حريق المدينة

ناصر بن محمد الأحمد

2012-07-22 - 1433/09/03
عناصر الخطبة
1/ وجوب الإيمان بالغيب 2/ الإيمان بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبيات 3/ ملخص لحادثة حريق المدينة من كتب السير 4/ الفرق بين العقوبة والابتلاء 5/ آثار الذنوب على الفرد والمجتمع.

اقتباس

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى"، هذا مما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم ووقع وهو أمر غريب حقاً أن تخرج نار من الحجاز يُشاهد ضؤوها في أرض الشام من قوتها وعظمتها، إنها آية من آيات الله جل وتعالى، وقد حصل هذا في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة في...

 

 

 

 

إن الحمد لله:

أما بعد: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد أخبرنا في غير ما حديث أنه لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا، أو لا تقوم الساعة حتى يخرج كذا، أو لا تقوم الساعة إلا على كذا. وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم غيب وحق يجب التصديق به، إذا ثبت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذه الأمور الغيبية فيجب اعتقاد حصوله، وهذا جزء من عقيدة المسلم وإيمانه بالغيب.

وهذا الذي أخبر به الرسول الله صلى الله عليه وسلم منه ما حصل وانتهى، ومنه ما هو واقع وحاصل الآن، ومنه ما لم يقع، وسيحصل في المستقبل، فمما حصل وانتهى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببُصرى".

ومما هو حاصل الآن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد"، وقوله: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالضرمةِ بالنار".

ومما لا يقع بعد وسيقع بكل تأكيد قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيغلبهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود".

وقوله:" لا تقوم الساعة حتى لا يُحَجّ البيت"

وقوله: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صفار الأعين عراض الوجوه كأن أعينهم حدق الجراد، كأن وجوههم المجان المطرقة ينتعلون الشعر ويتخذون الدرق حتى يرتبطوا خيولهم بالنخل.

أيها الأحبة في الله: موضوع خطبتنا هذه الجمعة ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى".

أيها المسلمون: هذا مما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم ووقع وهو أمر غريب حقاً أن تخرج نار من الحجاز يُشاهد ضوؤها في أرض الشام من قوتها وعظمتها، إنها آية من آيات الله جل وتعالى. وقد حصل هذا في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة. في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر القصة بتمامها الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه البداية والنهاية، وذكرها أيضاً شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الملقب بأبي شامة في تاريخه وهو ممن كانت في عصره ووقته.

وخلاصة القصة: أن المدينة زُلزلت، وصار الناس يشعرون بتحرك الأرض من تحتهم وبدأوا في سماع أصوات مزعجة من منتصف الأسبوع وبالتحديد يوم الاثنين، وخمسة أيام وهم على هذه الحالة، ارتجت وارتجفت الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، يقول أبو شامة: فارتجت الأرض مرة ونحن داخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حول حجرته حتى اضطرب المنبر وسمعنا صوت الحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف وبدأ الخوف والرعب في قلوب الناس، لا يدرون ماذا يفعلون، يخافون من الخروج ويخافون من البقاء، ثم صار مع الزلزال أصوات شديدة يشبه صوت الرعد.

وأقام الناس على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء تعقب الصوت الذي كان يُسمع زلزال واستمر الوضع على هذا الحال حتى ضحى يوم الجمعة الخامس من شهر جماد الآخرة، لسنة أربع وخمسين وستمائة.

حتى تفجرت الأرض، وخرجت نار عظيمة بحجم مدينة عظيمة شرق المدينة من ناحية وادي شظا تلقاء أُحد، فخاف الناس خوفاً شديداً ومن قوة تلك النار سال الصخر، وذابت الحجارة حتى صارت مثل الآنك، ثم صارت كالفحم الأسود، والنار ترمي بشرر عظيم، حتى سال من شدة هذه النار الوادي، يسيل صخراً وحجارة مذابة، حتى ملأ وادياً مقداره أربع فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض، فإذا جمد صار أسود، وقبل جموده وهو يسير كان لونه أحمر.

ثم صارت النار تخرج دخاناً عظيماً ينعقد في السماء حتى يبقى كالسحاب الأبيض، ثم ظهرت للنار ألسن تصعد في الهواء حمراء كأنها القلعة العظيمة.

عندها فزع الناس ودخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجمع الناس حول الحجرة الشريفة واستجاروا إلى الله، وكشفوا رءوسهم، وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى، وأتى الناس إلى المسجد من كل فجّ ومن النخل وتركوا مزارعهم، وخرج النساء من البيوت وكذلك الصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حجرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصلٍ وتال للقرآن وراكع وساجد، وداع إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب ولزمت الناس مكانها ولم تدخل النار المدينة ثم صار يخرج من النار حصى يصعد إلى السماء ويهوي على الأرض، ويخرج منها كالجبل العظيم ناراً ترمي كالرعد.

فما وصل الحال إلى هذا الحد، والناس هذا يومهم الخامس وهم على هذه الحالة، عندها قام قاضي المدينة وذهب إلى الأمير ودخل عليه وصار يعظه، وقال له: قد أحاط بنا العذاب ارجع إلى الله تعالى، فأعتق الأمير كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، كان قد أخذها ظلماً وطرح المكوس - وهي الضرائب - التي كان قد فرضها على الناس.

 

فقال له القاضي، اهبط هذه الساعة معنا، فنزل معهم الأمير، ودخل معهم المسجد النبوي وباتوا في المسجد تلك الليلة جميعاً مع النساء والأولاد، وكانت ليلة السبت. ثم سال من الوادي المذاب نهر من نار وسد بعض الطرق الداخلة إلى المدينة لكنه توقف، ثم بدأت الأوضاع تهدأ قليلاً قليلاً، إلى أن زالت لكن بقيت آثارها على الأرض يشاهدها الناس، وتاب جميع أهل المدينة ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب.

وعلم الناس أن الذي أصابهم كان بسبب ذنوبهم، وشُوهدت ضوء تلك النار ببصرى بأرض الشام، ورأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار، وتحقق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم أبياتاً من الشعر في هذه الحادثة العظيمة، فيقول قائلهم:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا *** لقد أحاطت بنا يا رب بأساءُ
نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها *** حملاً ونحن بها حقاً أحقاءُ
زلازل تخشع الصم الصلاب لها *** وكيف يقوى على الزلزال صماء
أقام سبعاً يرج الأرض فانصدعت *** عن منظرٍ فيه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه سفن *** من الهضاب لها في الأرض إرساء
كأنما فوقه الأجبال طافيةٌ *** موجٌ، عليه لفرط البهج وعثاء
يُرى لها شرراً كالقصر طائشةً *** كأنها ديمةٌ تنصبُ هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت *** رعباً وترعد مثل الشعب أضواء
منها تكاشف في الجو الدخان إلى *** أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سفعةً في البدر لفحتها *** فليلة التم بعد النور ليلاء
تحدث النيرات السبع ألسنها *** بما يلاقى بها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى *** أن كاد يلحقها بالأرض أهواء
فيا لها أيةٌ من معجزات *** رسول الله، يعقلها القوم الألباء
إلى آخر تلك القصيدة الطويلة.

ومن عجيب قدرة الله جل وتعالى، أنه في نفس السنة وفي نفس الشهر أيضاً أغرق الله تعالى بغداد بالعراق، فقد أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد، وغرق كثير من الناس، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون داراً كلها تهدمت عن بكرة أبيها، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك وفسد من خزانة السلاح الشيء الكثير، وأشرف الناس على الهلاك، وصار الناس يدخلون بالسفن وسط البلدة، وفي أزقة بغداد.

ومما نظمه بعض الشعراء قوله:
سبحان من أصبحت مشيئته *** جاريةٌ في الورى بمقدار
أغرق بغداد بالمياه كما *** أحرض أرض الحجاز بالنار

فنسألك اللهم أن ترحمنا برحمتك، اللهم لا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، أقول قولي هذا...

 

 

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله..

أما بعد: هناك مسألة مهمة جداً تتعلق بما مضى سرده في الخطبة الأولى تشكل على بعض الناس وهذه المسألة هي: هل كل ما يصيبنا هو بسبب ذنوبنا، وبسبب معاصينا وأفعالنا.

فالجواب أن في المسألة تفصيلاً، وهو أنه ينبغي أن نفرّق بين ما يصيب الناس كأفراد وما يصيب الناس بشكل عام.

أما ما يصيب الناس عموماً، وما يحل بالمجتمعات والدول والحضارات، فهذا لا شك أنه بسبب ذنوبهم، وبسبب بعدهم عن منهج الله.

وبسبب المعاصي والكبائر والفواحش الموجودة عندهم، فينزل العقاب العام، والدمار الشامل على ذلك المجتمع، أو تلك الدولة، أو هاتيك الحضارة، ويعم الصالح والطالح الطيب والخبيث، ثم يُبعث الناس بعد ذلك على نياتهم، "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث". (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].

وأما ما يصيب الأفراد، كأفراد، فلا يستلزم أن يكون بسبب الذنوب والمعاصي، قد تكون الذنوب سبباً، وقد تكون ابتلاء من الله جل وعلا، فالعبد قد يكون صالحاً تقياً نقياً، من أهل الصلاح والاستقامة، فحلت به مصيبة فلا يكون بسبب ذنوبه، إنما هو ابتلاء من الله لهذا العبد، لرفع درجاته، أو تطهيره من أشياء سابقة ونحوها.

لكن العقاب العام هذا لا يكون إلا بسبب الذنوب، فما يصيب الأمة الآن، هذه اللكمات التي توجه للأمة صباح مساء، هذه الجراحات التي تنزف في كل مكان، هذا الاضطهاد وهذا التقتيل وهذا الإجرام الذي ينزل بالمسلمين في شتى بقاع الدنيا، فإن كل هذا بسبب ذنوبنا ومعاصينا، وبُعد المسلمين عن الله، اعتقاداً وقولاً وعملاً وحكماً وتحاكماً.

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى: هل تعلم أيها العبد، أنت أيها الفرد، أنك بكل ذنب ترتكبه، وبكل معصية تفعلها وبكل تقصير في حق الله، أنك تساهم وتزيد مصاب الأمة، وأنك مشارك في جراحات المسلمين. هل تعلم هذا؟!

جاءني رجل في يوم من الأيام، وسألني عما يحصل للمسلمين الآن على أرض البوسنة، ثم صار يلتمس الأعذار ويبحث عن المبررات لنفسه أنه ليس بإمكانه أن يقدم شيئاً، فهو رجل بسيط عادي نكرة في هذا المجتمع، كما يتصور هو وليس لديه أموال لكي يساهم في مساعدة المسلمين هناك، وليس بإمكانه الذهاب بنفسه للمشاركة في القتال هناك..

فقلت له -وأقولها لكم جميعاً أيها الإخوة-: يكفينا منك أن تكفّ عن المعاصي، وتتخلص من الذنوب والمنكرات التي أنت واقع بها، وهذه تعتبر أكبر مساعدة منك لإخوانك في البوسنة وغيرها من بلاد الله، احتسب عند الله تعالى أنك تُطهر نفسك، لكي لا تكون سبباً في مُصاب المسلمين في كل مكان.

والله لو أدرك الناس هذه الحقيقة، وامتثلوا لهذا الأمر، وتخلص كل منا عما هو واقع فيه، المرابي ترك الربا، والغاش ترك الغش، والظالم رد المظالم، وطهر الناس بيوتهم مما تعجّ فيها من المنكرات والطامات، لصالح أحوال الناس، والتأمت جراحات الأمة.

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتق الله يا عبد الله، لا تكن سبباً في قتل المسلمين هنا أو هناك، لا تكن سبباً في هتك أعراض المسلمات العفيفات الشريفات، لا تتسبب في تشريد العجائز عن ديارهم، وعن هدم المساجد فوق رءوس المصلين، وعن تقطيع الأطفال أمام أعين آبائهم وأمهاتهم. لا تكن سبباً ومشاركاً بسبب مخالفاتك هنا.. ماذا يدريك أن تنقلب الآية ويأتيك الدور أنت، فيُفعَل بك ما فُعل بغيرك.

فاتقوا الله أيها المسلمون: تمسكوا بدينكم، حافظوا على صلواتكم حيث ينادى لها زكوا أموالكم، طهروا بيوتكم من اللهو ومزامير الشيطان والصور، استروا نساءكم ولا يخرجن سافرات متبرجات، اتركوا الحرام في معاملاتكم، أدوا الأمانات إلى أهلها ردوا المظالم إلى أصحابها.

من كان متلبساً بمعصية فليتب، ومن كان مرتكباً المنكر فليدع، ومن كان شارباً للخمر فلينتهِ، ومن كان مبتلاً بزنى فليستغفر، ومن كان شارباً للدخان فليترك، وكل من كان سالكاً لغير الطريق الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع إلى الجادة، وعليه بالمحجة، فالزائغ عنها هالك خاسر في الدنيا والآخرة.

اللهم لا إله إلا أنت، الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يلد... نسألك اللهم بأسمائك الحسنى.. أن تجنبنا شرور أنفسنا وأن تجنبنا شر الشيطان وشركه، اللهم أصلح بواطنا وظواهرنا وسرنا وعلانيتنا. اللهم اغفر لكل مسلم ومسلمة ميت وميتة.. اللهم اغفر لجميع موتى..
 

 

 

 

المرفقات

المدينة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات