حسن الظن

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ اعتناء الإسلام بالأخلاق الحسنة وإحسان الظن بالآخرين 2/ آثار سيئة مترتبة على سوء الظن 3/ الهدْي النبوي في إحسان الظن بالناس 4/ نماذج تبين إحسان السلف بالناس ظناً وتعاملاً 5/ أنواع الظن بحسب أحكامه 6/ كيفية معالجة النفس من سوء الظن بالآخرين

اقتباس

هذه القلوب -أيها الإخوة الكرام- التي امتلأت بحب الإحسان إلى الناس، امتلأت بحسن الظن بالآخرين، امتلأت بأن يحزن مع الحزين، ويكتئب مع المكتئب، ويبكي مع الباكي ويفتقر مع الفقير؛ أن يشعر أن حاجة الناس هي حاجته، أن يشعر بأن أخطاءهم التي يقعون فيها ربما هو محاسَب عليها إذا لم يصلحها، ولم يقم بها ولم يقم بالعناية بهم إذا وقعوا فيها ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والنظير، وأشهد أن مُحَمَّداً عبده ورسوله، وصفه وخليله، وخِيرَتُه من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربُّه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، و كَثَّر به بعد القِلَّة، وأَغْنَى به بعد العَيلة، ولمَّ به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتَّصَلَتْ عَيْنٌ بنظَر، ووعَت أذن بخبَر، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: أمَر اللهُ تعالى جميع أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- بأن يُرَبُّوا الناس على الفضائل، وينهوهم عن الرذائل وكان من دعاء نبي الله إبراهيم -عليه السلام- أنه قال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة:129].

فطلب إبراهيم -عليه السلام- من رب العالمين الملك العلام بأن يبعث في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً منهم وهو -محمد عليه الصلاة والسلام-؛ ليعلمهم الكتاب والحكمة، ولأجل أن يزكيهم، يعني يربيهم على حسن الأخلاق وينهاهم عن سيئها.

فبيَّن الله حال العلماء فقال -جل وعلا-: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران:79]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كونوا ربانيين، أي علِّموا الناس بصغار العلم قبل كباره، وربوهم عليه.

فأمر الله تعالى بتربية الناس على الأخلاق الحسَنَةِ من حُسن الظن بالآخرين، وعدم السوء بهم، والإحسان إليهم، وكفّ الأذى عنهم؛ وبيَّنَ الله -جل وعلا- فضل ذلك في كتابه، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مثل هذا الخلق الحسَن يرفع الله تعالى به صاحبَه درجات.

أيها الإخوة الكرام: وإن مما بدأ ينتشر اليوم في زماننا خلق من الأخلاق السيئة قال الله تعالى فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات:12]، فأمر الله تعالى باجتناب أكثر الظن حتى لا يقع المرء في سوء الظن.

وإذا نظرت اليوم في واقعنا فستجد أن سوء الظن له تأثيرٌ سيِّءٌ في الواقع، فكم طُلِّقَتْ من زوجات! وكم فشلت من تجارات بسبب سوء الظن! وكم ضُيعت من أموال! وكم شُرد من عيال بسبب سوء الظن! وكم أزهقت من أرواح، وكم سُجن من أشخاصٍ بسبب سوء الظن، وكم وقعت من خصومات ومن مشكلات كبار بسبب سوء الظن، وكم عُصِيَ الملِكُ العلَّام، وقُطِّعَت الأرحام، بسبب سوء الظن.

فلله العجب مما يفعله سوء الظن في الأزواج، وبين الأبناء وآبائهم، وبين الجيران! بل ربما دخل أحيانا بين طلبة العلم فقطع الأوصال التي بينهم، وبدل أن يتعاونوا على البر والتقوى ربما بدأ بعضهم يكيد للآخر، ويشتغل بعرضه، وينهى الناس عن اتباعه أو الصلاة معه!.

لذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الظن عموماً، ويقول -عليه الصلاة والسلام- :"إياكم والظنَّ!" يعني: إياك أن تظن شيئاً ثم تتخذ قراراً في حياتك بناءً على هذا الظن، قال: "إياكم والظنَّ! فإن الظن أكذب الحديث"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكانوا عباد الله اخواناً" رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد.

فقوله -عليه الصلاة والسلام- :"إياكم والظن"، ثم قوله بعدها: "ولا تجسسوا"؛ لأن الإنسان إذا ظن شيئاً بامرأته ظن ظناً سيئاً، أو ظنه ربما بجاره أو ظنه بأخيه أو بولده، أو ظنته الزوجة بزوجها، أو الولد بأبيه، بدأ بعد ذلك يقع في أنواع من المعصية فجره ذلك إلى التجسس عليه، جره ذلك إلى التحسس، وهو أن يبدأ يسأل الناس: هل رأيتم فلاناً يفعل كذا؟ هل علمتم أنه يفعل كذا؟ هل ظننتم أنه يفعل كذ؟ فيتجسس بنفسه، ويتحسس الأخبار عند الآخرين.

ثم بعد ذلك يقع في التدابر، في أن يدبر عن إخوانه وأن يقاطعهم، فقال -صلى الله عليه وسلم- هنا: "إياكم والظن!"، ثم بيَّن عاقبة هذا الظن فقال: "ولا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكانوا عباد الله إخوانا".

وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حريصا على أن يربي أصحابه دائما على حسن الظن بالآخرين، وتربى الصحابة على ذلك فعلا، ألم تر أن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يقول للناس جميعاً، مع قدرته وخلافته وقوته وقدرته على أن يأخذ بالظن كما يشاء، لكنه كان يحذر ويقول لأصحابه: "لا تظُنَنَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها من الخير مَحْمَلاً".

بمعنى: أحسِن الظن في كل الناس، رمى عليك كلمة، أو تصرف بتصرف، أو كتب كتاباً، فاحمل هذه الكتابة على أحسن المحامل، قال: "لا تظن بها شراً أو سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا".

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغرس حسن الظن في أصحابه في قوله وبفعله، ألم تر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يخرج إلى فتح مكة، وكان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، إذا أراد أن يغزو مكة بدأ يسأل أصحابه عن الطريق إلى الشام، وما هي القبائل التي تقابلهم هناك؟ ويسألهم عن الآثار التي في الطريق، ثم يقول: تجهزوا للقتال، فيظن من يظن ما دام أنه سأل عن طريق الشام معناه أنه سيغزو في الشمال.

وإذا به يسير بهم في الشمال شيئاً يسيراً، ثم يلوي بهم إلى الجنوب، من باب الحنكة والحكمة العسكرية، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يسأل أصحابه عن الطرق إلى الشام وهو يريد أن يفتح مكة، لكنه يريد أن يبغتهم هناك حتى لا تسفك الدماء، ولا تزهق الأرواح، فقد يفتحها فتحاً سليما إذ لم يتجهزوا لقتاله.

لكن حاطب -رضي الله تعالى عنه- وهو صحابي بدري من خيار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقع في نفسه أنه يريد فتح مكة لما رأى من نقض قريش لصلح الحديبية، ومجيء أقوام يشتكون إليه -عليه الصلاة والسلام- من نقضها، ثم إذا به -عليه الصلاة والسلام- يقول بأن تجهزوا للحرب، ويُظهِر أنه يريد الشام.

فكتب حاطب كتاباً إلى أهل مكة يقول فيه: إني أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتهيأ لحرب، ولا أراه إلا يريدكم، ولا أظنكم تقدرون عليه أبداً؛ ثم أخذ الكتاب وأعطاه لامرأة وأمَرَها أن تذهب به لأهل مكة.

ولقد نُبِّئ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فدعا -عليه الصلاة والسلام- علي بن أبي طالب والزبير والمقداد -رضي الله تعالى عنهم- وقال: "اذهبوا، ستجدون امرأة في روضة خاخ معها كتاب إلى أهل مكة فجيئوا به".

ومضى الصحابة الكرام، وإذا بامرأة على ظعينة، على دبتها في تلك الروضة كما أخبر -عليه الصلاة والسلام-، فأقبلوا إليها وأوقفوها وطلبوا منها أن تُخرج الكتاب فأنكرت، وِفتشوا الرحل وبين طعامها فلم يجدوا شيئاً، فقال لها علي -رضي الله عنه-: والله ما كذَبَنَا! ولا كذَبنا! والله إن معكِ كتاب، فإما تخرجين الكتاب، أو تُنْزَعَنَّ الثياب نبحث في جسدك. فلما رأت منه الحزم قالت لهم: تنحّوا عني، ثم كشفت حجابها وأخرجته من تحت شعرها، وأعطته لهم.

فأخذوه إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وهو جالس بين أصحابه، وهو -عليه الصلاة والسلام- لا يقرأ، فأعطاه لمن يقرأ، فلما قرأ فإذا هو مِن حاطب بن أبي بلتعةَ إلى من يراه من قريش، وإذا هو يخبرهم بغزو النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم. خيانة عسكرية بكل المقاييس!.

فلما قرأ على النبي -عليه الصلاة والسلام- نظر النبي إليه والصحابة ينتفضون حقدا وغيظاً: كيف تخبر أعداءنا بأسرارنا؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما هذا يا حاطب؟" وهو -عليه الصلاة والسلام- المتَرَوِّ الذي لا يتصرف بعجلة، ويحسن الظن في كل الناس.

قال: يا رسول الله! لا تعجل عليّ، يا رسول الله إني كنت امرأً ملحقا بقريش، أنا لست من قريش لكن جئت وسكنت مكة بينهم، ليس لي قبيلة أنتسب إليها تمنعني، وليس لي فخد من نسب يحمي أهلي، وأنا لي أهل وأولاد في مكة أفكر فيهم دائما، فأردت يا رسول الله أن أصنع يداً عند قريش يُحسنون بها إلى أهلي، ويكفون أذاهم عني؛ وأعلمُ أن الله ناصرك.

قال بعض الصحابة: يا رسول الله! أنا أقوم إليه فأقتله؟! أيّ خطأ أعظم، وجريمة أكبر من أن يُفشِي سرَّنا إليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا، لقد صدَقَكم"، صدق فعلا الرجل، ما ناطح ولا أبغض إلا للدين، ولا رغب في نصرة المشركين صدقاً، لكن غلبته عاطفته الأبوية، وطبيعته البشرية؛ فأخرج شيئاً من أسرارنا في هذا الكتاب.

ثم التفت وقال: "ما يُدريك يا عمر! لعلَّ اللهَ اطَّلَع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم"، ثم عفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، إنه يُحسن الظن به، وهو قد كتب إلى أعدائه ما كتب!.

وكان -عليه الصلاة والسلام- يحسن الظن بكل الناس، عن عمر -رضي الله تعالى عنه- كما في البخاري أن رجلا كان اسمه عبد الله، وكان يدعى حماراً لقوته وجلده، وكان يشرب الخمر أحيانا، فيأتي به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيُجْلَد.

فجيء به يوما إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فأمَر بجلده، فلما جُلد وخرج قال بعض الصحابة: لعنه الله! ما أكثر ما يؤتى به! فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم وقال: "لا تلعنوه"، يُحسِن الظن به، ينظر إلى الجانب المشرق من حياته، قال: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله".

لا تلعنوه! صحيح أنه يشرب خمراً ويقع في هذه المعصية ويعاقَب عليها، ولا يتوب ويعود إلى الخطأ في كل مرة، لكن فيه خصلة ربما لا توجد في آخرين، إنه يحب الله ورسوله! يعني حباً صادقاً، إيماناً تاماً. فكان -عليه الصلاة والسلام- ينبه على أن يُتعامل مع الآخرين بحسن الظن، وهكذا كان أصحابه الكرام.

وعن بريدة بن الحصيب، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مر يوما في طريق، فقام رجل إليه وشتمه، شتم ابن مسعود، فقال له عبد الله بن مسعود: أمَا إذ قلت ذلك وشتمتني فإن فيَّ ثلاث خصال: ما قرأت آية في كتاب الله إلا وددت أن جميع الناس يعلمون فيها مِن العلم ما أعلمه. محبة للخير للآخَرين، يريد لكل الناس أن يأخذوا مثل العلم الذي عنده، ليس كما قال الأول لما تكلم عن نفسه: إذَا بِتُّ روْياناً فلا هَطَلَ القَطْرُ!.

قال: إن في ثلاث خصال: ما قرأت آية من كتاب الله إلا وددت أن الناس علموا منها مثل الذي علمت، ولا نُقل إليَّ حكْم حاكم بالعدل إلا وددت له الخير وفرحت بذلك، وإن لم أقاض يوما من الدهر. حتى ولم أتقاضَ عنده أفرح أن هناك حاكماً أو قاضياً يحكم بالعدل.

قال: والثالثة أني ما سمعت بالمطر نزل في بلد فخصِبَتْ إلا فرحت لأهلها بهذا الخصب، وإن لم يكن لي فيها سائمة. لست أفرح لأن دوابي سوف تشبع، لكن أفرح للناس أن تشبع دوابهم، وأن تحسن أموالهم، وهذا من حب الخير للناس.

معروف الكرخي -رحمه الله تعالى- مر يوما وهو راكب زورقا في قارب يقطع النهر، وإذا فيه شباب معهم آلات عزف يضربون عليها ويغنون ويرقصون، فقال بعض أصحابه له: انظر إلى هؤلاء العصاة، ادعُ عليهم. فرفع يديه وقال: اللهم كما فرَّحْتَهُمْ في الدنيا ففَرِّحْهُم في الآخرة، وتبْ عليهم يا ربي، فقالوا له: سبحان الله! نقول لك ادعُ على هؤلاء العصاة وتقول: يا رب كما فرحتهم في الدنيا فرحهم في الآخرة أيضا! فقال: هل يضركم أن يتوب الله عليهم فيعملون صالحاً ويفرحون في الآخرة؟ إنَّ حب الخير للآخرين وحسن الظن بما في قلوبهم من الخير.

يقول ثري الثقفي رحمه الله تعالى قال: لقد قلت يوماً كلمة الحمد لله، ولا أزال أستغفر من قولي لها. قالوا له: سبحان الله! تقول الحمد لله وتستغفر من قولها وهي ذكر؟ قال: نعم. قيل له: كيف؟ قال: وقع حريق في البلد فجاء إلي رجل وقال إن الحريق قد أكل السوق، لكن نجا حانوتك، يعني سلم دكانك ما احترق، فقلت: الحمد لله.

قال: ثم تفكرت بعدها وإذا أنا فرِحٌ بسلامة مالي دون أن ألتفت لسلامة مال الناس، ما دام مالي سلم فالحمد لله أنا فرحان، لكن أموال الناس تسلم أو تضيع هذا لا ألتفت إليه، يقول: فأنا أرى أن قولي لهذه الكلمة في ذلك اليوم ولم أقل لا حول ولا قوة إلا بالله على أنها مصيبة، إنا لله وإنا إليه راجعون، كوني أفرح بسلامة مالي ولا ألتفت إلى سلامة الناس، يقول: إن هذا من المعاصي التي يُتاب منها.

هذه القلوب -أيها الإخوة الكرام- التي امتلأت بحب الإحسان إلى الناس، امتلأت بحسن الظن بالآخرين، امتلأت بأن يحزن مع الحزين، ويكتئب مع المكتئب، ويبكي مع الباكي ويفتقر مع الفقير؛ أن يشعر أن حاجة الناس هي حاجته، أن يشعر بأن أخطاءهم التي يقعون فيها ربما هو محاسَب عليها إذا لم يصلحها، ولم يقم بها ولم يقم بالعناية بهم إذا وقعوا فيها.

عندما يصل الإنسان إلى مرحلة عالية من الإيمان والتقوى ومحبة الخير للناس يكون كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يدخل أقوام الجنة، قلوبُهم كقلوب الطير بيضاء"، يعني ليس فيها غِلٌّ ولا حسَد.

لما نزل الموت بمحمد بن المنكدر رأوه متهلِّل الوجه، قالوا له: سبحان الله! أراك متهلل الوجه وأنت تموت! قال: لفعلي خصلتين أفرح بلقاء ربي. قيل: ما هما؟ قال: أني لم أتدخل فيما لا يعنيني، وأني ألقى الله وقلبي سليم على الناس. محسن الظن بهم، أحمل أفعالهم وأقوالهم على أحسن المحامل، لا يورث في قلبه حقدا ولا حسدا على أحد منهم.

أسأل الله تعالى أن يصفي قلوبنا على جميع المؤمنين، أسأل الله تعالى أن يرزقنا أخلاقا كأخلاق رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، أيها الإخوة المؤمنون: ذكر الصنعاني في "سبل السلام" عن الزمخشري -رحمه الله- أنه قال: إن الظن يكون على أنواع: فمنه ظن محرَّمٌ وهو أن يسيء المرء الظن برب العالمين، فيتزوج ويقول: أظن أن الله لن يوفقني! يبدأ في تجارته ويقول: أظن أن الله سيصبيني بخسارة! يأتي الموت ويقول: أظن أن الله سيعذبني؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة _رضي الله تعالى عنه-: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه". فلا يجوز أن يسيء المرء الظن بالله تعالى، بل يحسن الظن، فهو -جل وعلا- أهل الفضل والإحسان.

ومن الظن الحرام ظن السوء بالآخرين، وأن يظن السوء بالناس، وأن يحمل فعلهم على المحمل السيئ؛ ومنه ظن جائز، وهو أن يقول الإنسان: أظن أن فلاناً وصل من السفر، أظن أن فلاناً سوف ينجح، أظن أن فلاناً سوف يتوظف.

قال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- لابنته عائشة وهو ينظر إلى بطن امرأته الحامل: يا بنيتي! أظن أنهما أخَواكِ أو أختاكِ، يعني أنها حامل بتوأم، فإما أن يأتيكِ أخ معه آخر، أو تأتيكِ أُخْتٌ معها أخرى، قال: أظن أنهما أخواكِ أو أختاكِ.

ومنه الظن الواجب، وهو أن يظن الإنسان الخير بنفسه فيُقدِم على الخير، أن يظن الخير بأهله، أن يظن الخير بالمسلمين، أن يحمل محاملهم دائماً وأفعالهم على الخير.

وأخيراً -أيها الأحبة الكرام-: إن مما يُذهب سوء الظن من قلوبنا أن تحسن إلى من يسيء إليك، وإلى من تتمنى له السوء أن تتعمد أن تحسن إليه، يقول ابن القيم -رحمه الله-: ولقد رأيت من شيخ الإسلام ابن تيمية عجباً، مات أحد أعدائه ممن كان يطعن عليه في كل موطن ويتكلم في عرضه، ويحذر الناس منه. عالم لكن بينه وبين ابن تيمية شيء في النفس وحقد وتنافس وغيرة.

قال: فأقبلت إليه أبشِّره. أقول "أبَشِّرَكْ تَرَى فْلان الِّي يعاديك ويتكلم في عرضك ويصرف الناس عنك أبشرك مات"، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! تبشرني بموت رجلٍ مسلم، أأفرح لما الأرض تنقص من المسلمين؟ تبشرني بموت رجل مسلم. قال: إنه عدوك. قال: وإن كان، فإنه مسلم. قال: فقام ابن تيمية وذهب إلى أهله وعزاهم ثم قال: أنا لكم مكانه، إن احتجتم مالا أو احتجتم شفاعة أو احتجتم حاجة فأنزلوها بي، أنا لكم مكان أبيكم. هذا في تعامله حتى مع عدوه، فما بالك بتعامله مع صديقه؟.

ومن ذلك الدعاء أيضا لمن تسيء به الظن بصلاح حاله، وأن يعيده الله تعالى إلى الخير، حتى يعلم الله تعالى فعلا من نفسك الخير، والله تعالى قد قال في كتابه الكريم وهو يبين فضيلة ذلك، قال -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58]، ومعناه أن الذين يحسنون إلى المؤمنين والمؤمنات أنهم على خير.

أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم اصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنتَ يا ذا الجلال والإكرام.
 

 

 

 

 

 

المرفقات

الظن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات