؛ لكي يُحْسِنَ ظنَّه بربِّه -عز وجل-".
ومما تقدَّم يتبين أنَّ حُسن الظن بالله -تعالى- يجب أن يكون صفةً للمؤمن طيلة حياته, ويتأكَّد أكثر عند مماته, حتى يأتيه الموت وهو محبٌّ للقاء الله -تعالى-؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ؛ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ" (رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: إنَّ حُسْنَ الظن بالله -تعالى- يرتبط ارتباطاً كبيراً بنواحٍ عقدية وسلوكية, فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوكل على الله -تعالى-, وقد جعل ابنُ القيم – رحمه الله – حُسْنَ الظنِّ بالله أَحَدَ درجات التوكل, فقال: "الدرجة الخامسة: حُسْنُ الظنِّ بالله -تعالى-, فعلى قَدْرِ حُسْنِ ظنِّك بربِّك ورجائك له يكون توكُّلُكَ عليه, ولذلك فَسَّرَ بعضُهم التوكُّلَ بحسن الظن بالله. والتَّحقيقُ: أنَّ حُسن الظنِّ به يدعوه إلى التوكل عليه؛ إذ لا يُتَصَوَّر التوكل على مَنْ ساء ظنُّك به, ولا التوكل على مَنْ لا ترجوه".
فعلى المرء أن يحذر كلَّ الحذر من سوءِ الظنِّ بالله -تعالى-؛ لأنه من أخلاق الكفار والمنافقين؛ الذين توعَّدهم الله -تعالى- بقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[الفتح:6].
قال السعدي –رحمه الله-: "لا يتم للعبد إيمانٌ ولا توحيد حتى يعتقد جميعَ ما أَخبر اللهُ به أنْ يفعله, وما وَعَدَ به من نصر الدِّين, وإحقاقِ الحق, وإبطال الباطل، فاعتقادُ هذا من الإيمان، وطُمأنينة القلب بذلك من الإيمان. وكلُّ ظَنٍّ يُنافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية المنافية للتوحيد؛ لأنها سوء ظَنٍّ بالله, ونفي لكماله، وتكذيب لخبره, وشكٌّ في وعده".
ومَنْ ظنَّ بالله -تعالى- ما لا يليق به أَرْدَاه وجعل مثواه النار, وهو من الخاسرين في الدنيا والآخرة, قال -سبحانه-: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ)[ص: 27]؛ وقال -تعالى-: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ)[فصلت: 22, 23].
وقد جعل ابن القيم –رحمه الله– سوءَ الظنِّ بالله -تعالى- من أسباب ارتكاب المُحرَّمات، فقال: "ما أخذ العبدُ ما حُرِّمَ عليه إلاَّ من جهتين: إحداهما: سوءُ ظنِّه بربه, وأنه لو أطاعه وآثَرَه لم يُعطِه خيراً منه حلالاً".
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم