حديث الشفاعة

د. منصور الصقعوب

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/في حديث الشفاعة عظات وعبر 2/إحجام أولي العزم من الرسل عن الشفاعة وسبب ذلك 3/إطالة السجود والثناء على الله من أسباب إجابة الدعاء

اقتباس

ومن أسفٍ أنك ربما رأيتنا نُثْنِي على الخَلْق، وننسى الثناءَ على ربنا، يرفع الرجل يديه يدعو فلا يقدر على جملة ثناء، ويعجز عن لفظة حمد، في حين أنه يدبِّج القصائدَ، ويصوغ العباراتِ في الثناء على فلان وفلان.

الخطبة الأولى:

 

حين يكثر الكلام ويتعدد القيل والقال، تبقى لتلك الأحاديث زينتُها، ويبقى لها رونقُها وبهاؤُها، إنها مقالات المصطفى، وأقوال الرسول المجتَبَى، وعبارة مَنْ لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحَى.

 

لن تجد بعد كتاب المولى -سبحانه- أهدى سبيلًا، ولا أحسنَ قيلًا، ولا أروعَ منطقًا، ولا أتمَّ هدًى، ولا أقوم طريقًا، من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا وهو المؤيَّد بالوحي من السماء، والقائل في سُنَّتِهِ: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه".

 

فلَعَمْرِي إنها لَحياة ما أسعدها، وأوقات ما أهناها، حين تتفيأ ظلال السُّنَّة، وتُبحر في بحور الحكمة، وتعيش مع أقوال رسول الأمة.

 

وما أروع الكلام يصدر من خير البشر إلى خير الأصحاب، لخير أمة، في خير جيل وزمن، اليوم -يا كرام- أحدثكم –وفي جُمَعٍ لاحقة متفرقة كذلك- عن أحاديثَ من السنة طويلة، في كل واحد منها خبرٌ ونبأٌ عظيمٌ، وبيانٌ من الرسول الكريم، ونحن إلى حديثه بشوق، ومن هداياته نستلهم الخيرَ والنورَ، وبأقواله نستنّ، ومن روائع أخباره وقصصه نَنْهَلُ.

 

حديثُ اليوم -يا أحباب محمد صلى الله عليه وسلم- هو عن مشهد من المشاهد العظيمة التي ستقع للناس يومَ القيامةِ، وسيعاينه الناسُ حينها يومئذٍ صغيرُهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم.

 

كأني برسولنا الكريم -عليه أفضل الصلاة والتسليم- وهو جالسٌ يحدِّث أصحابَه بالحديث ويسرده عليهم، والصحابة من حوله، وهو ينقلهم نقلةً عظيمةً، ويحلِّق بهم بعيدًا بعيدًا عن الدنيا، لتحط الرحال في يوم القيامة فيحدثهم عن حدَث من أحداثها، ومَعْلَم من معالمها.

 

(روى الشيخان) عَنْ أَبِي هريرة قال: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ".

 

الله أكبر، تالله ما أصعبه من موقف، أهوال رهيبة، وشمس قريبة، فلكم أن تتصوروا عَرَقًا يُرَى، بل عرقًا يبلغ المنكبَ، بل يصل للمنتصف، بل ربما أغرق إغراقًا.

 

نعم هناك -وفي ذلكم الموطن- اجتمع قرب الشمس كمقدار ميل، وطال الموقفُ حتى بلغ خمسين ألف سنة، وشدة الروع مما سيأتي عليهم، ولذا لا عجبَ أن تضع الحامل، وتذهل المرضع، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.

 

إنه مشهد من مشاهد العظمة وموقف من مواقف الوَجَل، وبرغم كل ذلكم الحرّ أناس في ظل العرش مستظلون، ومن لهب الشمس وحرها وعرقها سالمون، فاللهم اجعلنا منهم.

 

يواصل المصطفى -عليه السلام- حديثَه قائلًا: "فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ فَضَّلَكَ اللهُ بِرِسَالَاتِهِ، وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".

 

اللهم ارحمنا برحمتك، وأنلنا شفاعة نبيك، اللهم صلِّ على محمد.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده...

 

أما بعد عباد الله: إن من أعظم ما يلفت النظرَ في حديث الشفاعة أن الناس وهم يتنقلون بجملتهم، وجموعهم بين الأنبياء طالبينَ منهم أن يشفعوا لهم عند ربهم أن يعجِّل القضاءَ تكون دعوى كل نبي: إن ربي قد غضب الله اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.

 

يا الله، غضبُ الرب في ذلك الموقف جعلَ أولي العزمِ من الرسل يُحْجِمُونَ عن الشفاعة، وكان مما ردهم أن ذكر كلٌّ منهم ذنبًا له، حتى تصل الجموع إلى أفضل الرسل وسيد البشرية، إلى نبينا -عليه السلام-، الذي كان قد اختبأ دعوة مستجابة أُعْطِيَهَا في الدنيا لهذا اليوم، فصلَّى الله عليه ما أرحمه بأمته، ما أحرصه على نجاتهم، أول كلمة قالها حين قيل: "سَلْ تُعْطَ" أن قال: "يا رب أمتي أمتي".

 

ولَعَمْري إن حقه علينا لعظيم، فاللهم صلِّ وسلم عليه.

 

يا كرام: بأي شيء زال غضب الرب في ذلك الموقف؟ بأي شيء تبدلت الحالُ، وتعجل القضاء وأجيب السؤل؟

 

بأمرين اثنين، وعبوديتين كم نقصِّر فيهما.

 

لقد أتى محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه، وخرَّ له ساجدًا، أطال السجود، وانطلق اللسان بالحمد وحسن الثناء لربه، حتى قال ربنا لنبيه: "ارفع رأسك، وَسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفَّع".

 

أين نحن من هذين الجنتين، كم نشكو من الهموم، كم تمر بنا من كُرَب وشدائد في يومنا وليلتنا، كم نقصِّر ونُغضب ربَّنا بمعاصينا، حينها ما أحوجَنا إلى أن نقبل على هذين العملين، وتلكم العبوديتين، أولهما الصلاة والسجود لرب البريات، مسكين ذلك الذي حرَم نفسَه الصلاةَ، محرومٌ ذلك الذي لا يسجد بين يديه، إنه قد فقد أعظمَ وصلةٍ بينَه وبينَ ربه، إنه انغلق عليه أقربُ بابٍ لرضى الله وتلبية المطالب، وإجابة الدعوات، كيف يرجو راحة دنيا ورضى رب وهو مقصِّر في السجود، تارك للصلاة، وإن صلى نقرها نقرًا، أين تذهب عن ربك؟ هنا وفي رحاب الصلاة والسجود وبين يدي ربك تُحَلّ كلُّ المشاكل، وتجاب كل الدعوات، وتسعد سعادة لن تجدها في أي شيء آخر، فاللهم لا تحرمنا لذة الصلاة والسجود.

 

وأما ثاني العبوديتين اللتين بهما أُجيبت دعوة المصطفى وزال غضب ربنا، فالحمد والثناء على الله، وهو -سبحانه- يحب الثناء.

 

ومن أسفٍ أنك ربما رأيتنا نثني على الخَلْق، وننسى الثناءَ على ربنا، يرفع الرجل يديه يدعو فلا يقدر على جملة ثناء، ويعجز عن لفظة حمد، في حين أنه يدبِّج القصائدَ، ويصوغ العباراتِ في الثناء على فلان وفلان.

 

يا قوم: ربنا يحمد الحمدَ والثناءَ، وهو أهل الثناء، فمن أحق منه بذلك، احمدوه -سبحانه- على كل نعمة، على توالي مِنَنه، كم من بلية فرَّجَها وكربة كشفها ومصيبة دفعها ونعمة جلبها، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، في صبحاكم ومسائكم، في كل أحوالكم، ربكم يُنعم ويُجزل، فالهجوا له بالحمد في كل أوقاتكم.

 

وبعدُ -يا كرام-، فهذه وقفة موجزة مع حديث عظيم، وموقف مهول، كلنا سنكون فيه من الشاهدين، حدثوا بحديث الشفاعة أولادَكم، ذكِّروا به أصحابَكم، فبه ترقّ القلوبُ، وبه تُحِبّ الناسُ نبيَّها، وبه يعرفون قدرَ السجود للرب المعبود، وبه يعرفون شيئًا من أحوال يوم القيامة.

 

اللهم ارحمنا برحمتك، وأنلنا شفاعةَ نبيك، اللهم صلِّ على محمد...

 

 

المرفقات

حديث الشفاعة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات