حب الله: معناه، وآثاره، ونتائجه

الشيخ د أحمد بن علي الحذيفي

2025-01-03 - 1446/07/03 2025-01-04 - 1446/07/04
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/المعنى الحقيقي للحب الصادق 2/المكانة السامية لحب الله تعالى 3/عِظَم محبة النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا 4/الحب الصادق لله يستلزم طاعته تعالى

اقتباس

إنَّ محبةَ اللهِ -جلَّ شأنُه- هي روحُ العبادةِ، وحقيقتُها وسرُّها، فإنَّه لا يستحق أحدٌ كمالَ ذلك الشعورِ وبذلَ منتهاهُ، وبلوغَ غايتِه إلَّا أن يكون محبوبًا لذاته، ومحبوبًا من كل وجه، وليس شيء يُحَبُّ لِذَاتِه ويُحَبُّ مِنْ كلِّ وجهٍ إلا اللهُ -جل وعز- وحدَه...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي اختصَّ بعضَ عبادِه بِحُبِّه، واجتباهم بمنة معيته وقربه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة مقر بلسانه موقن بقلبه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى الْهُدَى على بصيرة من ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأتباعه وأوليائه وجنده وحزبه.

 

أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وأحسن الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار، و(إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)[الْأَنْعَامِ: 134].

 

واعلموا -رحمكم الله- أن تقوى الله عندَه هي ميزان الكرامة، وأنها استقامةُ السرِّ، وسرُّ الاستقامةِ؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الْحُجُرَاتِ: 13]، التقوى سُلَّم إلى مدارج الكمالات، ومرتقًى إلى معارج الكرامات.

 

معاشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: إن الحُبَّ الصادق الذي يغمر القلوب الشفيفة، من أرق المشاعر الإنسانيَّة وأرقاها، وأصدقها وأنقاها، ولَكَمْ عبَّر البلغاءُ وحبَّر الفصحاءُ فيه من بدائع القول ومحاسن الكَلِم، ما يحرك سواكن العاطفة ويستثير كوامن الشعور، إلا أن هنالكم نوعًا من الحُبّ يتسنَّم مراتبه ويعتلي منازله؛ لأنَّه يتسامى عن قيود الماديات والدنيويات، ويتعالى عن حدود الشهوات الدنيات، ولأنَّه يُفيض ذلك الحبَّ المنهمرَ من القلب إلى مبدعِ ذلك القلب وخالقه؛ إنه حب الله -تعالى- وتقدَّس؛ ذلكم الحب الذي يهب على النفوس في هجير الحياة كالنسيم العليل، وتتفيأ القلوب في مسيرها ظله الظليل.

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إنَّ الحُبَّ هو أحد أَصْلَيِ العبوديةِ التي تقوم على ساقين وتطير بجناحين، كمال الحب، وكمال الذل والانكسار والخضوع؛ فالعبادة ما يجمع كمال الأمرين معًا، ولهذا لا تكون العبادة إلا الله.

 

إنَّ محبةَ اللهِ -جلَّ شأنُه- هي روحُ العبادةِ، وحقيقتُها وسرُّها، فإنَّه لا يستحق أحدٌ كمالَ ذلك الشعورِ وبذلَ منتهاهُ، وبلوغَ غايتِه إلَّا أن يكون محبوبًا لذاته، ومحبوبًا من كل وجه، وليس شيء يُحَبُّ لِذَاتِه ويُحَبُّ مِنْ كلِّ وجهٍ إلا اللهُ -جل وعز- وحدَه؛ فلذلك لا يستحق أحد العبودية ولا كمال المحبة سواه.

سهرُ العيونِ لغيرِ وجهِكَ باطلٌ *** وبُكاؤُهُنَّ لغيرِ فَقدِكَ ضائعُ

 

ولأنَّه -جلَّ شأنُه- هو المسدِي للنعم على الحقيقة، فهو الفاتح لأبوابها والموصِل لأسبابها؛ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، والنفوس الكريمة مجبولة على حب من أحسن إليها، فكيف إذا كان هو الذي منه كل إنعام وإحسان؟! و(هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[الرَّحْمَنِ: 60-61]، ولذلك المعنى الجليل قال -صلى الله عليه وسلم-: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ما استعطت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت"؛ فالعبد بقوله في استغفاره: "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي" يجمع بين ملاحظة منة الله عليه، ومطالعة عيب النفس ونقصان العمل؛ فملاحظة صنوف المنن تحمله على كمال المحبة لموليها ومسديها، ومطالعة عيب النفس ونقصان العمل تحمله على كمال الذل والانكسار والافتقار والتوبة كل وقت؛ فهو يرى أنَّه بالغ الغاية من الغاية من التقصير في حق من غرق في بحار نعمته، وجر أثواب منته، فمهما اجتهد في حق مولاه فإنَّه يقر بأن ذلك ما كان إلا بفضل منته عليه، وتوفيقه إليه، فحاله كما قال القائل:

أُسجِي له دُرَرَ الثناءِ وإنَّما *** أسجي له ما كان من نعمائه

كالبحر يمُطِرُه السحابُ وما له *** فضلٌ عليه؛ لأنَّه من مائِه

 

ولَمَّا كان نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق بالله، وأكملهم عبودية لمولاه، كان أكثرهم له استغفارًا وتوبةً وإنابةً، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "سمعتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: واللهِ إني لَأستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، هذا وهو -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ربه ما تقدَّم مِنْ ذنبِه وما تأخر، ولكنَّها المحبة الصادقة التي تترجم تلك العبودية الكاملة من ذلك النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-.

 

إخوةَ الإيمانِ: إن المؤمن حين يتفكر في جليل صفات الله، وجزيل مننه عليه يتعاظم في قلبه حبُّه، حتى يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وحالَ إِذٍ يذوق حلاوة الإيمان، وينعم بأنس العبودية، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثٌ ‌مَنْ ‌كُنَّ ‌فِيهِ ‌وَجَدَ ‌حَلَاوَةَ ‌الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، ‌وَمَنْ ‌أَحَبَّ ‌عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، ‌وَمَنْ ‌يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ"؛ فالاستكثار من أسباب محبة الله في الحقيقة إنما هو ازدياد من أسباب النعيم في الدنيا، ونهل من موارد السرور، وإقامة بديار الأنس.

لو أنَّ قلبي وَفَاهُ محبتَه *** أَحَبَّهُ بقلوبِ العالمينَ معَا

 

جعَلِني اللهُ وإيَّاكم من أهل حبه، وأحلنا منازل قربه، وبارك لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، وجعل محبته وتقواه لنا خير زاد وجنة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان عفوًا غفورًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي اطمأنتِ القلوبُ بذِكرِه، ولهجتِ الألسنةُ بجميل حمده وشكره، وسع كل شيء بعلمه ورحمته، وظهَر في كلِّ أمرٍ دقيقٍ حكمتُه، وَصَلَّى الله على نبينا محمد خيرته من خلقه وصفوته من بريئته، وعلى آله بيته وعترته وصحابته، ومن اهتدى بهديه وسلك سبيله واستنَّ بسُنَّتِه.

 

أمَّا بعدُ، معشر المؤمنين والمؤمنات: فإنَّ حقيقة المحبة لا تُعبِّر عنها الكلماتُ، ولا تحدُّها العباراتُ، بل إنها تزيدها خفاءً وجفاءً، فحقيقة المحبة وجودها، ومعناها ظهور آثارها، ولا توصف المحبة بوصفٍ أظهرَ من لفظها، ولا بمعنًى أبينَ من وجودها، إنها سرٌّ كامنٌ ومعنًى باطنٌ، تبدو في شواهدها وآثارها، ولا يحاط بحقيقتها وأسرارها، ولكنَّها مع خفاء حقيقتها وكنهها أظهَرُ مِنْ أن تُوصَف وأشهرُ مِنْ أن تُعرَّف؛ لأنَّها تتبدَّى في شواهد الطاعة والانقياد للمحبوب، وتتجلَّى في إيثار مرغوبه على كل مرغوب.

ما الحُبُّ إلا طاعةٌ وتجاوزٌ *** وإن أكثروا أوصافه والمعانيَ

سمحتُ بروحي في هواه رخيصةً *** ومَنْ يهوَ لا يُؤْثِر على الحُبِّ غَالِيَا

 

إن الحب الصادق لله يستلزم طاعة الله، وطاعة الله لا تكون إلا باتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا اتَّبَع المؤمنُ المحِبُّ لربِّه حبيبَ ربِّه -صلى الله عليه وسلم- فقد بشَّرَه اللهُ في كتابه ببشارتين؛ محبتِه -سبحانه- له، ومغفرتِه لذنوبِه، قال جلَّ شأنُه لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 31]، اللهمَّ إنَّا نسألك حُبَّكَ وحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وحُبَّ كلِّ عملٍ يُقَرِّبُنا إليكَ، ويُقَرِّبُنا إلى حُبِّكَ.

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إن هذا اليوم الأغر من الأيام تُندَب فيه كثرةُ الصلاة والسلام على سيد الخَلْق وصفوة الأنام، قال -صلوات الله وسلامه عليه-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثِرُوا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، ورحمتك للعالمين، سيدنا ونبينا محمد، عدد ما وسعه علمك وأحصاه كتابك وخطه قلمك، اللهمَّ صل وسلم عليه في الأولين، وصل وسلم عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، اللهمَّ وارض عن الصحابة أجمعين، وعن الأئمة المهديين الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن آل بيتك أجمعين، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، اللهمَّ وارض عَنَّا واشملنا بعفوك وفضلك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعل هذا البلد المبارك آمِنًا مطمئنًا مصونا محفوظًا يا ربَّ العالمينَ، وعم بذلك ديار المسلمين.

 

اللهمَّ وَفِّقْ وليَّ أمرِنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ، ووليَّ عهدِه لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبِرِّ والتقوى، اللهمَّ وفقهما لِمَا فيه خيرُ البلادِ والعبادِ، ولِمَا فيه النفعُ والخيرُ والسدادُ، ولِمَا فيه صلاحُ الدنيا والدينِ يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك أن تحفظ المسلمين وأن تنصرهم في كل مكان، اللهمَّ إنَّا نسألك أن ترفع شأنهم تحت كل سماء وفوق كل أرض، اللهمَّ انصر إخواننا في فلسطين، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا ربَّ العالمينَ.

 

عبادَ اللهِ: استديموا فضل ربكم بشكره، واحفظوا نعمته باتباع أمره، والهجوا بدعائه وذكره، سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

حب الله معناه، وآثاره، ونتائجه.doc

حب الله معناه، وآثاره، ونتائجه.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات